لديّ رسالة واحدة أبعث بها إلى أولئك الذين يراقبون أو يشاركون في المواجهة الدائرة بشأن رفع سقف الديون الفيدرالية الأميركية: خافوا، وخافوا بشدة. فالإخفاق في التوصل إلى اتفاق، لا سيما خلال هذه المرحلة من الدورة المالية والاقتصادية، ستكون له تداعيات وخيمة.
المخاطر الناجمة عن أن المأزق السياسي سيضطر الحكومة الأميركية إلى التملص من التزاماتها، تتزايد باستمرار كلما مرّ الوقت من دون مفاوضات أو إحراز تقدم. والأسوأ من ذلك، أن الطرفين (الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي) اتخذا مواقف تبدو متشددة. عززت قدرة رئيس مجلس النواب الأميركي كيفين مكارثي على تمرير مشروع قانون الميزانية (بالحد الأدنى من الأصوات المطلوبة)، اعتقاد الجمهوريين بأنه باستطاعتهم أن يظفروا بتنازلات من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، والتي تعد في الحقيقة لعنة على تلك الإدارة.
سيسفر التشريع الجمهوري عن إلغاء العديد من المبادرات السياسية الرئيسية التي قام بها بايدن، بما في ذلك إعفاءات قروض الطلاب وتمويل دائرة الإيرادات الداخلية لتحسين الامتثال الضريبي. وسيضيف متطلبات عمل جديدة إلى برامج الرعاية الصحية على غرار "ميدكيد"، ويقلص الإنفاق الحكومي الاختياري المحلي. وفي المقابل، سيرفع سقف الدين بمقدار 1.5 تريليون دولار، ليستمر العمل به حتى استنفاد المبلغ أو حتى 31 مارس، أيهما يأتي أولاً، ما يعطي الجمهوريين الفرصة للمطالبة بتنازلات أكبر في الربيع المقبل.
ضغوط كبيرة
لا يرغب الديموقراطيون بالتفاوض في ظل الضغوط. تحتج إدارة بايدن، بطريقة منطقية، بأن الولايات المتحدة تحتاج إلى الوفاء بالتزاماتها؛ وفي حال عدم رضاء الكونغرس الأميركي عن طريقة زيادة مديونية البلاد جراء سياسات الضرائب والإنفاق، فإنه ينبغي عليه التعامل مع الموقف من خلال عملية وضع الميزانية السنوية. يفسر ذلك رفع سقف الدين باستمرار تقريباً (مع استثناء ملحوظ خلال 2011) دون طلب تنازلات في الميزانية، بما فيها مرات عدة أثناء إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب.
سقف الدين الأميركي خطر تتعامى عنه وول ستريت
تكمن فكرة المواجهات الكلامية في الصمود لأطول فترة ممكنة، بهدف إخافة الخصم حتى يتنازل. ومن ثم، سيتواصل على الأغلب الخلاف حتى اللحظة الأخيرة، عندما تنفد قدرة وزارة الخزانة الأميركية على الاستمرار في تسديد ديونها كاملة. ستكون هذه اللحظة غالباً إما أوائل يونيو، أو في أواخر يوليو، أو في بدايات أغسطس. تحصل الحكومة الفيدرالية على إيرادات ضخمة في منتصف يونيو، عبر مدفوعات ضريبة الدخل للشركات والأشخاص، ولذلك فإنه في حال بلغت وزارة الخزانة هذا السقف، ستملك الأموال الكافية لستة أسابيع أخرى، أو ما يقارب ذلك.
من الممكن تماماً وقوع صدام شامل، مع الأخذ بالاعتبار مدى اتساع الهوة بين الطرفين حول سبل تقليص عجز الموازنة في المستقبل. يحبّذ الديمقراطيون رفع الضرائب على الأثرياء وتحسين معدل الامتثال الضريبي، في حين أن الجمهوريين يفضلون خفضاً كبيراً في الإنفاق الاختياري المحلي. ويتفقان على أمر واحد، وهو عدم المساس بالضمان الاجتماعي والرعاية الصحية. في الوقت ذاته، لا يملك مكارثي مجالاً كبيراً للمناورة. ففي حال طرحه أي تشريع على مجلس النواب بعد موافقة الديمقراطيين عليه في مجلس الشيوخ، قد يفقد وظيفته كرئيس للمجلس.
أولوية السداد
في حال بلغت الديون السقف المحدد لها، لن تلجأ إدارة بايدن غالباً إلى حيل على غرار إصدار عملة معدنية بقيمة تريليون دولار، أو حتى تفعيل التعديل الرابع عشر (ينص على "عدم جواز جعل صلاحية الدين العام للولايات المتحدة محل تشكيك"). عوضاً عن ذلك، ستعطي وزارة الخزانة الأولوية للالتزامات المالية، ووضع سداد الفائدة والقيمة الاسمية للأوراق المالية الحكومية باعتباره أولوية لتفادي التخلف عن سداد الديون السيادية، وتأجيل أنواع أخرى من المدفوعات (مثلاً، مستحقات موظفي الحكومة والشركات المتعاقدة).
حتى مع تفادي التخلف عن سداد الأوراق المالية الصادرة عن وزارة الخزانة بفضل هذه الأولوية، سيكون الضرر واسع النطاق. ستواجه الأسواق، التي لا تزال تعالج تداعيات سلسلة من حالات الإفلاس المصرفية، أزمة فعلية، بعدما توقعت التوصل إلى اتفاق في اللحظة الأخيرة كما هو معتاد. ستهوي أسعار الأسهم والسندات بشكل حاد، وستتعرض عوائد سندات الخزانة لاضطرابات شديدة في ظل قلق المستثمرين إزاء المدة التي ستوفر لهم أولوية الدفع الحماية خلالها، وربما تنسحب صناديق الاستثمار المشتركة من الديون الحكومية بصورة جماعية.
كذلك، فإن التوقف فجأة عن السداد، سيؤثر بشدة أيضاً على اقتصاد يوشك على الدخول فعلاً في الركود. إذا حدث ذلك مع أوائل يونيو المقبل، فلن يكون الموقف سيئاً، لأنه ستكون هناك فترة راحة فورية ومؤقتة مع دخول مدفوعات الضرائب خلال منتصف يونيو. وفي حال حدث ذلك أواخر يوليو أو أوائل أغسطس، وهو المرجح، فسيكون حجم خفض الإنفاق ضخماً ومستمراً. في يوليو وأغسطس الماضيين، فاق عجز الموازنة الشهري للحكومة الفيدرالية 200 مليار دولار. وسيشكل تخفيض هذا المبلغ تقشفاً مالياً قدره 10 نقاط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي تقريباً. إذا لم يُبد المشرعون مرونة وبشكل سريع، فإن اقتران ذعر السوق مع تقشف إجباري، سيدفع الاقتصاد إلى الانهيار.
لا يسعني إلا تمني أن تسود العقلانية. لكن مع الأخذ بعين الاعتبار الانقسام السياسي الكبير، والتصويت بفارق ضئيل في مجلسي النواب والشيوخ، فإنه من غير الواضح كيف يمكن أن يحدث ذلك.