الألمنيوم هو نجم صناعة المعادن متعدد المواهب، حيث تجده في كل مكان يدعم الحياة الحديثة بدءاً من "أيفون" ووصولاً إلى الطائرات النفاثة، وحتى علب المشروبات.
لم يكن ملفتاً على مر السنين لكونه مجرد تراب، فخام البوكسيت أحد أكثر العناصر الطبيعية وفرة في قشرة الأرض. لذا لم يعول المضاربون المتفائلون على صعود سعره حين تراجع مخزون الصين منه، كما كان حال مخزوناتها من كافة السلع الأساسية الأخرى تقريباً، لأن جمهورية الشعب تنتج أيضاً كميات كبيرة من الألمنيوم.
كانت هناك مزحة متداولة في القطاع تقول: كي تجني مالاً من الألمنيوم عليك بيعه لتركب موجة صعود سعر أي سلعة أخرى. لكن لم يعد الأمر كذلك. أسفرت مكافحة التغير المناخي، في ظل تهافتها على المعدن الخفيف مع إغلاق المصادر القذرة المستخدمة في توليد الكهرباء التي ساهمت في إنتاجه، عن انقلاب في التجارة. أدى ذلك لعرقلة الإمدادات، خاصة في الصين. كانت النتيجة أن سوق الألمنيوم تشهد أعلى أسعارها منذ 30 سنة.
تأتي أهمية زيادة الأسعار نتيجة الانتشار الكبير للألمنيوم في كل مكان من الحياة العصرية، فهو أكثر المعادن غير الفلزية استعمالاً ويتخطى بذلك النحاس. سيصل صعود سعره لكل شيء نتيجة تواجده في كل مكان، وهو ما يزيد الضغوط التضخمية على مستوى العالم ويقلص هوامش الأرباح لدى عدة شركات تصنيع. سيعتمد كل شيء من سياسات الحكومات وصولا لأسعار الفائدة الأساسية في البنوك المركزية وحتى فاتورة بقالتك بدرجة هائلة على الألمنيوم.
دفعات مؤلمة
تجاوزت سعره الفوري للمعدن في بورصة لندن للمعادن 3300 دولار للطن لأول مرة منذ يونيو 1988. ما هو أسوأ من ذلك اضطرار المصنعين لدفع مبالغ إضافية مؤلمة تفوق سعر بورصة لندن للمعادن للحصول على المعدن نفسه. على سبيل المثال، يتكبد مستهلكو قضبان الخام الأوروبيون، وهو أحد أشكال الألمنيوم المتداولة بطريقة كبيرة، علاوة سعر تصل لنحو 1500 دولار للطن، وهو ما يتجاوز بأربع مرات متوسط الفترة بين 2000 و 2020.
لا يُرجح أن يكون هذا حدث غير متكرر. كان المتداولون في الماضي معتادين على البيع حين يتخطى السعر 2500 دولار للطن، ويشترون حين يهبط إلى ما دون 2000 دولار للطن. حالياً، ما يزالون يشترون حتى مع ارتفاع السعر لما ينيف على 3000 دولار للطن. ما كان في الماضي يعتبر سقفاً للارتفاع ربما أصبح حالياً بمثابة حد أدنى.
كل هذا جريرة الكهرباء. يستهلك تحويل خام البوكسيت إلى معدن نقي قدراً كبيراً من الكهرباء، حيث يبلغ متوسط استهلاك الكهرباء لإنتاج طن واحد من الألمنيوم نفس استهلاك الكهرباء لدى أسرة أمريكية متوسطة على مدى عام كامل، لذا تُبنى مصاهر الألمنيوم في مناطق توافر الكهرباء بأسعار رخيصة، حيث تتوافر الطاقة الكهرومائية في كندا وسيبيريا، أو الطاقة الحرارية الأرضية لدى أيسلندا. باتت الصين على مدى عقدين رغم ذلك المكان المفضل جراء توافر محطات الطاقة، التي تعمل باستخدام الفحم وتقدم كهرباء رخيصة تماماً، لكن على حساب تلويث الكوكب.
بعد الأولمبياد
سيطرت الصين منذ 2005 على الطاقة الإضافية من صهر الألمنيوم حول العالم بالكامل تقريباً. بلغت حصتها من الإنتاج العالمي ما يصل إلى 58% في2021 في سوق يبلغ حجمه 67 مليون طن. لم تعد الصين ترفع طاقة الصهر لديها، لأن بكين تسعى للحدّ من استهلاك الطاقة وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون. دفعت الصين العام الماضي عشرات المصاهر لتقليص الإنتاج لترشيد الكهرباء بسبب عجز فيها. يترقب السوق حالياً ما إذا كان أي من تلك المصاهر سيعاود العمل بعد دورة الألعاب الأولمبية.
قلصت بعض المصاهر في أوروبا أيضاً من الإنتاج مع نهاية 2021، جرّاء صعود كبير بأسعار الكهرباء، وتتوقف عودتهم للعمل على أسعار الغاز الطبيعي والكهرباء في القارة.
يزداد الطلب جزئياً كنيتجة لجهود مكافحة التغير المناخي. الألمنيوم هو المعدن المفضل لتخفيف وزن المركبات وهو ما يؤدي لزيادة في الأميال المقطوعة لكل جالون تستهلكه محركات الاحتراق الداخلي، أو إطالة مدى البطارية في المركبات الكهربائية. عندما سعت "فورد موتور" لجعل طرازها الشهير "إف 150" أكثر كفاءة، رفعت من نسبة استعمال الألمنيوم في تصنيع الهيكل، وهو ما أسفر عن خفض الوزن بنحو 320 كيلوغرام. بالنسبة لعملاء الألمنيوم الجدد، بمن فيهم أمثال شركة "تسلا"، فإن اتباع نهج :"لابد من الحصول على المعدن بأي ثمن"، يعني دفع الطلب إلى الصعود أكثر.
تضييق للتوازن
انتقل سوق الألمنيوم إلى عجز بما يفوق مليون طن خلال 2021، وهو اتجاه يُرجح استمراره هذا العام. يعني وجود عجز تراجع المخزونات بطريقة سريعة، حيث وصل حجم المخزونات في بورصة لندن للمعادن في 2014 مستوى الذروة عند نحو 5.5 مليون طن، فيما هبطت المخزونات إلى ما دون 800 ألف طن في الفترة الحالية. كما أن مخزونات الصين ومواقع أخرى بدأت بالتراجع. تُقدر مجموعة "سي آر يو" (CRU) الاستشارية أن المخزونات ستكفي لتغطية 36 يوماً من الطلب فقط في نهاية 2022، وهو ما يُعدّ مستوى قياسياً من التراجع.
إن لم تستأنف الصين تشغيل جزءاً من سعتها الإنتاجية المحلية، أو لم يبنَ مصهر جديد في موقع آخر في آسيا، سيتوجب على السوق دفع الطلب للتراجع عاجلاً أم آجلاً. لا توجد إمكانية لسحب المخزونات بالوتيرة الحالية ببساطة لمدة أطول. يرجُح، مع ثبات معدل الاستهلاك عند وتيرة أعلى مما سلف، أن يستمر صعود السعر. حين اضطرت السوق لتضييق الإمدادات عبر ارتفاع السعر لاستعادة توازن السوق، تخطى سعر الألمنيوم الفوري أكثر من 4000 دولار للطن. ما تزال هذه نقطة صالحة للمقارنة بعد مضيّ 35 عاماً عليها.