يشيع التركيز على طول الأمد كمبدأ للاستثمار بحكمة. ينطبق ذلك عادة على أساليبه الكمية مثل دراسة عوائد فئات الأصول العالمية تاريخياً على مدى 10 و20 عاماً، فضلاً عن النظر إلى أداء قطاعات أو شركات محددة في العام السابق، وإلى توقعات المحللين لأدائها في السنة المقبلة.
قدم تقرير حديث من "مركز جامعة كامبريدج من أجل مستقبل الديمقراطية" بالمملكة المتحدة فرصة نادرة للمستثمرين للتفكير في الاقتصاد ككل على مدى العقد المقبل.
جمع مؤلفو التقرير مجموعة كبيرة من بيانات عالمية تشير لبعض المزاعم التي لا تتردد كثيراً، مثل أن المد الشعبوي أو القومي أو عدم المساواة تحول وأصبح يتراجع بسرعة أمام عالم أكثر تماسكاً ومساواةً وسلاماً وازدهاراً في العقد المقبل.
ماذا علَّمتني أسوأ تداولاتي عن الاستثمار؟
لست متفائلاً حالماً لأعيد ترتيب أوزان محفظتي كاملة على أساس توقع عشرة أعوام من السلام والحب والتفاهم. غير أن الأعوام العشرة الأخيرة شهدت تركيزاً كبيراً على مقاومة الشعبوية والحرب والاكتئاب والنزعة القومية، لذا ربما حان الوقت لأن أُوسع من اهتمامي. لا أعتقد أن مؤلفي التقرير، أو أي شخص آخر، يملك بلُّورة سحرية، لكنهم يعرضون علينا سيناريو معقولاً يستند إلى معلومات.
أعرف أن اقتصاد ما بعد جائحة كورونا سيكون مختلفاً للغاية عن 2019، لذلك فإن التفكير ضروري فيما قد يحدث مستقبلاً. عندما انهار النظام المالي العالمي بين عامي 2007 و2009، كان يبدو أن الحكومات تستحوذ على صلاحيات واسعة جديدة.
ابتكرت البنوك المركزية مجموعة أسباب وقتية كي تتضخم ميزانياتها متجاوزة كل تصورات الماضي، وتنتقي الرابحين والخاسرين دون سلطة قانونية واضحة.
مصالح سرية؟
تجاهلت الحكومات قيود الموازنة العامة وطالبت بصلاحيات طارئة تقترب من صلاحيات زمن الحرب، كما أجلت المحاكم معظم الأحكام لدراسة التغييرات.
بدا حينئذ أن الانتفاضات الشعبوية مثل "حركة حفل الشاي" وحركة "احتلوا وول ستريت"، هي عروض جانبية للإلهاء، بينما يتولى كبار المسؤولين إدارة الأزمة.
من أهم الأفكار الشعبوية هي أن العالم منقسم إلى ناس عاديين ونخب فاسدة، أي "الدولة العميقة" لدى اليمين، و"دعاة تفوق العرق الأبيض" عند اليسار، وأن إرادة الشعب تعلو على القواعد الراسخة وحكم القانون، وأن إرادة الشعب تعبر عنها الاحتجاجات ومعارك الشوارع فضلاً عن الانتخابات.
هل أبيع أسهمي حين ترتجف الأسواق؟ إليكم بعض النصائح
يعزو الشعبويون عرقلة التطور الطبيعي إلى مصالح خاصة سرية، ويعتقدون أن معلومات ضرورية تُخفى عمداً عن الشعوب.
نجد بالعودة إلى الوراء أن الشعبوية هي المشكلة الكبرى وليست أفعال الحكومة. تصاعدت النزعة القومية في مختلف أنحاء العالم ودخل التوجه العولمي في مرحلة تراجع دفاعي.
توقف الناس عن اقتباس مقولة صن تزو "إن ذروة فن الحرب هي إخضاع العدو دون قتال" لأن مقولة كارل فون كلاوسيفيتز إن "الحرب هي مواصلة السياسة بوسائل أخرى" بدت أكثر صلة بالواقع.
نبعت التحولات السياسية الهامة حينذاك، مثل زواج المثليين وحركة #أنا_أيضا (#MeToo) وحياة السود مهمة وإلغاء ميزانية الشرطة، من الأسفل وفاجأت السياسيين في المؤسسة الرسمية.
استحواذ على السلطة
تناقضت السياسات المحورية تناقضاً صارخاً مع المواقف السياسية السابقة في كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وكذلك الآراء المنشورة منذ زمن طويل لقادتهم الحزبيين. كانت أمور مماثلة تحدث في دول ديمقراطية أخرى في مختلف أنحاء العالم.
كانت إجراءات الحكومة استجابة لجائحة كورونا في 2020 و2021 شبيهة بالاستحواذ على السلطة في الفترة بين 2007 و2009. لكن يبدو أنها أتت بنتائج عكسية وفق تقرير كامبريدج. فبدلاً من أن تثير رد فعل شعبوي، يبدو أنها قضت على الشعبوية. يبدو أن الجائحة تحشد وتعبئ الناس حول قضية إنسانية مشتركة رغم انتقادات مسؤولي الصحة العامة.
مديرو الاستثمار يتأهبون لشبح الركود التضخمي
يبدو أن القادة الشعبويين قد أساءوا إدارة الأمور، كما ينظر إلى النخبة التقليدية من القادة على أنها نخبة تترنح وغالباً تفشل، لكنها تبذل أقصى ما تستطيع وتستحق الدعم.
يصعب أن نرى ذلك عندما نقرأ عناوين الأخبار في الولايات المتحدة عن المعارضين للقاحات وحركة "أوقفوا السرقة" المؤيدة لترمب والأزمة الحزبية المحتدمة في واشنطن، لكن التقارير المسحية العالمية التي تقارن بدقة مع الاتجاهات السائدة في 2019، تشير إلى أن هذه الأمور هي سكرات الموت للماضي ولا تعبر عن المستقبل. كما كان الوضع في الفترة بين 2007 و2009، عناوين الأخبار الرئيسية قد تكون مضللة والعروض الجانبية هي المؤشرات الهامة.
تشير عناوين رئيسية أخرى إلى أن الجائحة زادت من عدم المساواة. وفي حين يبدو أن ذلك حقيقي وفق بعض المقاييس، لا يستطيع الشعبويون استغلال مسألة عدم المساواة إلا بين الجماعات المتماسكة كما هو حال الفلاحين في الأرياف مقابل العمال الصناعيين في المناطق الحضرية، أو العمال في مواجهة الملاك، أو المستأجرين مقابل أصحاب العقارات، أو جماعة عرقية أو عنصرية ضد جماعة أخرى.
شبح السلطوية
يبدو أن الجائحة قد جعلت هذه الجماعات أكثر مساواة في المتوسط على مستوى العالم كاملاً. ربما تزداد جوانب أخرى من عدم المساواة تقاس اعتماداً على معايير إحصائية بدلاً من أن تبنى على جماعات ذات هويات اجتماعية قوية، لكن لا يمكن استغلالها لاكتساب قوة سياسية.
إن تقرير كامبريدج ليس تقريراً متفائلاً بالكامل. فمع تراجع الشعبوية يبدو أن هناك تقبلاً متنامياً للزعماء المتسلطين وتراجعاً في احترام الحقوق المدنية والديمقراطية. رغم أن ذلك اتجاه سيئ، فسيستغرق بضعة أعوام – إن حدث – حتى يتطور إلى مشكلة كبيرة بحجم الشعبوية النشطة كاملة النضوج خلال العقد الثاني من الألفية. كما قد يتلاشى جانب كبير من مشكلة السلطوية مع انحسار الجائحة وهدوء مخاطر المواجهات العسكرية.
يبدو السيناريو الذي طرحه التقرير سيناريو ملائماً بالنسبة لأسواق السندات والعملات، ولكن أقل ملاءمة بالنسبة لأسواق الأسهم. رغم كل الأضرار الاقتصادية للسياسات الشعبوية، مثل الرسوم الجمركية وقيود الهجرة والسياسات المعادية للبنوك، كان العقد الثاني من الألفية عصراً ذهبياً بالنسبة لأسواق الأسهم. حيث تعني الحرب والتهديد بها صنع الأسلحة، كما أن نزع أنياب النخبة هو نوع من التحرير، فيما تصعب الأزمات الحزبية زيادة الضرائب وتعظم من صوت الشركات الكبيرة.
قد يفرض إجماع النخبة السلطوية علاجاً للأزمات مثل زيادة الضرائب، خاصة على المستثمرين والشركات، ويُرسي ضوابط قوية تتعلق بحماية البيئة، إضافة لزيادة أجور ومزايا العمال وفرض قيود إضافية على جهات الإقراض وملاك العقارات.
رغم أن هذه السياسات تمنح مزايا لبعض الفئات، فإن لها بوجه عام أثراً سلبياً على المستثمرين في الأسهم.
معظم المستثمرين اليوم يركزون على حماية أنفسهم من عواقب الشعبوية والانحياز الحزبي: ومنها التضخم والمصادرة وعجز مالية الحكومة والحرب والقيود التجارية. هذه أخطار حقيقية فعلاً، لكن العكس أيضاً يمثل أخطاراً حقيقية وهو أي إجماع سلطوي عالمي لا يحترم الحقوق والانتخابات. على المستثمرين أن يحذروا من عدم خوض الحرب الأخيرة.