بعد مرور نحو عامين على انتشار الوباء والتعرض لأكبر صدمة اقتصادية منذ ما يقرب من قرن من الزمان، يسيطر القلق على محافظي البنوك المركزية مع اقتراب إنهاء الإجراءات الاستثنائية التي اتخذوها. على الرغم من التحديات والضغوط التي تدفعهم للتخلص من الأموال الرخيصة للغاية الناتجة عن سياسات التيسير الكمي وخفض الفائدة التي وصلت في بعض الأحيان لتصبح بالسالب، إلا أن تلك الخطوات ليست جاهزة الآن.
هناك أسباب قوية تفسر بطء خطوات إنهاء السلطات النقدية لسياسات التيسير. فلم يعد المسؤولون واثقين من أن التضخم "مؤقت" حسب وصف "الاحتياطي الفيدرالي"، وفي المقابل، لم يقتنعوا أيضاً أن ارتفاع الأسعار سيستمر، وأن هناك حاجة لتدخل قوي في الوقت الحالي، حيث يشعر صانعو السياسات بالقلق من حاجة سوق العمل لوقت حتى يستعيد عافيته من تداعيات كوفيد19.
أضف إلي ذلك الأخذ في الاعتبار التحدي الأكبر الذي واجه صانعو السياسات قبل عامين من ضرورة دفع التضخم لمستويات مقبولة خاصة في ظل تباطؤ النمو، بجانب القلق من الأوضاع في الصين، عقب تحذير لي كه تشيانغ، رئيس "مجلس الدولة" هذا الأسبوع من "ضغوط هبوطية".
تشديد واسع
بداية، هناك تشديد واسع محتمل لم ينطلق. حيث امتنع بنك "إنجلترا" في قرار مفاجئ عن رفع الفائدة التي ألمح إليها بعض كبار المسؤولين منذ شهور، ولم يكن تصويت "لجنة السياسات" المكونة من 9 أعضاء قريب من ذلك التلميح، بل جاء بنسبة 7 مقابل 2، ليعكس تقيد البنك بمخاوف متناقضة خاصة بارتفاع التضخم، مقابل تباطؤ النمو الاقتصادي.
إذا لم يتمكن الصقور من تحقيق أهدافم في لندن، فإن ذلك يثير تساؤلات جدية حول توقعات المستثمرين التي سادت الشهر الماضي بشأن رفع البنوك المركزية الفائدة مبكراً.
استخدام المكابح في اقتصادين هذا الأسبوع يؤكد أن التوقعات الكبيرة أصبحت متواضعة على أرض الواقع، حيث تخلص "الاحتياطي الأسترالي" يوم الثلاثاء الماضي من أحد ركائز الأزمة الثلاثة، وتوقف عن تثبيت العائد على السندات الحكومية لأجل 3 سنوات بالقرب من الصفر، وهو أسهل إجراء يمكن اتخاذه لوقف اجراءات التيسير، لكن سياسات التيسير الكمي مستمرة ومعدلات الفائدة تستمر بالقرب من الصفر.
وبعدما أشار الحاكم، فيليب لوي إلى توقعات المتداولين ارتفاع الأسعار العام المقبل، خفض "الاحتياطي الفيدرالي" في اليوم التالي مشتريات الأصول الذي طال انتظاره كما كان متوقعاً، كذلك لم يستبعد رئيس الاحتياطي، جيروم باول التوقعات بقرب رفع الفائدة عقب اكتمال عمليات الشراء على الأرجح في يونيو، حيث بذل قصارى جهده لتأكيد ضرورة الصبر والتشديد على أن المشهد يحتاج لبعض الإصلاحات.
آثار سلبية
كانت هناك وجهة نظر معارضة مهمة، حيث عارضت كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي فكرة اتجاه أسعار الفائدة بمنطقة اليورو للارتفاع في 2022، وقالت يوم الأربعاء الماضي في لشبونة: "رغم ارتفاع التضخم حالياً، فإن توقعات التضخم على المدى المتوسط لا تزال ضعيفة، وبالتالي فإن الشروط الثلاثة من غير المرجح أن تكتمل العام المقبل".
يقول البنك المركزي الأوروبي، إنه رغم توقع استمرار تسارع التضخم لفترة أطول مما كان متوقعاً في السابق سوف تنتهي ضغوط الأسعار بمجرد انتهاء مشاكل سلاسل التوريد العالمية.
سيكون للتحول نحو سياسة نقدية أكثر تشدداً دون التنسيق فيما بين البنوك المركزية على مستوى المنطقة أثاراً سلبية كبيرة، حيث يتوقع "جي بي مورغان" رفع نصف البنوك المركزية البالغ عددها 31 التي يتابعها البنك الفائدة من أدنى مستوياتها أثناء الوباء لينتهي الأمر بخفض المعدلات العالمية في المتوسط بنحو ثلث نقطة مئوية فوق أدنى مستوياتها في ديسمبر. لكن من المرجح استمرار المسار الحذر حتى نهاية العام المقبل، حيث يتوقع "جي بي مورغان" مزيد من رفع الفائدة، لكنها ستبقى عند مستويات أقل بنحو 71 نقطة أساس عن متوسطها في عام 2019.
كتب بروس كاسمان، من "جيه بي مورغان" في مذكرة بحثية الأربعاء الماضي: "المسار البطيء لتطبيع السياسة النقدية يعتمد على التوقعات بأن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لن يبدأ مبكراً" في رفع الفائدة.
انسحاب صعب
قد يكون من السهل بدء تطبيق سياسة تيسير قوية، لكن من الصعب الخروج منها، لأن البنوك المركزية أصبحت من كبار المشترين للأوراق المالية، وأحد أكبر اللاعبين في سوق السندات، ما يجعل الانسحاب محفوف بالمخاطر. لذلك يجب أن يكون التخفيض تدريجي للغاية، وفي معظم الحالات يحتاج التيسير الكمي إلى خفض الشراء قبل رفع معدلات الفائدة القياسية، وقد يحتاج ذلك لفترات طويلة حتى مع تراجع التضخم للمستويات المستهدفة.
شبّه راغورام راغان، الأستاذ في جامعة شيكاغو والمحافظ السابق في "الاحتياطي الهندي" التيسير الكمي بـ"الدوامة". وقال في مؤتمر نظمه "الاحتياطي الهندي" في جنوب أفريقيا الشهر الماضي، إن السياسة التيسيرية "من السهل الدخول فيها والخروج منها أصعب بكثير".
ربما حان الوقت للتوقف عن الإشارة إلى أن عمليات شراء الأصول ورفع الفائدة سياسة نقدية غير تقليدية، أو كما يطلق عليها أداة لتعديل الأوضاع، حيث تحتاج البنوك المركزية بعض الوقت للتخلص من الإرث الذي تحملته منذ مطلع العام 2020، إضافة إلى التقيد بأحداث الأزمة المالية العالمية في 2007-2009، التي تمثل لهم "عرّاب فكري" لهذا العصر. وتؤكد قرارات الأسبوع الجاري لصقور رفع الفائدة الحاجة لوقت قبل إتمام ذلك. كان من المفترض على الأسواق قبل أن تضغط على البنوك المركزية أن تقول هل فاتنا ذلك؟.