بلومبرغ
تحوَّل مجال التكنولوجيا المالية في الصين من الركود إلى الريادة العالمية في مجال المدفوعات الرقمية بمكاسب قيمتها 46 تريليون دولار سنوياً، ما ترك أغلب المستثمرين الدوليين يراقبون في حسرة من الكواليس، والآن تخوض الهند ثورتها التكنولوجية المالية الخاصة، وانطلق السباق لاقتناص قطعة من قصة النجاح.
وفي ظل ارتفاع المدفوعات والقروض الرقمية في ثاني أكثر دولة كثافة بالسكان بمعدلٍ من بين الأسرع في العالم، فإن الأموال تتدفق إلى قطاع التكنولوجيا المالية الهندي بوتيرة غير مسبوقة.
وسيبرز الصعود الحاد للقطاع الشهر الجاري مع سعي شركة المدفوعات الهندية "باي تي إم" - المدعومة من عمالقة أجانب مثل مجموعة وارن بافيت "بيركشاير هاثاواي"، و"علي بابا غروب هولدينغ" الصينية، وشركة ماسايوشي سون "سوفت بنك غروب" - لتقييمٍ يناهز 20 مليار دولار، فيما سيكون أكبر طرح أولي للجمهور على الإطلاق في الهند.
الأكبر بالهند.. صندوق أبوظبي السيادي يستثمر في طرح "باي تي إم" العملاق
مكاسب هائلة
وبعض اللاعبين الأجانب في الهند على وشك رؤية مكاسب من استثماراتهم، وقد تشهد "بيركشاير هاثاواي"، التي استثمرت 300 مليون دولار في "باي تي إم" في 2018 مقابل حصة بنسبة 3% تقريباً، ارتفاع قيمة حصتها بنسبة 70% إذا تمكنت الشركة من اقتناص تقييم 20 مليار دولار. كما سيستفيد داعمو "باي تي إم" الدوليين الآخرين كذلك.
وتعزز بنوك استثمار مثل "غولدمان ساكس غروب"- الذي يعمل على طرح "باي تي إم" - فرقها في الدولة وتستفيد من مجموعة من الصفقات ونوبة جمع التمويلات.
ازدهار مرتقب لسوق الأسهم الهندية بسبب الخصخصة وحملة الصين
ويُغذِّي حماس المستثمرين ملايين المستهلكين الهنود مثل نيتو غور، وهي خادمة في مومباي تكسب حوالي 2700 دولار سنوياً ولم تستخدم حسابها المصرفي منذ عشر سنوات، لكنها تبنت "غوغل باي" و"باي تي إم" أثناء الوباء، وتعتمد حالياً على التطبيقات في جميع مشترياتها تقريباً، وهو تحوُّل جذري في اقتصاد تهيمن عليه النقدية.
طفرة المدفوعات الرقمية
وارتفعت مدفوعات التجزئة الرقمية على واجهة المدفوعات الموحدة (UPI) في الهند - النظام الوطني للتكنولوجيا المالية الذي نال استحساناً كبيراً والذي يربط أكثر من 230 بنكاً و20 تطبيقاً تابعاً لأطراف ثالثة - خمسة أضعاف تقريباً خلال العامين الماضيين إلى 41 تريليون روبية (546 مليار دولار)، وفي الوقت نفسه، فإن حملة الصين المستمرة على التكنولوجيا المالية تزيد جاذبية الهند.
"باي تي إم" للمدفوعات الرقمية تخطط لأكبر طرح عام أولي في الهند
واستثمرت شركات رأس المال المغامر والملكية الخاصة 6.4 مليار دولار منذ بداية لعام الجاري وحتى الآن، في شركات التكنولوجيا المالية الهندية، أي ثلاثة أضعاف ما جذبته الشركات الصينية النظيرة، وفقاً لشركة الأبحاث "تراكسن".
وتنضم شركات التكنولوجيا المالية المحلية مثل "باي تي إم" - التي أسسها رائد الأعمال القادم من قرية صغيرة، فيجاي شيكار شارما، والذي علَّم نفسه الإنجليزية من خلال الاستماع لموسيقى الروك - إلى "غوغل باي"، و"أمازون باي"، و"فون بي" المملوكة لـ"ولمارت" في التطلع إلى ما وراء المدفوعات الرقمية وتتحدى البنوك التقليدية من خلال دخول مجالات الأعمال المربحة مثل تقديم القروض وصناديق الاستثمار المشترك وحتى جمع الودائع.
قيود محلية
وتعاني شركات التكنولوجيا المالية من بعض القيود: الشركات المحلية تطلب منهم الارتباط ببنك أو كيانات تنظيمية، ومع ذلك، تصبح شركات التكنولوجيا المالية، المسلحة بتكنولوجيا الحوسبة السحابية المعقدة وبيانات العملاء لتقييم المخاطر، شريكات مهيمنات بشكلٍ متزايد للبنوك في هذه الدولة صاحبة الـ1.4 مليار نسمة، ما ساعدهم على الوصول لعملاء جدد بتكلفة منخفضة للغاية.
قال راغاف ماليا، نائب رئيس الخدمات المصرفية الاستثمارية العالمية في بنك "غولدمان ساكس" في مقابلة: "ما فعلته الحكومة بشبكة التكنولوجيا المالية المشتركة في شكل واجهة المدفوعات الموحدة هو أمر استثنائي.. ويعادل إنشاء نظام الطرق السريعة الوطنية في الولايات المتحدة، ويقودنا للتفاؤل بشدة بشأن الفرص المحتملة في الهند".
واجهة المدفوعات الموحدة
أثار النمو الهائل للتكنولوجيا المالية في الهند قلق البعض من أن المستهلكين الذين لا يتمتعون بالذكاء المالي قد يقترضون أكثر من اللازم، ما أثار المزيد من الدعوات لتشديد الرقابة.
وهناك أيضاً حالات متزايدة من عمليات الاحتيال في المدفوعات عبر الإنترنت والتي لا تستطيع السلطات التحقيق فيها أو الحد منها نظراً لوجود عدد كبير جداً من الضحايا بين المستخدمين لأول مرة.
مع ذلك، يقول المتفائلون إن قطاع التكنولوجيا المالية في الهند يوفِّر آفاقاً أفضل للّاعبين الأجانب مما قدمته الصين في أي وقت مضى.
ويرجع الفضل في ذلك إلى حدٍ كبير إلى واجهة المدفوعات الموحدة، التي أنشأتها مجموعة من البنوك الخاصة في عام 2016 بدعم من البنك المركزي الهندي، والتي تساعد حالياً في تحفيز المزيد من المنافسة لأن مجموعة متنوعة من المؤسسات المالية يمكنها الاستفادة منها.
حملة الصين
وعلى عكس الصين، التي تُصلح تقريباً كل جانب من جوانب قطاع التكنولوجيا المالية لديها، في الوقت الذي تتخذ فيه إجراءات صارمة ضد شركات مثل "آنت غروب" المملوكة لجاك ما، فإن اللوائح في الهند كانت حتى الآن شفافة ويمكن التنبؤ بها.
ومن المرجح أن تجتذب شركات التكنولوجيا المالية الهندية استثمارات إضافية تتراوح بين 3 إلى 4 مليارات دولار على مدار الـ18 شهراً القادمة، بسبب التنظيمات الصينية الأكثر صرامة، وفقاً لما قاله أنوج كابور، العضو المنتدب للخدمات المصرفية الاستثمارية في أعمال "يو بي إس غروب" في الهند.
قال كابور: "لقد أثرت اللوائح الصينية المفاجئة بشأن الشركات الرقمية على ثقة المستثمرين في قطاع التكنولوجيا الرقمية بشكل أساسي.. ومن الواضح أنها بدأت بالفعل في تحويل معنويات الاستثمار بشكل إيجابي نحو الهند، وسيتطلع المزيد من المستثمرين إلى الهند".
تجاوز الصعاب
وتتوقع شركة "برايس ووتر هاوس كوبرز" (PWC) أن تصل المعاملات الرقمية في الهند إلى 3 تريليونات دولار بحلول مارس 2025 من أكثر من 1.3 تريليون دولار حالياً.
وفي قلب الصعود السريع للصناعة الهندية، تأتي الثقة بالنفس من قبل رواد الأعمال، مثل، شارما، مؤسس "باي تي إم"، والذين اضطروا إلى التغلب على تحديات بلدٍ شاسع يضم ملايين المتاجر المحلية، ومعظمهم حديثو العهد بقبول المدفوعات الرقمية.
وقال شارما في مقابلة عام 2019 مع مجلة "بلومبرغ ماركتس": "عليك أن تكون أكثر اعتماداً بكثير على حدسك للنجاة في هذا البلد.. وإذا بنيت شيئاً في الهند، فيمكنك البناء في أي مكان في العالم، ماذا في رأيك أول شيء يتعلمه طفل هندي؟ إن محطة الحافلات ليست المكان الذي ستتوقف فيه الحافلة".
اكتتاب عام ضخم
وقال مستثمرون مثل "آنت" و"سوفت بنك" إنهم سيبيعون أسهماً في الطرح الأولي للجمهور لـ"باي تي إم"، ولم يستجب مساعد بافيت للرسائل المطالبة بتعليق.
وحتى مع التمويل من الاكتتاب العام العملاق، الذي يسعى لجمع ما يصل إلى 2.4 مليار روبية، يواجه شارما منافسة شرسة من منافسين عالميين مثل "غوغل" و"ولمارت"، ويتحكم كل من "غوغل باي"، و"فون بي" في أكثر من 85% من معاملات البيع بالتجزئة على منصة "UPI"، ويعود ذلك جزئياً لسهولة الاستخدام وعروض استرداد النقود للمستخدمين.
ومع ذلك، تمتلك "باي تي إم" الحصة الأكبر من سوق مدفوعات التجار في الهند. وعلى عكس منافسيها "غوغل باي" و"أمازون باي" و"فون بي"، تتمتع "باي تي إم" بميزة توسيع أعمال المدفوعات الخاصة بها لتشمل الخدمات المالية من خلال بنك المدفوعات الخاص بها، حيث يمكنها الاحتفاظ بالأرصدة النقدية للعملاء، والذي يرتبط بشكلٍ جيد بالمحفظة الإلكترونية، ما يسمح لها بتقديم القروض والتأمين وفي نفس الوقت تكون سوقاً لتذاكر الطيران أو الأجهزة الإلكترونية.
وفي السنة المالية المنتهية في مارس 2021، حققت "باي تي إم" إيرادات قدرها 28 مليار روبية، وتقلصت خسائرها إلى 17 مليار روبية من 29.4 مليار روبية العام السابق.
ومن المقرر فتح الطرح الأوّلي للجمهور لـ"باي تي إم" لطلبات الاكتتاب في 8 نوفمبر، ومن المتوقع أن يبدأ تداول السهم في وقتٍ لاحق من الشهر الجاري.
الخدمات البنكية
يوجد في الهند حوالي 825 مليون شخص متصلون بالإنترنت عبر هواتفهم الذكية ويدخل مئات الملايين الجدد على الإنترنت، ويرغب أكبر اللاعبين بقطاع المدفوعات الرقمية في التوسع بالخدمات البنكية التي قد تحقق أرباحاً أكبر لهم.
وتقدم "فيسبوك" قروضاً صغيرة لا تتجاوز 6720 دولاراً للشركات الصغيرة من خلال شبكتها، ويمكن لعملاء "غوغل باي" حالياً فتح وديعة مباشرة في بنك "إكويتاس سمول فاينانس" المحلي، وتتعاون "غوغل" مع شركة "سيتو" الناشئة للتكنولوجيا المالية للسماح للمستخدمين بفتح ودائع مجمدة لأجل بنقرة واحدة بسعر فائدة أفضل من تلك التي تقدمها البنوك الكبيرة.
وأشارت "أمازون" إلى دخولها في قطاع إدارة الثروات من خلال الاستثمار في شركة التكنولوجيا المالية الناشئة "سمول كيس تكنولوجيز"، ودعمت أيضاً شركات ناشئة في مجالي التأمين والإقراض.
وكتب ساجيث سيفاناندان، رئيس المدفوعات في آسيا والمحيط الهادئ في "غوغل"، في مدونة حديثة: "لقد فتح نجاح "UPI" والمدفوعات الرقمية العديد من الفرص الجديدة أمام قطاع الخدمات المالية لإقامة شراكات عميقة مع اللاعبين في مجال التكنولوجيا المالية".
في هذه الأثناء، ظهرت مجموعة من الشركات الناشئة المحلية الصغيرة في مجال التكنولوجيا المالية، بعضها مثل "ستوكريد"، التي تقدم قروضاً صغيرة للطلاب تصل إلى 11 دولاراً، بينما تقدم أخرى تغطية تأمينية بقيمة 2 روبية لركوب سيارات الأجرة.
وطوَّرت شركة "بهارات بي" الناشئة في مجال التكنولوجيا المالية، ومقرها نيودلهي، نظام رمز الاستجابة السريعة العالمي (QR code)، الذي يسمح للتجار بقبول المدفوعات الرقمية من العملاء من خلال تطبيق دفع من اختيارهم.
وتقلب هذه التغيرات القطاع البنكي التقليدي رأساً على عقب، ويمكن للبنوك التجارية كسب المزيد من العملاء بسرعة، مع توفير تكاليف الوكلاء الميدانيين والفروع، لكنهم يزدادون اعتماداً على شركات التكنولوجيا المالية لاكتساب العملاء.
الإقراض الرقمي
ويشترط البنك المركزي الهندي بالفعل ربط جميع أنواع الإقراض بكيانٍ منظم مرخص، ما يعني أن المقرضين الرقميين بحاجة إلى الارتباط مع أحد البنوك أو ممول غير مصرفي.
ومع ذلك، من المتوقع أن يرتفع الإقراض الرقمي في الهند إلى 350 مليار دولار بحلول عام 2023، ليشكل حوالي نصف إجمالي قروض التجزئة، وفق تقديرات مجموعة بوسطن الاستشارية.
ويزيد ذلك مخاطر الاحتيال الإلكتروني وممارسات التحصيل القسرية، إذ تستهدف بعض شركات التكنولوجيا المالية الأصغر العملاء الضعفاء مالياً، والذين لا يمكنهم الاقتراض من البنوك، وتشمل الجوانب السلبية الأخرى الاقتراض المفرط من قبل العملاء الأقل ذكاءً من الناحية المالية.
"لقد جعلت طرق الاقتراض السريعة الوصول أسهل للأموال، ولكن تم إبقاء البنوك في مركز أمناء المخاطر، وهو ما يسمح بمزيد من التدقيق في القروض" وفقاً لما قاله فيفيك بيلجافي، رئيس ممارسة التكنولوجيا المالية في شركة "برايس ووترهاوس كوبرز" في الهند. لكنه قال إن مواكبة السرعة الخاطفة للابتكار الرقمي تتطلب تعزيز الإشراف التنظيمي.
على الرغم من المخاطر، يعد الإقراض الرقمي ضرورة في بلد يبلغ تعداد سكانه 1.3 مليار نسمة، حيث يُقدِّر البنك الدولي أن حوالي 10% فقط من البالغين يمكنهم الحصول على قروض رسمية. ويملأ ازدهار التكنولوجيا المالية في الهند تلك الفجوات وغيرها.
وقالت جور، الخادمة في مومباي: "أُفضل الحصول على أموالي عبر "غوغل باي" أو "باي تي إم" إذ يمكنني أيضاً شراء البقالة والخضروات باستخدام رموز "QR" في المتاجر.. لم يعد أحد يستخدم النقود بعد الآن".