يُعتبر تفسير تقرير الوظائف الأمريكية الذي صدر أمس الجمعة بأن الآثار العكسية لفيروس "كوفيد-19" تقوض مؤقتاً عملية التعافي الاقتصادي المتماسكة والقوية، تفسيراً حميداً ومريحاً نسبياً. لكن التفسير الأقل قبولاً يتمثل في أن سوق العمل باتت أكثر عرضة لمخاطر رياح الركود التضخمي.
مع الأسف، لا يسمح التقرير الخاص والصاخب بالوصول إلى استنتاج حاسم ومحكم. وقد يُسر بذلك مجلس الاحتياطي الفيدرالي على المدى القصير رغم تعقيداته السياسية طويلة المدى، أما بالنسبة للكونغرس فإن الآثار التي تترتب على التقرير أقل تناقضاً، وتستدعي اتخاذ إجراءات عاجلة بشأن الاستثمارات المادية والاستثمار في البشر.
بلغت أعداد الوظائف الجديدة في شهر سبتمبر 194 ألف وظيفة، وهو عدد يقل كثيراً عن متوسط توقعات المحللين الذي بلغ 500 ألف وظيفة. وبينما تم تعويض العجز عن طريق إجراء مراجعة إيجابية على أرقام الأشهرالسابقة، التي تصل إلى 169 ألف وظيفة، ظلت الحصيلة الإجمالية مخيبة للآمال بالنسبة إلى اقتصاد يتطلع لتحقيق انتعاش قوي يحتوي الجميع.
أضف إلى ذلك أن انخفاض نسبة المشاركة في قوة العمل يعزز حالة الإحباط، حيث بلغت هذه النسبة 61.6% في شهر سبتمبر، بما يقل كثيراً عن مستواها قبل انتشار جائحة كورونا. ومن حسن الحظ أن من يعملون فعلاً حصلوا على زيادة في الأجور (بنسبة 4.6% سنوياً مقارنة مع 4.3% خلال شهر أغسطس)، كما أنهم يعملون عدداً أكبر من الساعات. وفي نفس الوقت، انخفض معدل البطالة انخفاضاً حاداً إلى 4.8% من 5.2%، مع تراجعه بدرجة كبيرة بشكل خاص بين العمال السود (إلى 7.9% من 8.8%).
تأثير "دلتا"
تقدم سلالة دلتا المتحولة من فيروس كوفيد تفسيراً للتناقضات والألغاز التي ينطوي عليها التقرير. ويرى أصحاب ذلك التفسير أن زيادة المخاطر الصحية التي ارتبطت بهذه السلالة سريعة العدوى أدت إلى إبعاد وتجنيب عمال كان توظيفهم ممكناً. ولم يكن ذلك فقط بسبب تجنب مخاطر العدوى، بل إن القلق بشأن المدارس ورعاية الأطفال يلعب دوره أيضاً.
أما التفسير الآخر لما ينطوي عليه التقرير فهو أشد إثارة للقلق، بسبب أنه يشير إلى خلل في أداء سوق العمل. إنه تفسير يقوم على تحليل بنية جانب العرض ويبني نتائجه على ملاحظة ذلك المزيج من زيادة الوظائف الشاغرة إلى مستوى قياسي، مع تدهور نسبة المشاركة في قوة العمل وأعداد الوظائف الجديدة المخيبة للآمال.
ويعتبر هذا التفسير أن عملية توظيف العُمال في الوظائف الشاغرة قد اختلت وفسدت بسبب عوامل هيكلية مثل عدم تناسب المهارات، وصعوبات الحركة والتنقل، وانخفاض الرغبة في العمل. وهي أمور تعزز المخاوف بشأن رياح الركود التضخمي، خاصة عند تناولها بالتحليل إلى جانب أزمات سلاسل التوريد واضطراب حركة النقل.
لا يحسم هذا التقرير مسألة التفسير الأكثر منطقية في هذه المرحلة، وسوف نحتاج إلى مزيد من البيانات، لأنه ينطوي على كثير من الضوضاء والتناقضات بين نتائج التقارير المسحية في القطاع العائلي والمؤسسي بالإضافة إلى التعديلات الموسمية الغريبة التي يستخدمها.
خطط الفيدرالي
واضح أن هذا التقرير يساهم في تيسير عمل مجلس الاحتياطي الفيدرالي وخططه في المدى القصير، كما يتبين من ردود الفعل المباشرة في أسواق الأسهم والسندات، حيث يفتح الباب واسعاً أمام المزج بين خطة البنك المركزي بتخفيض شراء الأصول شهرياً بداية من شهر نوفمبر مع بث إشارة قوية إلى أن هذا الإجراء السياسي لا ينطوي على اتجاه متشدد بزيادة أسعار الفائدة لاحقاً.
غير أن هذا التأثير الجيد في المدى القصير لا يضمن الإبحار بسلاسة في المستقبل، خاصة بالنسبة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الذي تمسك بقوة بدعواه أن ارتفاع "معدل التضخم مؤقت وانتقالي" رغم تراكم الأدلة على عكس ذلك. إنها مسألة وقت حتى تُعبّر الأسواق عن تأثيرات ذلك تعبيراً قوياً. وفي هذه الأثناء، قد تتحول رياح الركود التضخمي، الذي يعتبر حالياً خطراً محتملاً لا واقعاً فعلياً، إلى قوة مهيمنة إذا ارتكب الاحتياطي الفيدرالي خطأ أكبر في سياسته النقدية.
وخلافاً لواقع البنك المركزي، لا يوجد في تقرير الوظائف أي تعقيدات سياسية بالنسبة للكونغرس، حيث تكشف أزمات جانب العرض التي تواجه الاقتصاد، والتي يعتبر سوق العمل واحداً فقط من مكوناتها، عن ضرورة التحرك بسرعة وحسم إلى دعم البنية المادية والبشرية حتى يخرج الاقتصاد من فترة الجائحة محققاً انتعاشاً قوياً ومستداماً وشاملاً.