بلومبرغ
منذ أغسطس، تصطفُّ السيارات في موقف بالقرب من مبنى مكتبي وسط مدينة "سبوكان"، إذ يتوقف المشاة ليأخذوا صوراً تُظهِرهم وهُم يرتدون الكمامات أمام جدارية مرسومة حديثاً لشعار "Black Lives Matter" (حياة السود مهمَّة)، فقد رسم فنانون محلِّيُّون مختلفون أحرف الجرافيتي الملونة.
هذا السيناريو كان من الصعب أن نتخيَّله في يونيو، عندما امتلأت شوارع مدينة "سبوكان" بعناصر ممن نصَّبوا أنفسهم ميليشيا، استجابةً لمظاهرات حركة "Black Lives Matter".
وعن ذلك يقول "جينجر إيوينغ"، المدير التنفيذي لمنظمة الفنون غير الربحية "Terrain"، الذي قاد مشروع الجدارية: "التدفُّق الهائل للدعم تخطى كل ما تخيَّلته. أشاهد الأشخاص يستغرقون 45 دقيقة، أو ساعة لطلاء كل حرف، وأشاهدهم يُجْرون محادثات بينهم، الآباء يتحدثون مع أبنائهم. وفي الواقع أعتقد أنَّ هذه الجدارية ستبقى حتى بعد الجائحة، لتمثل مساحةً يجتمع فيها الناس، ويتحدثون عن كل الأمور الضرورية، التي ليس من السهل الحديث عنها ".
إنَّ تأثير الحركة التي اجتاحت الولايات المتحدة لمناهضة عدم المساواة العرقية، التي انبثقت عقب مقتل "جورج فلويد" على يد شرطة "مينابولس" في مايو، امتدت لتؤثر في السياسة، ونتائج الانتخابات بشكل ظاهر وملموس، إلا أنَّ آثار الحركة امتدت أيضاً لتترك علامات حية في شوارع المدن، ظهرت من خلال موجة منسابة من فن الشارع ورسوم الجرافيتي.
ويمكن القول، إنَّ بداية هذه الموجة الفنية، ظهرت مع أول جدارية رمزية أُهدِيَت لفلويد بالقرب من زاوية شارع مينابولس حيث قُتل، وانتشرت الرسومات الجرافيتية بعدها حاملة معها رسائل وصوراً عن موضوع العدالة العرقية في عدة بلدات ومدن في أنحاء الولايات المتحدة وخارجها، إذ انتشرت الأعمال التي تكرِّم "جورج فلويد"، وتتحدث عن قضية العدالة العرقيَّة في أماكن بعيدة جداً مثل كراتشي في باكستان، وإدلب في سوريا، ونيروبي في كينيا، وأثينا في اليونان.
وكان من ضمن الأعمال الفنية الأكثر تأثيراً جرافيتي لشعار "Black Lives Matter" ممتدٍّ على مسافة 50 قدماً (القدم = 0.30 متراً)، ويمكن رؤيته من الجوِّ، بأحرف صفراء كبيرة. وقد رُسِم في يونيو على الأسفلت بالقرب من ساحة "لافاييت" في واشنطن بعد ساعات قليلة فقط من استخدام إدارة ترمب للقنابل المسيلة للدموع لإبعاد المتظاهرين.
هذا العمل ألهم عشرات الجداريات المتنوِّعة التي صارت تولد على الطرقات لتوصل رسائل مماثلة في عشرات المدن، من ضمنها مدينة "رالي" في منطقة "غرينوود" التاريخية في "تولسا"، وكل أحياء مدينة نيويورك الخمسة.
وفي ولاية "نيفادا" الصحراوية، بمدينة "بلاك روك"، تعاون فنَّانون لرسم شعار "Black Lives Matter" باستخدام الإطارات على مساحة أربعة أميال (الميل = 1.6 كم)، وذلك بالقرب من موقع مهرجان "Burning Man" الشهير.
ومن بين الأعمال المؤثِّرة بشكل خاص، جدارية ابتكرها طلاب جامعة Prairie View A&M تحت إشراف عميدة كلية الهندسة المعمارية "إخلاص صابوني"، إذ رسم الطلاب على الجزء ذاته من الطريق الذي شهد إحدى القضايا الأخرى التي استهدفت أصحاب البشرة السمراء في الولايات المتحدة، فقد أوقفت الشرطة "ساندرا بلاند" في 2015 بشكل ذرائعي، لتوجد لاحقًا مشنوقة في زنزانتها.
ويُعَدُّ انفجار فنِّ الشارع المرتبط بالعدالة العرقية في الولايات المتحدة جزءاً من الزيادة الكبيرة في الجداريات، ورسوم الجرافيتي والفن العام الذي يميِّز المدن العالمية، التي تشهد تغييرات كبرى حالياً نتيجة جائحة فيروس كورونا.
كان فنان الشارع ورائد الأعمال "إيفان ماير"، أحد المشاركين بهذه الظاهرة، ومؤسِّس شركة "Beautify" التكنولوجية التي يقع مقرُّها في مدينة "سانتا مونيكا". وتقدِّم الشركة منصَّة شبيهة لـ"Airbnb" ، فستعيض عن ربط المستأجرين بأصحاب العقار، كما هي حال "Airbnb"، بأن تربط "Beautify" الفنانين بالمنظمات المجتمعية، والناشطين، وأصحاب العقارات، على المستوى المحلي. ويقول ماير: "زاد الطلب خلال فترة كوفيد واحتجاجات (Black Lives Matter)، وهو ما فتح مزيداً من المساحات للأعمال الفنية، وزاد من الحماس لها".
وتبسط الشركة التي أسَّسها "ماير" العوامل اللوجستية المرتبطة بتنفيذ هذه المشاريع الجمالية، مما يسمح لمالكي العقارات بإيجاد رسَّامي الجرافيتي لتعيينهم بسهولة.
وأثبتت هذه المنصَّة أهميتها بشكل خاصٍّ خلال الأشهر الأخيرة في المدن التي شهدت اعتصاماتٍ وإقفالاً تاماً، مما ترك المحال التجارية المغلقة مع كثير من المساحات الجرداء التي قد تستفيد من بعض الألوان والرسوم المبهجة.
وما أعقب ذلك من التوترات المرتبطة بالانتخابات الرئاسية، فقد جلب معه مؤخراً فيضاً آخر من الفن السياسي المحمَّل برسائل عن الانتخابات. ويضيف ماير: "استطعنا أن نستجيب بشدَّة لاحتياجات المجتمع، سواء كانت طلاء واجهات المحلات المغلقة، أو تقديم الموادِّ للمنظمات لتنفيذ المشاريع الفنية، وإنجاز المزيد".
وعقَّب أيضاً: "يفهم الناس أنه يمكن لفن الشارع أن يخبر بقصة ويقدِّم تاريخاً كقطعة ثقافية. ويرجع إلينا أن نختار العيش في بيئة مملَّة ولا طعم لها، أو أن نستخدم مساحاتنا لنعبِّر عن أنفسنا كأشخاص، لا سيَّما خلال هذه الفترات المهمة في التاريخ".
ويوافقه في ذلك "نيكولا لامبرت"، وهو فنان مقيم في ميلووكي ومؤلِّف "تاريخ فن الناس في الولايات المتحدة: 250 عاماً من الفنِّ في حركات العدالة الاجتماعية"، الذي يقول، إنَّ رسائل الشارع هي أكثر من مجرد لفتات رمزية. و"لامبرت" هو عضو أيضاً في مجموعة "أصوات الفنانين" المتناغمة في أهدافها مع مجموعة "أصوات الحدود" التي تعبر عن حقوق المهاجرين، ويضيف: "عندما ترسم جدارية، فإنَّ ذلك يُظهِر الصوت المجتمعي، ويضخِّم قوَّة الحركات الشعبية".
وقد ساعد "لامبرت" مؤخراً في تنظيم جدارية في شارع "ميتشل" التاريخي في "ميلووكي"، بطول 275 قدماً لدعم حقوق التصويت. ويضيف عن ذلك: " المساحة العامَّة مهمَّة للغاية، بسبب التنازع عليها". ومن بين الطرق التقليدية التي يرى الناس من خلالها الرسائل البصرية؛ اللوحات الإعلانية والمساحات أيضاً، التي تكلِّف بالعادة المال للعرض بها. وعندما يرسم الفنانون جدارية، يخلقون مساحة مهمَّة، لا تستوعب آراء وعروض الشركات الكبرى فقط، وإنما آراء الفنانين والأشخاص العاديين أيضاً. ومع انتشار الفن بشكل كبير بسبب مقتل "جورج فلويد" التراجيدي، بات الناس يرسمون في الطرقات لأنَّهم غاضبون، كأنهم يقولون: "هذا يكفي"، وهم يعبِّرون عن ذلك من خلال الفن.
وهناك إرث طويل من الفنانين الذين يسخِّرون قوَّة الفنِّ التعاوني، والصور الرمزية لتعبئة المجتمعات. ففي التقرير الذي يحمل عنوان "قوة الأقمشة في المدن: الطلاء والسياسة وأخلاقيات فنِّ الشارع"، الذي نشرته مجلة "نيو إنغلاند للسياسة العامَّة"، تبحث "مورا إي. غريني" في كيفية تطوُّر فنِّ الجرافيتي في المدن من الاحتجاج السياسي العفوي في المجتمعين اللاتيني والأسود خلال 1960.
وربما كانت حقبة الاضطراب المدني هي التي أدَّت إلى ظهور "جدار الاحترام" الشهير، وهو عبارة عن جدارية تصوِّر أكثر من 50 شخصية إفريقية-أمريكية مؤثِّرة، ورُسِمَت عام 1967 على جدار مبنى في حي غراند بوليفارد في شيكاغو. وكانت الجداريات ورسوم الجرافيتي بأنواعها من فنون الشارع التي اتخذت أدوات سياسيَّة في إدارة الرئيس "فرانكلين دي روزفلت" قبل ذلك.
وفكرة إمكانية أن يكون الفنُّ موثقاً للأحداث، ومُلهِماً للناس؛ تُظهِر أهمية المساحات العامّة كبنى تحتية حساسة. وكما يقول "ماثيو كلارك"، المدير التنفيذي لصندوق التصميم للمساحات العامة في مدينة نيويورك، فإنَّ مساحات التجمع في الهواء الطلق، يمكنها أن تكون بمثابة حلقة وصل بين الصحة العامة، والصحة العقلية. ويضيف: "لقد شكَّلت العنصرية صدمة مستمرَّة لمئات السنين في التاريخ الأمريكي. إنَّ هذه الصدمة راسخة في المجتمعات والأحياء والأفراد. وهناك طرق لمعالجة الصدمة، وتُعَدُّ الجداريات والفن العام إحدى الطرق الرائعة للقيام بذلك، ففي أوقات الأزمات، والصدمات الوطنية، تزيد الحاجة إلى التعبير الحرّ ِوالمبتكر".
ومن المؤكَّد أنَّ أشكال الفنِّ العامِّ لا تحمل كلها رسائل عن العدالة الاجتماعية. وفي الولايات المتحدة التي تُعَدُّ أمّة شديدة الاستقطاب، تهدف هذه الفنون إلى أن تشكِّل منبراً للنقاش في جهات السياسة الأمريكية المنقسمة.
وفي 2019، احتسب "مركز قانون الفقر الجنوبي" 780 نصباً تذكارياً، يكرم حركة الكونفدرالية التي انتشرت بشكل كبير خلال عصر "قوانين جيم كرو" العنصرية، وأتت هذه التماثيل كشكل من التعبير عن سيادة البِيض.
واليوم، بعد أشهُر على وفاة "جورج فلويد"، قال المركز، إنه تمت إزالة 38 نصباً منها، واستُهدفت تماثيل أخرى بكتابات مناهضة للعنصرية، وخُرِّب بعضها.
وفي استجابة لحملة "Black Lives Matter"، ردَّ المحافظون برسائل مختلفة. ففي نيويورك، رفعت المجموعات المؤيِّدة للشرطة مقترحاً لجدارية بعنوان "Blue Lives Matter"، وعندما رُفض هذا المقترح، قررت المجموعات رفع دعوى ضد رئيس البلدية "بيل دي بلازيو" بسبب رفضه طلبهم.
وفي أغسطس، خُرِّبَت جدارية "Back the Blue" بعد أيام من رسمها في أحد شوارع "تامبا"، التي رُسمت دون ترخيص أمام مقرات قسم الشرطة، .
في أغسطس، حمل مؤيدو "ترمب" لافتات أمام جدارية مخرَّبة لـ"Black Lives Matter" أمام "برج ترمب"، وأصبحت هذه الجدارية نقطة ساخنة للتخريب، إذ لُطخت بالطلاء ثلاث مرات على الأقل (المصورة: ستيفاني كيث/ صور غيتي)
وفي حدث مُشابِه، شهدت مدينة "تولسا" في ولاية أوكلاهوما مواجهة أخرى حول فن الشارع في منطقة "غرينوود"، وهو موقِّع مجزرة "تولسا العرقيَّة" التي حدثت عام 1921، إذ رسم أفراد جدارية "Black Lives Matter" في شارع "غرينوود" عشية مسيرة الرئيس "دونالد ترمب" في يونيو في تلك المدينة. وفي أوائل أغسطس، تعرَّضت الجدارية للتخريب بواسطة الطلاء الأزرق، وفي أكتوبر صوَّتت المدينة على إزالتها تبعاً لاعتراضات مالكي العقارات في الجوار، لأنها مصدر تشتيتٍ للسائقين بحسب أقوالهم.
أمَّا في مدينة "كنساس"، بولاية "ميسوري"، فقد ابتكرت المدينة من خلال شراكة مع الجمعية الوطنية للنهوض بأصحاب البشرة الملونة، والرابطة الحضرية لمدينة كنساس الكبرى، ست جداريات لـ"Black Lives Matter"، يصل مجموع مساحتها إلى 2,000 قدم، وانتشرت الجداريات في أحياء مختلفة على مدار عطلة نهاية الأسبوع في سبتمبر. وعندما شُوِّهَت جدارية بطول 400 قدم في أحد الأحياء الثريَّة بواسطة آثار الإطارات، أصرَّ الفنان "هارولد سميث" على استخدام هذا الفعل بطريقة مختلفة لتحويله إلى درس للجميع.
وتقول "كريسي داستروب"، وهي مساعدة تشريعية لعضو مجلس مدينة "كنساس إيريك بونش"، وشريكة مؤسسة لـ"Troost Market Collective"، وهي منظمة فنية محلية غير ربحية: "قال الفنان حينها: إنَّه إذا لم يُعَد (فعل الكراهية) هذا دليلًا كافياً على ضرورة وجود الجدارية، فما من دليل آخر سيستطيع تبيين ذلك".
وأشرفت "داستروب"، على هذا المشروع، ونظَّمت ما يُعرف بعملية الاستجابة "Operation Clapback" لإعادة طلاء وإصلاح الجدارية التي خرَّبتها الإطارات، إذ زُوِّد السكان المحليون بمستلزمات الطلاء، وبخاخات الألوان لرسم بصمات يد بألوان متعددة، ورسم رسائل أخرى في الشارع.
وتقول "داستروب"، إنَّ رسالة المنتج النهائي، هي: "لن نُهزَم". وأضافت: "لم نُرِد أن نُهزَم، أردنا تضخيم ما فعله المخربون، لأنَّ هذا هو بالضبط سبب قيامنا بهذا المشروع. الأمر يتعلق بجمع الناس والمجتمعات معاً للتوصُّل إلى شيء مهم".
وعندما تجمَّع الأشخاص، بدت عملية إصلاح الجدار، وكأنها مناسبة احتفالية. ويقول "ماير"، مؤسِّس "Beautify"، إنَّ هذا هو نتيجة صناعة الفن العام. ويضيف: "يمكن أن تحوِّل الجدارية زاوية شارع عادية إلى نقطة التقاء اجتماعية حيوية. ومع كل ما يحدث هذه الأيام، هناك افتقار إلى الفرح والأمل، إلا أنَّ المجتمعات تبني نفسها من جديد من خلال إخبار القصص المحلية، وفي الوقت عينه؛ صناعة فن جميل يبتسم الناس عند رؤيته، إذ ينبع التعافي من إدراك أنَّه لا يزال حولنا لون وفرح وجمال".