بلومبرغ
عندما يتعلق الأمر بإسعاد الموظفين ومساعدتهم على تحقيق التوازن بين ساعات العمل والاسترخاء، فإنَّ الرئيس التنفيذي لشركة "Acuity" للتأمين، "بن سالزمان"، يتمتَّع بوسيلة استثنائية تحت تصرفه، وتتمثل في لعبة عجلة دوارة بارتفاع 65 قدماً، تقع داخل مقر الشركة الرئيسي في مدينة شيبويجان، ويسكونسن في الولايات المتحدة.
قبل أن يضرب الوباء العالم، اعتاد سالزمان تشغيل هذه العجلة بانتظام. إذ يُدعى الموظفون لإحضار عائلاتهم للاستمتاع معهم في المركز الترفيهي، في حين يتم تقديم المشروبات والأطعمة المناسبة للأطفال.
وكانت إقامة مثل تلك المناسبات الاجتماعية بعد ساعات العملن تعدُّ من السمات المميزة للشركات التي تتطَّلع إلى رفع معنويات موظفيها، وتعزيز شعورهم بالانتماء.
ولكن كما نعلم جميعاً، فقد ولَّت هذه الأيام إلى أجل غير معروف. في حين تواجه الشركات تحديات غير مسبوقة للإبقاء على صورتها كبيئة عمل تُعنى بإسعاد الموظفين وإنتاجيتهم. وحتى بين أصحاب العمل الذين يقول الموظفون، إنهم يجيدون عادة تحقيق توازن الحياة والعمل، فإنَّ التكيف مع العمل من المنزل، كان صعباً عليهم.
تقول أماندا ستانسيل، كبيرة محللي الأبحاث في موقع "Glassdoor" الذي يقيِّم بيئة العمل داخل الشركات: "تتمتع بعض الشركات التي تُعنى بتوفير أفضل الممارسات لموظفيها بسياسات رائعة حقاً، بدءاً من الإجازات المدفوعة الأجر، وجداول العمل المرنة، وتوفير إجازات جيدة لرعاية الأطفال، وأخرى للتطوير الذاتي، وتقديم اشتراكات في النوادي الصحية".
ومع تحول الموظفين إلى العمل عن بُعد، كان لابد للشركات من إعادة ابتكار ثقافتها ومناسباتها الاجتماعية وميزاتها، بما يتناسب مع واقع العمل من المنزل.
شركة "Acuity" للتأمين تُعدُّ من أفضل الشركات الأمريكية التي تحقق التوازن بين العمل والحياة لموظفيها، وفقاً لبيانات موقع "Glassdoor"، خلال الفترة من 1 يوليو 2019 إلى 30 يونيو 2020. كما حلَّت أيضاً في قائمة الشركات الأعلى تصنيفاً في هذا الإطار: وكالة التوظيف في قطاع تكنولوجيا المعلومات "Digital Prospectors"، وشركة تطوير برامج المحاسبة "Sage Intacct"، ومزوِّد الاستطلاعات عبر الإنترنت "SurveyMonkey"، وكذلك شركة البرمجيات "Slack Technologies"، وشركة تدريب الأمن الرقمي "KnowBe4".
وتتخذ الشركات المختلفة طرقاً متفاوتة حالياً،للحفاظ على سمعتها كبيئة عمل (صديقة للموظفين) ومريحة لهم. لكنَّ السمة الرئيسية التي تتوافق فيها معظم هذه الشركات، هي الحرص على أن يأخذ موظفوها إجازات ووقتاً مستقطعاً من العمل. فهذا الموضوع شكَّل تحديَّاً للأعمال منذ بدء الوباء. إذ يلغي الكثير من العاملين عطلاتهم خوفاً من العدوى، أو ببساطة لخشيتهم من فقدان وظائفهم في ظل وجود عشرات الملايين من الأمريكيين العاطلين عن العمل. وهو يجعل الكثير من الموظفين في حالة من العمل المستمر، في الوقت نفسه الذي تجاوزت فيه مستويات الإجهاد والإرهاق حدودها المعتادة بكثير.
لا يشبه هذا العام أي عام آخر في الذاكرة الحديثة، فقد وصلت أعداد الإصابات في الولايات المتحدة بفيروس "كوفيد - 19" إلى12.7 مليون إصابة مؤكَّدة، وحالات الوفاة تجاوزت 260 ألف حالة.
ومن المتوقَّع أن تستمر هذه الأرقام بالارتفاع في المستقبل القريب، فقد فرضت التعامل مع واقع جديد محفوفٍ بالمخاطر، وغيَّرت كل ما يتعلق بأماكن العمل في أمريكا. إذ تحوَّل عمل الكثير من الموظفين بشكل غير مسبوق من أروقة الشركات والمكاتب إلى العمل عن بعد من منازلهم.
ووفقاً لبحث نُشر في مجلة "MIT Sloan Management Review" في يونيو 2020، قال مديرو الموارد البشرية، إنَّ تحقيق المرونة في أوقات العمل، ودعم الآباء العاملين، مثَّلت حلولاً شائعة لهم، في حين كانت سياسات تمديد الإجازات، ومساعدة الموظفين على إدارة أعباء العمل بشكل أفضل عن بعد من الأساليب الأقل شيوعاً. وقد صرَّحت بعض الشركات أنَّها تفكر في التحوُّل بشكل دائم عن ساعات العمل المكتبية الكاملة.
وأصبح الاعتناء بالصحة العقلية أكثر أهمية مع هذا الواقع الجديد، إذ قالت شركة "SurveyMonkey"، ومقرها سان ماتيو، كاليفورنيا، إنها أضافت برامج خاصة لمساعدة الموظفين على التعامل مع العزلة الاجتماعية، والإرهاق والقلق. وقالت الشركة أيضاً، إنها توفِّر خدمات صحة نفسية سرٍّية لموظفيها، بالإضافة إلى ما يسمى "برامج مساعدة الموظفين" التي توفِّر الدَّعم الأسري، والمساعدة القانونية والمالية كذلك.
واستغلت شركة "SurveyMonkey" نقطة اختصاصها فيما يتعلق بجمع البيانات، لتصممَّ استبيانات لموظفيها، كي تفهم أكثر عن كيفية تكيفهم مع العمل عن بُعد.
وشجَّعت الشركة الموظفين على أخذ استراحات بين مؤتمرات الفيديو المتتالية لمنع الإرهاق، كما قدَّمت لموظفيها منحة بقيمة 500 دولار لتجهيز مكاتب منزلية.
وقالت الشركة، إنَّ المنحة يمكن أن تغطي أيضاً الاشتراكات في خدمات رعاية الأطفال، ومنصات الخدمات المتعلقة بذلك، وغيرها من التكاليف المترتبة على رعاية المُعالين، مثل: التمريض المنزلي، والاشتراكات الأكاديمية للتعليم المنزلي.
كما تعتمد "SurveyMonkey" نظاماً غير محدود للإجازات تحت مسمى "إجازة مسؤولة مدفوعة الأجر"، إذ يقرر الموظفون بأنفسهم عدد أيام الإجازات التي يجب أن يحصلوا عليها.
وبالرغم من ذلك، يمكن أن تؤدي مثل هذه السياسات أحياناً، إلى استغناء بعض الموظفين عن عطلاتهم، وذلك حتى لا يخاطروا بأن "يُنظر إليهم" على أنَّهم يأخذون الكثير من الإجازات. وسعت الشركة إلى تخفيف هذه المشكلة، من خلال منح الموظفين بعض أيام الإجازات التي يجب عليهم استعمالها قبل نهاية شهر يونيو 2020، تحت مسمى "أيام رعاية مرنة".
وقالت جانيل لوبيز، كبيرة مديري الأفراد في "SurveyMonkey"، إنَّ 70٪ من الموظفين استفادوا من هذه السياسة، في حين صرَّحت الشركة أنها لم تمدد هذه الميزة حتى يوليو.
منذ أبريل 2020، يحصل جميع موظفي منصة "Slack" في سان فرانسيسكو على إجازة في يوم الجمعة مرة كل شهر، وهو قرار تقول الشركة، إنها ستعمل به حتى نهاية العام، كونه لا يؤثِّر على أعمال الشركة التي ينتشر موظفوها في مناطق مختلفة من العالم.
وقال روبي كووك، نائب الرئيس الأول لقطاع الأفراد في "Slack"، إنه عندما أخذ الرئيس التنفيذي للشركة إجازة مدة أسبوع، شجَّع ذلك من هم تحت قيادته على فعل الشيء نفسه. وأضاف كووك: "إذا كان قادتك لا يأخذون إجازات، فلا يهمُّ عدد المرات التي تقول فيها الشركة لموظفيها "خذوا إجازات"، فهم سوف يقتدون بسلوك القادة."
يحدد كووك التوازن بين العمل والحياة في مدى تمتُّع الموظفين بالمرونة في ساعات العمل. وتعني هذه المرونة حالياً أشياء مهمة، مثل القدرة على قضاء بعض الوقت مع أطفالك في الصباح، ثم العمل في وقت مبكر من المساء لتعويض ساعات العمل. وبحسب كووك، فإن " Slack" ابتكرت أيضاً ما يسمى بـ"إجازة طارئة" إذ يتمكَّن الموظفون من التعامل مع المشكلات التي تطرأ أثناء الوباء، دون استنفاد أيام إجازاتهم.
وتتمثَّل إحدى الطرق التقليدية لتقييم التوازن بين العمل والحياة في مدى قدرة الموظفين على الانفصال عن العمل بشكل تام، بعد انقضاء الساعات المطلوبة، وهي مسألة صعبة بشكل خاص في بيئة العمل من المنزل. في هذا الإطار تحرص "Slack" على إبلاغ كلِّ موظف جديد بضرورة استخدام خاصية "عدم الإزعاج" في منصَّات الاتصالات الخاصة بالعمل، لإعلام الآخرين بكونه غير متاحٍ، وألا يشعر بالخجل من ذلك.
ويقول كووك: "في ثقافة الشركة، جعلنا ذلك مقبولاً للغاية. الجميع من الرئيس التنفيذي إلى أحدث موظف يعرفون ذلك." وأضاف أنَّه عندما يتراجع الوباء في النهاية، فإنَّه يتوقَّع أن يرغب الموظفون في الاحتفاظ بمرونتهم الجديدة، وزيادة دمج خيارات العمل من المنزل في الوظائف اليومية.
المجتمع الافتراضي سيبقى حياً ويندمج في المجتمع الفعلي
وبالرغم من توفير الموظفين للوقت المستغرق في تنقلاتهم اليومية من العمل وإليه، وتحويله إلى مزيد من ساعات الإنتاج. إلا أنَّ هناك عوامل تجعل العمل من المنزل أكثر إرهاقاً، ويتمثَّل أحدها في التوالي المستمر للاجتماعات الافتراضية على مدار اليوم.
وقالت شركة البرمجيات المختصة بالتقاويم "Clockwise"، إنها تعالج 500 ألف رزنامة. وقال رئيسها التنفيذي، مات مارتن، إنَّ الموظفين يقضون وقتاً أكثر بنسبة 12٪ أسبوعياً في الاجتماعات منذ بدء الوباء. ورفضت بيانكا ريباسي، المتحدِّثة باسم الشركة، الكشف عن عدد مستخدمي التقويم.
كما قالت شركة البرمجيات "Sage Intacct"، إنها وجدت حلاً بسيطاً للتعامل مع هوس الاجتماعات الافتراضية المتزايد، من خلال تأخير جدولة كل اجتماع بفترة تمتدُّ من خمس إلى 10 دقائق بعد الوقت المخطَّط له في الأصل. وقالت كارمن كوبر، كبيرة مديري عمليات الأفراد في الشركة، التي تتخذ من سان خوسيه بولاية كاليفورنيا مقراً لها، إنَّ الشركة تنوي الإبقاء على هذا التعديل حتى عند العودة إلى المكاتب.
خلال فترة ما قبل الوباء، كانت تعكس العجلة الدَّوارة الخاصة بشركة "Acuity" للتأمين، جهودها لإسعاد الموظفين، واعتماد نشاطات مختلفة لتحقيق التوازن بين العمل والحياة. وتراوحت تلك النشاطات بين تسلُّق الجدران، ومركز اللياقة البدنيةن ونوادي الهوايات، التي لجأت شركة التأمين إليها جميعاً لبناء الروح المعنوية، ومنح الموظفين وسيلة لإستعادة طاقتهم على مدى سنوات. وبالرغم من ذلك، لم تستطع هذه النشاطات أن تُترجَم بشكل جيد في واقع "كوفيد-19" الجديد.
في الوقت الحالي، استبدلت الشركة ركوب لعبة العجلة الدوارة بصرف بطاقات هدايا للموظفين، تستعمل في المطاعم والأسواق المحلية والتسوق عبر الإنترنت. وقالت الشركة، إنَّ خدمات مركز اللياقة البدنية، تحوَّلت الآن إلى حصص افتراضية عبر الإنترنت.
وكما تؤكِّد شركة "Acuity" للتأمين على ذلك، فقد تحسَّنت الإنتاجية، وعمليات الإشراف بالفعل منذ بدء العمل عن بُعد لدرجة أنَّ "سالزمان" أخبر الموظفين أنَّه يمكنهم الاستمرار في القيام بعملهم من المنزل بشكل دائم، إذا أرادوا ذلك.
أما في شركة "KnowBe4" للأمن السيبراني، فقد عزز الوباء أيضاً ثقافة العمل من المنزل عبر الإنترنت. إذ قالت إيريكا لانس، نائب الرئيس الأول لعمليات الأفراد، إنَّ الشركة باتت تقدم حصصاً يومية افتراضية لرياضات مختلفة، مثل الملاكمة واليوغا. إلى درجة أنَّ المديرين أصبحوا يطلبون من الموظفين مشاركة صور "زملائهم الجدد في العمل"، سواء كانوا من أطفالهم، أو حيواناتهم الأليفة.
وتضيف لانس : "أعتقد أن المجتمع الافتراضي سيظل موجوداً، وسيتمُّ دمجه في المجتمع الفعلي".
وفي حين أنَّ شركة "KnowBe4" ، التي تتخذ من كليرووتر، فلوريدا مقراً لها، لن تتسرع في العودة إلى العمل من المكتب. تقول لانس، إنَّهم عندما يقومون بالانتقال إلى مقرِّ العمل ثانية، سيحتاجون إلى استيعاب الموظفين الذين يطالبون ببيئة عمل أكثر مرونة. ويبدو أنَّ هذا لن يحدث في أيِّ وقت قريب، وهم يخططون حالياً لحفلة عيد الهالوين داخل سياراتهم، إذ يمرُّ كل موظف بمركبته في ممر القيادة، وسيكون موضوع الحفلة مستوحىً من "أليس في بلاد العجائب".