بلومبرغ
يمضي برنار أرنو بضع ساعات من صباح كلّ سبت في تفقد متاجره التي تشبه منتديات مكرّسة لحقائب اليد والأزياء الراقية والمجوهرات والساعات باهظة الثمن، وهو يأتيها محاطاً بمرافقين يتبدلون، لكن عادةً ما يكون بينهم بعض من أعوانه وحراسه وكذلك أبنائه.
رئيس مجلس إدارة مجموعة "إل في إم اتش-مويت هنسي لوي فيتون" (LVMH Moët Hennessy Louis Vuitton) ورئيسها التنفيذي، الذي بلغ من العمر 75 عاماً، لا يقصد تلك المتاجر ليتسوّق. إذ أن الرجل صاحب الذوق الرفيع، الذي صقلته عقود أمضاها في ارتياد عروض الأزياء فيما كان يعمل على تطوير علامات "كريستيان ديور" و"بولغاري" (Bulgari) و"سيلين" (Celine) و"فيندي" (Fendi) و"لوي فيتون" (Louis Vuitton)، قادر على ملاحظة أدنى إخلال بهالة الفخامة التي بناها بعناية. فينكب على توجيه رسائل نصية وإلكترونية إلى كبار مديريه التنفيذيين، بها قوائم يصف فيها كل ّثغرة يجدها بأدقّ تفاصيلها.
يتذكر أنطوان أرنو، نجله الأكبر ورئيس قسم التواصل وصورة العلامة التجارية في "إل في إم اتش"، رسالة من تلك تلقاها من والده في أبريل، وفيها ينتقد نضد أحد متاجر "بيرلوتي" (Berluti) في طوكيو. قال أنطوان: "كان معجباً بالتصميم الأول الذي أدخلته على (بيرلوتي) بالتعاون مع أحد المعماريين قبل 12 عاماً... قال لي: هل تذكر النضد المعتّق في ذلك المتجر؟ حاول أن تضع مثله هنا".
يحكي ألكسندر، أخ أنطوان الأصغر غير الشقيق، ونائب الرئيس التنفيذي لشؤون المنتجات والتواصل في "تيفاني أند كو" (Tiffany & Co)، المنضوية أيضاً تحت مظلة "إل في إم اتش"، قصة مشابه من زيارة والده الأخيرة إلى دبي. يروي أن أرنو الأب "وجّه انتقادات مسهباً في سرده للتفاصيل... تناولت الكراسي في المتجر وأحذية البائعين... هي أشياء لا يلاحظها المرء عادةً، ولكن حين ترى عشرات آلاف المتاجر على مرّ السنين، أعتقد أن مثل هذه الأمور تتبادر إلى ذهنك فوراً".
أحقاً دقق في أحذيتهم؟ حين سألنا برنار أرنو عن ذلك تذكر اعتراضه على الفور، فأجاب بابتسامة خلت من أي شعور بالندم: "كان الرجل ينتعل ربما حذاء (نايكي) أو شيئاً من هذا القبيل"، مشيراً إلى أنه لم يكن حتى حذاء "إير فورس وان إس" (Air Force 1s) المنتج بالتعاون بين "نايكي" و"تيفاني"، وسعره 400 دولار. وشدّد أن "على الباعة لدينا أن يرتدوا ملابس (إل في إم اتش)".
على قمة الثراء
بنى أرنو على مرّ 40 سنة أكبر امبراطورية لمنتجات الرفاهية الفاخرة في العالم، كما عولم قطاعاً كان حكراً على بضعة شركات أوروبية محدودة الطموح ومتشبثة بالتقاليد. صحيح أنه لم يخترع البذخ في الاستهلاك، لكن يكاد أن يكون له الفضل منفرداً في تحويل الترف إلى هوس لدى المتسوقين، من شارع نانجينغ في شانغهاي إلى شارع فيا مونتي نابوليون في ميلانو، ومن روديو درايف في بيفرلي هيلز إلى السياح الذين يرتادون محال "إل في إم اتش" في الشانزليزيه في باريس وفيفث أفينيو في نيويورك.
كست حلل أرنو ملوكاً ورؤساء وعارضات أزياء ومشاهير، ولعلّه تفوّق على الجميع في صنع ملابس وأكسسوارت غدت مرادفاً لرفعة المكانة بين نخب العالم، لكنها عكست أيضاً بعضاً من افتقار للأمان في نفوسهم.
لهذا أصبح أرنو أغنى رجال العالم، أو على الأقل يراوح عند ذلك المستوى، إذ يتغير ذلك من يوم لآخر (وللسياسة الفرنسية أيضاً مفاعيلها في ذلك، إذ أثرّت اضطراباتها في الآونة الأخيرة سلباً على سعر سهم "إل في إم اتش"). قُدّرت ثروة أرنو الصافية حتى منتصف يونيو، بحوالي 200 مليار دولار، وفق مؤشر بلومبرغ لأصحاب المليارات. لقد جمع ثروة من واحدة من أبعد الصناعات عن الحداثة التقنية، لكن لا يوازيها إلا ما جمعه عمالقة الشركات الرقمية ممن بنوا ثرواتهم عبر توسيع انتشار نشر البرمجيات والحوسبة السحابية والمركبات الكهربائية.
اخترع مستقبلنا جيف بيزوس وإيلون ماسك وبيل غيتس، وهم غالباً ما تتعرض أذواقهم للنقد من حيث تعاملهم الاجتماعي أو ملبسهم، فيما جمع أرنو بما يمثّله من ذوق رفيع، العلامات التجارية التي تعبّر عن الثراء المستجدّ وترمز لسطوة أوروبا ما بعد الحرب، وصدّرها إلى العالم.
هيمنة على المشهد الباريسي
لذا من اللافت أن يخطف أرنو الأضواء الآن أكثر من كبار الأثرياء الآخرين. ففي يوليو، ستتجه أنظار العالم نحو باريس التي تستضيف الألعاب الأولمبية الصيفية.
وقد دفعت "إل في إم اتش" 150 مليون يورو (160 مليون دولار) لتكون ضمن الرعاة الرئيسيين للحدث العالمي الذي سيكتشف خلاله زوار مدينة الأنوار أن أرنو ومتاجره الفاخرة الخمسة وسبعين التي تشمل الأزياء والمجوهرات وحقائب اليد والشامبانيا والخمور والفنادق الفخمة، تنتشر في كلّ حدب وصوب هناك.
إن لافتات "إل في إم اتش" ومحالها والمتاحف المدعومة من أرنو نفسه تتناثر على امتداد العاصمة الفرنسية، بما فيها مبنى مؤسسة "لوي فيتون" من تصميم فرانك جيري على الطرف الغربي للمدينة. حتى أن جزءاً كبيراً من الفضل في إعادة الافتتاح الوشيكة لكاتدرائية نوتردام التي أتت عليها النيران في 2019، يعود لتبرع قدره 200 مليون يورو من أرنو و"إل في إم إتش" لأعمال الترميم.
رحّب أرنو بصحفيي "بلومبرغ بزنيسويك" في غرفة المؤتمرات المتاخمة لمكتبه في مقر "إل في إم إتش" في جادة مونتين، على بعد شارع من نهر السين. أطل الرجل النحيل طويل القامة (185 سنتيمتراً) بملابس فائقة الأناقة منها رداء كحلي من "ديور" تحتها سترة بياقة عالية وسروال داكن اللون مع حذاء من "بيرلوتي"، وزيّنت معصمه ساعة "لوي فيتون تامبور" قال بكلّ بساطة إن سعرها 18500 يورو.
اكتست جدران الصالة بثلاث لوحات لآندي وارهول، فيما كان لوحة لبيكاسو مسندة في ركن بانتظار تعليقها، ولاحت في الأفق الأبراج القديمة وأسطح مباني الدائرة الثامنة من باريس.
خلافة غير محسومة
اكتسب أرنو صيتاً في عالم الأزياء والترف كرجل صارم ومقاتل رأسمالي شرس، سرّح آلاف الموظفين بعد استحواذه على شركات كانوا يعملون لديها، وقد حاول أن يستحوذ على كلّ من "غوتشي" و"هيرميس" دون رغبة منها، وفشلت مساعيه تلك التي وُصفت بأنها أميركية الطابع في عالم رجال الأعمال الأوروبيين الدمثين، حتى أن أحد أفراد عائلة "هيرميس" وصفه بأنه "ذئب في ثوب من كشمير".
لكن حين تتعرف إليه شخصياً، يبدو لك رجلاً ودوداً، يتحدث الإنجليزية بلكنة ثقيلة. حدّثنا عن العائلة وعن "إل في إم اتش" التي تحتضن موظفيها، كما ألمح إلى النقاش الدائر علناً حول خلفه على رأس المجموعة الضخمة.
تضمّ قائمة المرشحين أولاده الخمسة من زواجين، وهم دلفين، 49 عاماً، الرئيسة التنفيذية الحالية لدار "ديور"، وشقيقها أنطوان، 47 عاماً، إلى جانب أولاد أرنو الثلاثة من زوجته الثانية عازفة البيانو هيلين ميرسييه: ألكسندر، 32 عاماً، وفريديريك، 29 عاماً، الرئيس التنفيذي للعلامات التجارية المتخصصة بالساعات من تابعات "إل في إم اتش"، وجان، 25 عاماً، مدير قسم الساعات في "لوي فيتون".
تطرّق أرنو إلى مسألة خلافته دون مقدمات، فصوّرها وكأنها النسخة الفرنسية من مسلسل (Succession). وقال بمرح: "فيما يخصّ المستقبل، هناك خمسة أفراد من عائلتي يعملون ضمن المجموعة، لنر إذا كان أحدهم قادراً على تولي زمام الأمور".
في الوقت نفسه، يعطي أرنو الانطباع بأنه لن يتنازل عن منصبه قريباً، كما أنه ليس قلقاً من الانخفاض الأخير في الإنفاق على السلع المترفة. قال: "ربما الوضع الاقتصادي في 2024 لن يكون جيداً بقدر 2023... ولكن ما أفكر به هو 2030، كلّ خططنا تتناول ذلك".
اجتهاد في العمل
يبدأ أرنو نهار العمل عند الثامنة صباحاً ويختتمه عند الثامنة ونصف مساء. لكن التزامه ببرنامج العمل هذا ليس بسبب تمسكه بما تبقى من طموح طبع سنواته الطويلة في قطاع الترف، فهو يقول: "حين أصل في كل صباح، أشعر بالمتعة".
ربما "المتعة" ليست الكلمة التي كان ليختارها مرؤوسوه. فالاجتماعات تبدأ دائماً في موعدها المحدد، بدقة تليق بمالك ماركات ساعات "تاغ هيور" (Tag Heuer) و"هوبلو" (Hublot).
يقول نوابه إنهم مضطرون للتحضير جيداً للاجتماعات والحفاظ على اتساق مواقفهم، لأن رئيسهم لديه قدرة خارقة على تذكر كل القرارات الماضية. وفيما لا يمانع أرنو التحدث بالإنجليزية إلى مديريه التنفيذيين الأجانب، إلا أنه يصر على أن يتعلموا الفرنسية، وكلما قاموا بذلك أسرع، كان أفضل. يوجّه أيضاً كمّاً هائلاً من الرسائل الإلكترونية يومياً إلى موظفيه، لدرجة أنهم يتبادلون النصائح حول أفضل طرق لترتيب أولويات التعامل مع هذه الرسائل.
يبدي معظم من عملوا مع أرنو على مرّ السنين رهبةً وانبهاراً، سواء من الموظفين المخضرمين أو السابقين أو أشخاص تعاون معهم من خارج الشركة. قال أحدهم حين يدخل أرنو إلى الغرفة، تنخفض الحرارة 8 درجات. وقال آخر إن الرجل يمقت الميل للرضى عن الذات لدرجة أن أسوأ طريقة لاستهلال اجتماع معه هي إخباره أن المبيعات قوية، فذلك "سيفضي بك للهلاك".
يستغلّ أرنو أحياناً سمعته هذه كرجل قاسٍ، وقال خلال الاجتماع السنوي للمساهمين في أبريل: "ربما أكون أقل دفئاً إن كان هذا التعبير المناسب"، متحدثاً بحضور من كان نائبه حينذاك أنطونيو بيلوني، المعروف بشخصيته الودودة.
الاستحواذ على "ديور"
يعزو زملاء أرنو شخصيته الجدية إلى نشأته في مدية روبيه شمال فرنسا التي يتسم سكانها بالصرامة والاجتهاد وتمسكّهم بالخصوصية. كان عطر والدة أرنو الصيدلانية هو "ديوريسيمو" (Diorissimo) من دار "ديور" التي تأسست في 1946 وأطلقت تصاميم "الشكل الجديد" أو (New Look) بعد الحرب. أمّا والده فكان يدير شركة البناء التي تملكها عائلته زوجته.
تلقى أرنو تدريباً كعازف بيانو كلاسيكي، ولكن لم ير نفسه جيداً بما فيه الكفاية ليتخذ من العزف مهنة. نال بعدها شهادة في الهندسة من "بوليتكنيك"، ثمّ التحق بشركة العائلة وأقنع والده بالتركيز على العقارات.
عملت الشركة في البداية على بناء منازل للعطلات في جنوب فرنسا وشقق في فلوريدا، إلا أنه يعزو الفضل في إثارة اهتمامه بالعلامات التجارية التاريخية الفاخرة في فرنسا إلى حديث عرضي مع أحد الأشخاص في أميركا. يروي أنه حين سأل سائق سيارة أجرة في نيويورك بداية السبعينات إذا ما كان يعرف اسم الرئيس الفرنسي الحالي، أجابه السائق إنه يعرف اسم فرنسي واحد هو كريستيان ديور.
عام 1984، أفلس تكتّل السلع الاستهلاكية والصناعية المالك لعلامة "ديور"، وقد نجح أرنو بدعم من البنك الاستثماري "لازار فرير" (Lazard Frères) بإقناع الحكومة الفرنسية الاشتراكية ببيعه التكتل، ثمّ أقدم على التخلّص من كلّ العلامات التجارية المنضوية تحته، ولم يبق إلا على "ديور" ومركز تسوق "لو بون مارشيه" (Le Bon Marché) الكائن على الضفة اليسرى من السين، وسرّح آلاف الموظفين.
لم تكن فرنسا مستعدة حينها لمثل هذا النوع من الرأسمالية الأميركية المتوحشة، حتى أن الصحافة الفرنسية وصفت أرنو بـ"المدمر". لكن واقع الأمر هو أن "ديور" كانت تمتلك ثلاثة متاجر وتبلغ مبيعاتها ما يعادل 90 مليون يورو في حينها، واليوم تمتلك 439 متجراً، وتصل مبيعاتها إلى نحو 9.5 مليار يورو سنوياً.
آفاق جديدة
بعد بضع سنوات من الاستحواذ على "ديور"، استغلّ أرنو الظروف مجدداً، وهذه المرّة استفاد من الصراع بين أفرقاء مجموعة "إل في إم اتش" التي كانت لا تزال ناشئة في حينها، وتضمّ علامات تجارية متخصصة بالحقائب والخمور.
استخدم أرنو الأموال التي كسبها من "ديور"، وبدعم جديد من "لازار" وبنك فرنسي آخر، تمكّن من وضع يده على حصة مرجحة من أسهم المجموعة. أقصى بعدها حليفه المفترض في العملية هنري راكامييه، رئيس "لوي فيتون"، وناور وصولاً إلى انتخابه رئيساً لمجلس إدارة المجموعة ورئيساً تنفيذياً لها.
أذهل الصراع داخل الشركة قطاع الترف التقليدي الذي لم يسبق أن شهد أمراً مماثلاً.
آمن أرنو أن العلامات التجارية الفاخرة قادرة على بلوغ آفاق لم يتصورها أحد في حينها. كما أدرك أن هذا القطاع لا يقوم فقط على بيع أمتعة مزخرفة بالأحرف الأولى من اسم صاحبها أو قلادات ذهبية أو حقائب من جلد التمساح، بل أيضاً على بيع اسم وشعار متجذّر في التاريخ، والوعد الضمني بأن الزبون سيصبح جزءاً من نادٍ حصري.
مثلاً، تباع حقيبة يد قماشية سعرها 1500 يورو من "لوي فيتون" بنحو عشر مرات تكلفة صناعتها، فحتى بعد احتساب إيجارات المتاجر وأجور الباعة (الذين ينتعلون على الأرجح أحذية من إنتاجها وليست من "نايكي")، وتسويق المنتج من خلال الإعلانات والفعاليات، تجني الشركة ربحاً سخياً. مع ذلك، فإن طرح منتج ناجح قد يستغرق سنوات، والأسوأ من فشل المنتج هو نجاحه المفرط، لدرجة اشباع السوق فتخرج علامتك التجارية من الرواج.
علامات تجارية متنوعة تحت مظلة واحدة
لكن أرنو ارتأى أنك إذا جمعت كلّ العلامات التجارية الفاخرة معاً، فيمكنها أن تدعم بعضها بعضاً. بالتالي تعوّض العلامات التجارية الكبرى أداء العلامات الأضعف منها، وتمنحها الوقت الكافي لتبني هويتها وتنمو، فيما تتشارك كامل المجموعة الأعمال غير الظاهرة. هكذا تصبح الشركة قادرة على استقطاب المسؤولين التنفيذيين البارعين واستبقائهم.
قال: "خطرت لي هذه الفكرة بعد أن اشتريت (ديور)... لاحظت أن سوق السلع المترفة تتكوّن من عديد من شركات متوسطة الحجم لو اجتمعت معاً، تحت مظلة مجموعة تتألف من عدّة علامات تجارية، فستصبح أقوى بكثير".
رأى أيضاً أن جمع هذه الأقسام التي يسميها المديرون التنفيذيون تفخيماً "الدور" يمنحها "الاستقلالية التامة في بناء صورتها وتصميم منتجاتها وإدارة نفسها، في حين تستفيد من الدعم الذي يوفره لها انتماؤها إلى مجموعة ضخمة حين ترغب مثلاً في شراء مساحة إعلانية أو البحث عن موقع جيد لفتح متجر لها".
في العادة، تتسبب الاستحواذات باضطرابات داخل الشركات، ولكن أرنو غالباً ما تمكّن من إنجاحها في "إل في إم اتش"، وذلك بفضل قدرته على اكتشاف العلامات التجارية الأوروبية ذات الإمكانيات العالية المملوكة عائلياً، أو الشركات العامة التي كانت تخنقها المتطلبات الفصلية للمستثمرين، فاستفادت بعد الاستحواذ عليها من شبكة الأمان التي أمدّتها بها ميزانية "إل في إم اتش" الضخمة.
اشترى في 1994 علامة العطور ومستحضرات التجميل الفرنسية "غيرلان" (Guerlain) ثمّ صانعة الملابس الجاهزة والجلديات "سيلين" في 1996، وشركة مستحضرات التجميل "سيفورا" (Sephora) في 1997، من بين عدة علامات أخرى.
قال توماي سيرداري، مدير برنامج ماجستير إدارة الأعمال المتخصص بالموضة والترف في كلية "لينونارد ن. ستيرن" لإدارة الأعمال في جامعة نيويورك، إن أرنو "كان يطمح إلى جمع كل جواهر تاج سوق السلع المترفة من قطاعات متنوعة في محفظته".
"ليدي ديور"
في "ديور"، قرر أرنو أن ينافس "شانيل" بإنتاج حقيبة يد جديدة فاخرة. وفي 1995، التُقطت صورة للأميرة ديانا خلال زيارة لها للأرجنتين وهي تحمل حقيبة "ديور" مصنوعة من جلد الحمل، وقد زُينت بحلي معدنية عُلقت عليها.
استغل أرنو الضجة التي أثارتها الحقيبة، فغيّر اسمها إيماءاً ليصبح "ليدي ديور" (LadyDior) ونجح في بيع مئات آلاف الحقائب. أسهمت هذه العوائد الضخمة في تمتين وضع "ديور" المالي، فتمكن أرنو من إلغاء التراخيص الممنوحة إلى جهات خارجية كانت تنتج حقائب وفساتين تحمل علامة "ديور" وتبيعها بأسعار مخفّضة، مقلّلة من قيمة العلامة التجارية. هكذا أحكم قبضته على معايير الجودة ورفع الأسعار، ما جعل منتجاته حصرية أكثر، ومرغوبة أكثر، وأدرّت له مزيداً من الربح.
نجح أيضاً في إقناع المديرين التنفيذيين المترددين في "لوي فيتون"، التي كانت علامة تجارية متخصصة فقط بالحقائب وأمتعة السفر بإطلاق خطّ للملابس الجاهزة، واختار بنفسه المصمّم الأميركي مارك جايكوبس لتطوير هذا الخط. فيما تسهم الملابس الجاهزة اليوم بعشر مبيعات "لوي فيتون"، فإن مجموعاتها الموسمية المتجددة وعروض أزيائها وحملاتها الإعلانية تجذب الأنظار إلى كامل علامة "لوي فيتون" التي تسهم حالياً بنحو ربع إيرادات "إل في إم اتش" ونصف أرباحها.
حقبة جون غاليانو على رأس "ديور"
في بداية التسعينات، عيّن أرنو المصمم البريطاني جون غاليانو مديراً إبداعياً لدى "جيفينشي" (Givenchy) ثمّ "ديور"، متجاهلاً مخاوف كبار مديريه التنفيذيين. قال: "أدركت أن الرجل كان مذهلاً منذ أن تحدثت معه... جلس في مكتبي وكانت ضفائره الطويلة تصل حتى ركبتيه، ثمّ أمسك ببعض الأوراق ورسم ما بين 30 و40 فستاناً خلال ساعة واحدة".
جذب غاليانو الصحافة وخطف قلوب المتسوقين الشباب بفضل تصاميمه التي مزجت ما بين الأناقة الأنثوية الكلاسيكية والابتكارات الجريئة.
علّق أنطوان أرنو على رهان والده على المصمم غريب الأطوار قائلاً: "أنبأه حدسه أن السيدات كنّ بحاجة إلى بعض الروح المشاكسة...لا يمكنك أن تكرر ما قدمته في الموسم السابق مع تعديلات طفيفة، بالأخص حين تكون علامة تجارية متخصصة بالأزياء... كانت دور الموضة بحاجة إلى لمسة تغييرية".
استمر نجاح هذا الرهان حتى 2011 حين أقيل غاليانو الذي كان مدمناً على المخدرات من منصبه في "ديور" عقب انتشار مقطع فيديو له وهو يتفوه بشتائم معادية للسامية. وما يزال المديرون التنفيذيون في "إل في إم اتش" يستذكرون تلك الحادثة حتى هذا اليوم... ربما لأخذ العبر.
قال أرنو متحدثاً عن غاليانو: "للأسف، أصابه بعض الجنون وقال أشياء غير مقبولة عن هتلر". إلا أن السنوات التي قضاها غاليانو في "ديور" أثبتت لأرنو صوابية قراره بضمّ الفنانين والمشاهير القلائل القادرين على كسر المألوف والتماهي مع روح العصر.
يتولّى مغني الراب وكاتب الأغاني فاريل ويليامز منصب المدير الإبداعي لقسم الأزياء الرجالية في "لوي فيتون" حالياً، وقد جلب معه تصاميم القمصان المموهة وسترات الدراجين المزخرفة بشعار العلامة التجارية، فجذب مزيداً من الزبائن الراغبين بإشباع فضولهم إلى متاجر "لوي فيتون".
تعليقاً على ذلك، قال المهندس المعماري بيتر مارينو الذي يتعاون منذ زمن مع أرنو وقد تولّى تصميم الكثير من متاجر الشركة الرئيسية، إن الرجل "ذكي بما يكفي ليدرك أنه حين يتعامل مع شخص مبدع جداً، يجب أن يفسح المجال له للإبداع، ثمّ يدعم هذه الموهبة بإدارة قوية من (إل في إم اتش)... قد يبدو الأمر بديهياً ولكنه ليس كذلك في الواقع".
تعاون مع المشاهير
اليوم، يروّج عشرات المشاهير لشركات أرنو، من تشارليز ثيرون إلى زيندايا ونتالي بورتمان وآنيا تايلر جوي وكثير آخرين، فتفيض علاماتهم التجارية الشخصية وحساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي بروحية أرنو مع كل ما تنمّ عنه من أناقة وحصرية.
غالباً ما تسعى إعلانات "إل في إم اتش" لضخّ منتجاتها في صلب الشريان الثقافي، مثلاً، تسلّق بطلا التنس المخضرمان رافاييل نادال وروجيه فيدرير قمة جبل دولوميت المغطاة بالثلوج ضمن حملة "لوي فيتون" التسويقية الأخيرة. حتى أن ميخائيل غورباتشيف، آخر رئيس للإتحاد السوفييتي، ظهر يوماً في إعلان، وهو يجلس في المقعد الخلفي لسيارة مرّت قرب حطام جدار برلين، وبدت بجواره حقيبة منقوشة بشعار "لوي فيتون".
زار أرنو دولة شيوعية أخرى للمرة الأولى في 1992، هي الصين، التي توجّه إليها لحضور افتتاح متجر "لوي فيتون" في قبو ما كان يُعرف وقتها بفندق "بكين بالاس".
يروي قائلاً: "حين وصلت، لم تكن هناك أي سيارات أو مبان... لم تتوفر حتى مياه ساخنة في الفندق". لاحظ أيضاً أن جميع من في الشارع كانوا يرتدون ملابس متشابهة، كانت كلّها كبزّات ماو. وقال: "أتذكر أنني اتصلت برئيس (لوي فيتون) التنفيذي وسألته إذا كان متأكداً من أننا سنتمكّن من بيع أي شيء هناك".
ركوب موجة النموّ الصيني
أتت الإجابة "نعم" مدوية، وهذا سبب آخر مكّن أرنو من تصدّر المشهد في عالم الأعمال، فقد نجح في الاستفادة من أكبر قصة نجاح اقتصادي خلال المئة سنة الماضية.
كانت "إل في إم اتش" سبّاقة في الاستحصال على تراخيص تجارية لتملّك متاجرها في الصين، ونجحت في ركوب موجة النموّ الاقتصادي التاريخي للبلاد، وما نجم عنه من تضخم في الثروات، ملبيةً ما تلى ذلك من طلب على السلع الأوروبية الفاخرة.
كما بادرت سريعاً لتعيين موسيقيين وممثلين صينيين سفراءً لعلامتها التجارية، وأقامت عروض أزياء في بعض المواقع التاريخية، مثل سور الصين العظيم، وشملت تصاميم مجموعاتها الجديدة عناصر مستمدة من أعمال فنانين صينيين معاصرين.
أنشأت أيضاً متاجر جديدة في البلاد بلمسات محلية. فمتجر "لوي فيتون" العملاق الذي افُتتح في تشنغدو في 2022، وهي سنة النمر بالتقويم الصيني، تضمّن ديكوره ذيل نمر ضخم ممتد على طول المتجر.
كانت الصين ثاني أكبر سوق لمبيعات "إل في إم اتش" بعد الولايات المتحدة العام الماضي، بحسب تقديرات مصرف "إتش إس بي سي". إذ يضمّ البرّ الرئيسي الصيني 54 متجراً لعلامة "لوي فيتون" وحدها، فيما افتتحت 23 علامة أخرى منضوية تحت راية "إل في إم اتش" 58 متجراً في 2023، وهذا معدل توسع مذهل.
حين زار أرنو الصين مجدداً العام الماضي وجال في متاجره هناك وكان في صحبته دلفين وجان، احتشدت جموع غفيرة للقائه، حتى أن المأكولات التي طلبها في أحد مطاعم المطبخ الكنتوني في شانغهاي أصبحت حديث الساعة على وسائل التواصل الاجتماعي، فيما انتشرت صوره وهو يسير برفقة مديريه التنفيذيين مثل النار بالهشيم، وكثرت التعليقات على الملابس التي ارتداها أولئك المديرون. وقد وصل الحدّ ببعض الأشخاص إلى الطلب منه مباركة أطفالهم. وقد علّق أرنو على ذلك بالقول "استغربت الأمر قليلاً".
تأثير وسائل التواصل الاجتماعي
لم يكن صعود الصين رافعة "إل في إم اتش" الوحيدة، العام الماضي، كان هناك 2500 ملياردير في العالم، مقارنة بـ420 مليارديراً فقط في 1995، حسب مصرف "يو بي إس"، ويضاف إليهم عدد كبير من أصحاب الملايين الجدد.
إن تنامي ثروة النخب العالمية، واتساع الفجوة بين الأثرياء والفقراء، يساعد على بيع الساعات باهظة الثمن والحقائب المزخرفة بشعارات العلامات التجارية. قال لوكا سولكا، المحلل لدى شركة "بيرنستين" (Bernstein) "ينخرط أشخاص كثر في كثير من دول العالم في الاقتصاد الدولي، فيجنون أموالاً طائلة ويزدادون ثراء، ويحتاجون بالتالي إلى ضمانات أنهم باتوا في وضع اقتصادي أفضل... هذا هو شعور انعدام الأمان الذي تعالجه السلع المترفة".
كما أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تعزيز مكانة أرنو. مثلاً، مقاطع الفيديو التي تعلّم وضع الماكياج على "تيك توك" زادت إقبال المراهقين على متاجر "سيفورا"، ثاني أكبر علامة تجارية من حيث المبيعات ضمن مجموعة "إل في إم اتش".
وفيما خصّ استخدام عائلة أرنو لوسائل التواصل الاجتماعي، فإن كلّ أولاده، باستثناء دلفين، لهم حسابات على "إنستغرام" تعرض إنجازاتهم ومغامراتهم ولقاءاتهم مع المشاهير. لكن ما يزال الأب متردداً حيال الانضمام إلى هذه المنصات. قال أنطوان إنهم أوشكوا على إقناعه بفتح حساب على "تويتر"، ولكنه تراجع عن الفكرة في ظلّ جائحة كورونا، مع ذلك أكّد أن والده "يعرف هذه المنصات جيداً ويستخدمها".
بمعنى آخر، يراقب أرنو وسائل التواصل الاجتماعي دون أن ينخرط فيها.
الاستحواذ على "تيفاني"
سخّرت "إل في إم اتش" خلال السنوات الماضية كلّ ما في جعبة أرنو من حيل الاستحواذ القسري وأساليبه في وضع أسعار تخالف التوقعات وتحالفاته مع المشاهير، لتضع يدها على أقدم وأعرق علامة تجارية أميركية فاخرة.
تحتلّ شركة "تيفاني أند كو" مكانة أيقونية في الوجدان الأميركي. تأسست الشركة في 1837، وكانت متخصصة بالقرطاسية، حيث ضمّت قائمة زبائنها جميع الرؤساء الأميركيين تقريباً، منذ أيام ابراهام لينكولن.
وقد تولّت إعادة تصميم ختم الولايات المتحدة العظيم الظاهر على الورقة النقدية من فئة دولار واحد. حتى أن علبة مجوهراتها بلونها الأزرق الفاتح، قد تكون الهدية الأكثر شيوعاً في مناسبات الأميركيين من خطبة وزواج وأعياد.
لطالما رغب أرنو بتعزيز قسم المجوهرات الذي كان يعدّ الأضعف ضمن مجموعته، فكان يحسد نجاحات "كارتييه" تابعة مجموعة السلع المترفة السويسرية "سي فيناسيير ريتشمونت" (Cie Financière Richemont). ورأى أن الاستحواذ على "تيفاني" الشركة المستقلة العامة ذات الامتدادات العالمية قد يساعده على ردم هذه الهوة. في 2019، قدّم عرضاً مفاجئاً للاستحواذ على الشركة، ولكن بعد بضعة أشهر على انطلاق المفاوضات، حلّ وباء كورونا، فتراجعت مبيعات السلع المترفة، وحاول الانسحاب من الصفقة.
رفعت "تيفاني" دعوى قضائية اتهمت فيها "إل في إم اتش" بمحاولة "إضاعة الوقت" للخروج من صفقة الاندماج، بحسب ما جاء في الأوراق المقدمة أمام المحكمة. ردّ أرنو بدعوى مضادة اتهم فيها المديرين التنفيذيين في "تيفاني" بمنح أنفسهم حصصاً سخية من الأرباح لا مبالين بالظروف الاقتصادية السيئة.
ضخ حيوية متجددة في صانعة المجوهرات
ومثلما حصل يوم بادر أرنو لمحاولة الاستحواذ على "غوتشي" في نهاية التسعينات وعلى "هيرميس" في بداية العقد الثاني من الألفية، تصدرت محاولة استحواذه على "تيفاني" عناوين الصحف والمجلات المتخصصة بالموضة والأعمال.
كان من ذلك رسالة مستغربة من وزير الخارجية الفرنسي حاجج فيها بأن الصفقة ستؤثّر على المفاوضات التجارية بين فرنسا والولايات المتحدة، وسط تكهنات المراقبين بأن أرنو المتنفذ سياسياً والمقرب من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حثّ وزارة الخارجية على التدخل، وهو ما تنفيه "إل في إم اتش".
بعد التراشقات القانونية، تمكنت "إل في إم اتش" عبر المفاوضات من خفض السعر الأصلي بنحو 425 مليون دولار، أي ما يوازي تقريباً توزيعات الأرباح التي اعترض عليها أرنو، وتجنب الطرفان إحالة الأمر إلى المحكمة. هكذا أُبرمت عملية البيع، وباشر أرنو العمل.
نقل أحد المديرين التنفيذيين من "لوي فيتون" ليجعله رئيس "تيفاني" التنفيذي وعيّن إلى جانبه نجله ألكسندر الذي بادر للاستعانة بالثنائي الأميركي الأشهر بيونسيه وزوجها جاي زي لإطلاق حملة تسويق براقة، ضخت مزيداً من الحيوية في صورة العلامة التجارية، وجذبت المتسوقين الشباب.
تبع ذلك سلسلة إعلانات بالتعاون مع مشاهير، أمثال غال غادوت وزوي كرافيتز والممثلة الصينية إيلين تشونغ والنجم الكوري جيمين. فيما لم تكن "تيفاني" قادرة على عقد مثل هذه الاتفاقيات مع المشاهير قبل الاستحواذ، فقد بات اسمها اليوم واسع الانتشار على وسائل التواصل الاجتماعي.
خصصت "إل في إم اتش" أيضاً 350 مليون دولار لتجديد متجر "تيفاني" الرئيسي في نيويورك الممتد على عشر طوابق عند تقاطع فيفث أفينيو والشارع 57.
وفيما يُعرف عن أرنو وعائلته شغفهم بجمع التحف الفنية، تمكّن ألكسندر من وضع يده على لوحة للرسام جان ميشال باسكيا المنتمي إلى المدرسة التعبيرية الجديدة، يبرز فيها اللون الأزرق الفاتح المشابه للون علب مجوهرات "تيفاني"، وعلّقها في الطابق الأول.
لمّحت الشركة إلى أن فنان الشوارع الراحل تعمّد الإشارة إلى صانعة المجوهرات من خلال اللوحة، وهو ما اعتبره كثير من الضالعين في عالم الفنّ أمراً غير واقعياً بل وفجاً. تناولت الصحف حول العالم الجدل حول اللوحة، ومنها "نيويورك تايمز". الواضح هو أن أرنو يؤمن بأن النجاح في عالم الرفاهية يتطلب لفت الانتباه تكراراً بلا خجل.
زيادة الأسعار
تضمنّت الاستراتيجية أيضاً بعض الجوانب الأقل إثارة للصخب. فقد مّكنت "إل في إم اتش" صانعة المجوهرات "تيفاني" من الاستفادة من سلسلة إمدادها، فعززت إنتاجها للمجوهرات الفاخرة.
وعلى عادتها، عمدت "إل في إم اتش" إلى رفع الأسعار. هكذا، زاد سعر القلادة الكلاسيكية من "تيفاني" المصممة على شكل حبة فاصوليا بمقدار الضعفين تقريباً ليبلغ 290 دولاراً. أمّا السوار الذهبي الذي يحمل حرف (T)، فارتفع سعره من 2100 دولار إلى 2700 دولار.
أضافت الشركة منتجات نفيسة أخرى، كان أغلبها من الذهب بدل الفضة، وتضمّنت قطع مجوهرات مزركشة مرصّعة بالأحجار الكريمة. وظّفت "تيفاني" أيضاً كبير المصممين المخضرم من "كارتييه"، المعروف بتصميم مجوهرات فاخرة تبدأ أسعارها من 75 ألف دولار وتصل إلى الملايين.
وفق التقديرات الداخلية التي أُطّلع عليها الموظفون، ينفق زبائن "تيفاني" في الولايات المتحدة ما متوسطه 2000 دولار في اليوم مقارنة مع 500 دولار قبل الاستحواذ. لكن المحللين منقسمين حول إمكانية اعتبار الصفقة ناجحة. يشير بعضهم إلى ارتفاع المبيعات والربحية وزيادة الإقبال بين المستهلكين الشباب، بالأخص في الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، فيما يرى آخرون أن التضخم والمخاوف الاقتصادية تلحق الضرر بالعلامة التجارية التي ما تزال مرتبطة بأهواء الإنفاق لدى الطبقة الوسطى، كما تسجّل نمواً أبطأ من منافسيها، مثل "كارتييه" و"فان كليف إي أربيلز" (Van Cleef & Arpels). وهم يتساءلون أيضاً إذا ما كانت حيل أرنو المشهود لها بالنجاح فعّالة في عالم المجوهرات، حيث يصعب إبراز شعارات العلامات التجارية التي تتيح للزبون التباهي دون إفصاح.
على كلّ حال، الرأي الفصل يعود لشخص واحد، إذ قال أرنو إن "الهدف الأساسي هو جذب زبائن أثرياء وبيع مجوهرات فاخرة، وهذا ما لم يكن يحصل قبل أن نشتري الشركة... كلّي ثقة بـ(تيفاني) لكن الأمر يستغرق وقتاً... لا يمكنك تحقيق مسعاك على الفور".
تفوق على جميع المنافسين
لقد حصل أن تنافس أرنو في الماضي مع نظراء مساوين له في المكانة مثل فرانسوا بينو، المؤسس المتقاعد لمجموعة "كيرينغ" (Kering)، الذي تفوّق على أرنو في مناورة شهيرة مكّنته من شراء "غوتشي" قبل 23 عاماً. لقد كانت المنافسة بينهما حامية الوطيس لدرجة أنها كانت قادرة على تشتيت انتباه أرنو. ويقول مصرفي كان يلعب التنس معه بانتظام أن مجرد ذكر اسم بينو كان كفيلاً بتشتيت انتباه أرنو وإكساب خصمه بضع نقاط.
أما اليوم، فقد تعملقت "إل في إم اتش" في وجه كافة الشركات الأخرى، حيث بلغ عدد موظفيها في نهاية العام الماضي 213 ألفاً (قس ذلك مقارنةً مع "أبل" التي لها 160 ألف موظف)، كما وصلت قيمتها السوقية إلى 368 مليار يورو، أي أكثر بسبع مرات من مجموعة "كيرينغ" صاحبة علامات "غوتشي" و"إيف سان لوران" وغيرها، وخمس أضعاف حجم شركة "ريتشمونت" (Richemont). ولا يقاربها حجماً إلا "هيرميس" الفرنسية صاحبة حقيبة "بيركين" الشهيرة.
يستغل أرنو هذا الاختلال بطرق شتّى، أبرزها العقارات. فتملك شركة الملكية الخاصة "ال كاتيرتون" (L Catterton) التابعة له عقارات تُقدّر بمليارات الدولارات، ومن ذلك متاجر في مواقع مميزة ومبانٍ مكتبية منتشرة في معظم المدن الكبرى، وقد استفادت من انخفاض تكاليف الاقتراض لتسريع وتيرة الاستحواذات. أنفقت "إل في إم اتش" العام الماضي مبلغاً قياسياً بلغ 2.45 مليار يورو على الاستحواذ العقاري. وعلى هذا النحو يحقق أرنو الأرباح انطلاقاً من متاجره الخاصة وتأجير مساحات للمنافسين، إلى جانب الاستفادة من زيادة قيمة العقارات الفارهة.
الاستثمار العقاري
عندما تشتري "إل في إم اتش" مبنى، تختار أفضل الواجهات التجارية لعلاماتها، وغالباً ما تطلب من منافسيها إخلاء المكان عند انقضاء أمد عقودهم، وهو ما حثّ شركات مثل "كيرينغ" و"برادا" على محاولة مجاراتها وشراء عقاراتهما الخاصة.
لكن شراء "كيرينغ" لمبنى بقيمة 1.3 مليار يورو في ميلانو قبل فترة قصيرة، إلى جانب الصعوبات التي تواجه علامتها الرئيسية، "غوتشي"، أدى إلى تدهور تصنيفها الائتماني. قال سولكا، المحلل لدى "بيرنستين": "إنها مجرد طريقة ذكية لتشتيت انتباه المنافسين وإثارة قلقهم. صعب جداً على أي أحد أن يجاريها".
مع الوقت، تنامت طموحات أرنو في مجال العقارات. في ميامي مثلاً، تعاونت "إل كاتيرتون" مع شركة تطوير عقاري بهدف تحويل منطقة كانت تعجّ بالمستودعات الفارغة والأراضي البور إلى حي تسوق فخم جديد حمل اسم "ديزاين ديستريكت" (Design District).
وقد انغمس أرنو حتى أذنيه في تفاصيل العمل، واضعاً بصمته على القرارات المتعلقة بالعمارة والمناظر الطبيعية ونوعية المستأجرين المرغوب بهم. أما أحدث مشاريع "إل كاتيرتون"، المسمى "رويالماونت" (Royalmount)، وقيمته 5.1 مليار دولار، فيتمحور حول إعادة تأهيل منطقة للصناعات الخفيفة في مونتريال حتى تصبح وجهة للتسوق والمطاعم الفاخرة تتضمّن علامات تجارية متنوعة من "إل في إم اتش"، ترتبط جميعها بمحطة مترو بواسطة ممر للمشاة بقيمة 37 مليون دولار.
إلا أن منافسيه يكادون لا يحتملون هذا الاختلال في موازين القوى، فهم واقعون بين مطرقة أصحاب العقارات اللاهثين لاستقطاب متجر "ديور" أو "لوي فيتون"، وسندان أن تكون "إل في إم اتش" هي مالكة متاجرهم المُستأجرة. وفي كلتا الحالتين، لا يُستبعد أن يُطردوا من أفضل المواقع.
تملّك الغضب أحد الرؤساء التنفيذيين لإحدى العلامات التجارية الفاخرة المنافِسة، طلب عدم الكشف عن اسمه لأنه يتعامل مع "إل في إم اتش" بطرق متعددة، وقال:"وضع قطاع السلع الفاخرة كارثي. لا توجد منافسة لأن اللعبة تقتصر عليهم وليست متاحةً للجميع. أينما ذهبت تجدهم يحاولون إقصاءك".
لكن أرنو لا يلقي بالاً لهذه الشكاوى. قال: "لدينا منافسون جيدون وفعّالون، والنتيجة ظاهرة للعيان، ولدينا منافسون ليسوا جيدين كفاية. وعادةً ما يكون الشاكون الباكون من بين أولئك الذين ليسوا جيدين كفاية. وهم بحاجة لاختلاق أعذار".
تهديد التخلي عن السلع الفاخرة
لكن يبدو أن الحكومات بدأت تنظر في مسألة تركّز القوة في هذا القطاع. في أبريل، رفعت لجنة التجارة الفيدرالية الأميركية دعوى قضائية لمنع الاستحواذ على شركة "كابري" (Capri)، مالكة "فيرساتشي" (Versace) و"جيمي تشو" (Jimmy Choo) من مجموعة "تابيستري" (Tapestry)، التي تمتلك علامات "كيت سبايد" (Kate Spade) و"كوتش" (Coach)، التي تنشط في جزء من السوق يُعرف في قطاع الترف باسم"السلع الفاخرة معقولة الأسعار".
لكن ثمة خطر أكبر قد يتهدد إمبراطورية أرنو، هو انتشار مبدأ رفض السلع الفاخرة، أي نشوء تحوّل أخلاقي يدير ظهره للحقائب الفارهة والفساتين الموقعة من مصممين عالميين والساعات التي يبلغ ثمنها مئات الآلاف من الدولارات.
في فترة بعد الظهر إثر المقابلة مع "بيزنسويك"، توجّه أرنو إلى برشلونة مع ابنه فريدريك للقيام بجولة في متاجره هناك والالتقاء بالمشاهير مثل آنا دي أرماس وفاريل خلال عرض أزياء "كروز لوي فيتون" في حديقة بارك غويل الشهيرة في المدينة.
لكن استخدام الشركة للحديقة أثار احتجاج عدد من السكان الذين اجتمعوا على بعد بضع مبان، حاملين لافتات تحمل عبارات مثل "ترفكم معاناة لنا". ثم وقعت مواجهات قالت الشرطة إنها أدت إلى إصابة سبعة من أفرادها.
كان تجنب مثل هذه الإدانات وتأكيد حسن النوايا من الأسباب وراء رعاية أرنو الألعاب الأولمبية، مع العلم أن هذه الخطوة ليست إيثارية تماماً. إن "إل في إم اتش" هي الشركة الأشهر في فرنسا، إلى حد أن أرنو يقول إنه يشعر في أسفاره وكأنه سفير فرنسا في الخارج. بموجب هذه الرعاية، ستصمم العلامات المنضوية تحت مظلة "إل في إم اتش" الميداليات، وتقدّم الملابس والأزياء للرياضيين الفرنسيين في حفل الافتتاح، إلى جانب تقديم شامبانيا "مويت وشاندون" في احتفالات الفوز.
التقاعد لا يزال بعيداً
يقول أنطوان إن والده تردد كثيراً قبل توقيع شيك الرعاية، وقبل أن يتقبل فكرة أن "إل في إم اتش"، عَلَم الثقافة الفرنسية حول العالم، تحمل مسؤولية إنجاح الألعاب الأولمبية. وقد بدأ الآن يسأل أولاده عن الأحداث التي يجب أن يحضرها شخصياً، ويبدو أنه يرسم أوجه التشابه بين قدرته على التحمّل وقدرة نخبة المتنافسين الرياضيين على المستوى الدولي. فيقول: "لا تختلف حياة مدير شركة ناشئة أو شركة كبيرة عن حياة صفوة الرياضيين".
لا يعتزم أرنو التقاعد قريباً بل ينوي الاستمرار في زيارة المتاجر كل سبت طالما هو قادر على ذلك. يقول ألكسندر، المقيم في نيويورك، إن والده يتصل به في كلّ الأوقات لمناقشة الأعمال، فيما قال أنطوان صراحة: "لا أعتقد أنه سيتوقف أبداً".
من جهته، قال سيدني توليدانو، وهو مدير تنفيذي مخضرم: "لا أعتقد أنه يفعل ذلك من أجل المال. لقد أصبحت هذه مسؤوليته بعدما بنى شيئاً، ويريد أن ينقله. الخطوة التالية له هي اتخاذ القرارات الصحيحة لعائلته والمديرين الجدد، حتى تستمر (إل في إم اتش)".
لكن التكهنات حول الخلافة قد لا تنتهي قريباً. يشير أرنو إلى أنه رفع حديثاً سن تقاعد رئيس "إل في إم اتش" التنفيذي من 75 إلى 80 عاماً. وما لبث أن تلقّى رسالة من وارن بافيت، التسعيني، عاتبه فيها على جعل سنّ التقاعد مبكراً.
رشّح أرنو مؤخراً فريدريك ليكون الرجل الثاني في إحدى شركاته القابضة، وهو ما فسره بعض المراقبين بأنه تأييد لفرص هذا الابن. أما ابنته دلفين، فهي الفرد الوحيد الآخر من العائلة العضو في اللجنة التنفيذية في "إل في إم اتش"، مّا يشير إلى أن أرنو ما يزال يقيّم ما إذا كان بقية أبنائه مؤهلين بالفعل للإمساك بزمام الأمور.
عندما سُئل عما إذا كان قد انتهى من شراء دور الموضة، أو إذا كانت الرغبة في الصيد ما تزال تراود الذئب الذي يرتدي ثوباً من الكشمير، لم يستطع مقاومة الإجابة عن السؤال، وقال: "لدينا أفكار للمستقبل، لكن لا يمكنني إخبارك بالطبع. لسنا بحاجة لأن نفعل ذلك. لكنني أعرف أن كثيراً من العلامات التجارية ستتلاءم بشكل ممتاز مع شركتنا، وأعرف أن المالكين سيكونون في غاية السعادة".
لم يستطرد أرنو، لكن الأشخاص المطلعين على استراتيجية "إل في إم اتش" يقولون إن الشركة العملاقة ستبحث في أمر الشركات التالية إذا ما عُرضت للبيع: "ريتشمونت" أو "أرماني" أو "برادا"، وكذلك في أمر صانعي الساعات "باتيك فيليب" (Patek Philippe) و"أوديمار بيغيه" (Audemars Piguet)، وذلك برغم غياب دلائل على أن مالكيها يتقبلون البيع حالياً.
رفض متحدث باسم "إل في إم اتش" التعليق. لكن أرنو عبّر عن إعجابه بالملياردير الجنوب أفريقي يوهان روبرت، الذي يرأس "ريتشمونت". ويقول أشخاص مقربون من أرنو إنه اشترى حصة شخصية صغيرة في "ريتشمونت". في يناير، صرّح أرنو إنه إذا "احتاج روبرت إلى دعم للحفاظ على استقلاليته، فسأدعمه". بمعنى آخر: لتبدأ اللعبة!