بلومبرغ
في معرض بكين للسيارات، خلال أبريل من العام 2018، انحنى بيروقراطي صيني متقاعد وتلمّس بيديه غطاء محرك سيارة رياضية أنيقة كوبيه "ذات البابين"، والتي توصف بأنها أسرع سيارة تعمل بالبطاريات في العالم، وابتسم كالأب الذي يفخر بابنه.
ويحقّ له الرجل فعل ذلك بشكلٍ أو بآخر، فقبل عقدين من الزمان، أقنع "وان غانغ" (Wan Gang) مجلس الدولة الصيني باستخدام سلطته الكبيرة في دعم تكنولوجيا السيارات الكهربائية غير المؤكدة والمحفوفة بالمخاطر. ودعا إلى استخدام أموال الحكومة، بما في ذلك الإعانات المالية، للمساعدة في إنشاء قطاع عالمي رائد يتفوق على شركات صناعة السيارات الغربية، وتحقّق ما كان يرجوه، فتلك السيارة التي أعجبته، صنعتها بالفعل الشركة الصينية "نيو إنك" (NIO Inc).
وفيما صنع "إيلون ماسك" (Elon Musk) اسمًا لنفسه بالترويج لمركبات الطاقة الجديدة (New-Energy Vehicle)، والتي يُشار إليها اختصارًا بـ "إن إي في" (NEV)، يظل اسم "وان" مستحوذاً على مساحة أكبر عند كتابة تاريخ السيارة الكهربائية فيما بعد.
ويشتري السائقون الصينيون 1 من كل 2 من السيارات الكهربائية المباعة، والتي يُشار إليها اختصارًا بـ"إي في" (EV)، فيما يغيّر قطاع صناعة السيارات عالميًا من توجهه محاولًا التكيف مع ذلك. إذًا، فهذه الثورة من صنع "وان" وزير العلوم والتكنولوجيا الأسبق صاحب الإنجازات الاستثنائية خاصةً عندما تأخذ بعين الاعتبار أنه لم ينضم أبدًا إلى الحزب الشيوعي الصيني.
سبب التفوق على الغرب
ويصفه "ليفي تيلمان" (Levi Tillemann)، المستشار السابق في وزارة الطاقة الأمريكية ومؤلف كتاب "السباق الكبير: السعي العالمي وراء سيارة المستقبل" (The Great Race: The Global Quest for the Car of the Future)، قائلًا: "إنه والد صناعة السيارات الكهربائية في الصين.. دون وان غانغ، لم يكن من المحتمل أن تندفع الصين للتفوق على الغرب، تلك كانت فكرته الكبيرة".
استقال "وان" البالغ من العمر 66 عامًا من منصبه في مارس 2018، ويعمل حاليًا في وظيفة أكاديمية بمركز أبحاث في بكين، وقد صرّح مكتبه بأنه لا يجري أي مقابلات حاليًا.
وبعد عقود من الضجة والمحاولات الفاشلة، شقّت السيارات الكهربائية طريقها لتصبح خط إنتاج هام في قطاع صناعة السيارات، إذ كانت توقعات عام 2018 تُشير إلى أن إنتاج الصين من مركبات الطاقة الجديدة (NEV) قد يصل إلى مليون مركبة، أي بزيادة تقدّر بنسبة 26 بالمئة عن العام 2017.
ومن ناحية أخرى، تقترح كل من المملكة المتحدة وفرنسا والهند فرض حظر على المركبات التي تعمل بمحركات الاحتراق الداخلي، ذلك وفقًا لما صدر عن Bloomberg New Energy Finance.
عانى "وان"، قبل أن يصبح رجل المستقبل الأول في البلاد بوقتٍ طويل، خلال الثورة الثقافية في ستينيات القرن الماضي والتي قفزت بالصين "قفزة كبرى" إلى الوراء في مجال العلوم والتكنولوجيا، فعندما كان في سن الـ 16 أُرسل من شنغهاي إلى قرية نائية بالقرب من كوريا الشمالية لتعلّم القيم من الفلاحين، حيث أمضى أيامه في إصلاح جرّار البلدة الزراعي الذي يطلق الدخان وبناء شبكة كهرباء البلدة من الصفر، ذلك وفقًا للصحيفة الصينية "بيبولز دايلي" (People’s Daily) والكاتبة الأمريكية "ليزا مارجونيلي" (Lisa Margonelli) التي أجرت مقابلة مع "وان" في وقت سابق.
وكان أحد القلائل من أبناء جيله الذين حالفهم الحظ وتمكّنوا من الالتحاق بالجامعة، ثمّ حصل على قبول في برنامج الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية بجامعة "كلاوشتال يونيفيرسيتي أوف تكنولوجي" (Clausthal University of Technology) بألمانيا. وفور تخرّجه عام 1991، تلقّى عروض عمل من جميع شركات صناعة السيارات الألمانية الكبرى، إلا أنه اختار العمل لدى شركة "أودي" (Audi) لأنها كانت الأصغر حينها وفرص الترقية فيها أفضل.
وتمكّن "وان" نظرًا لعمله كمسؤول تنفيذي في قسم التخطيط في شركة "أودي" من القيام بدور السفير، إذ استعرض مصنع "أودي" المتطور في مدينة إنغولشتات أمام وفد صيني يسعى لإنعاش صناعة السيارات المتدهورة في بلاده، وكان من بين أعضاء الوفد وزير العلوم آنذاك "تشو ليلان" (Zhu Lilan)، الذي أبدى إعجابه بالمهندس.
بعد أشهر من اللقاء الأول، عاد "وان" إلى بلاده في عام 2000 ليعرض على "تشو ليلان" وبقية أعضاء مجلس الدولة الصيني فكرة تحقيق قفزة نوعية في هذه الصناعة. في ذلك الوقت، كانت الصين تختنق بالضباب الدخاني، ورأى "وان" أنّه لم يكن بمقدور شركات صناعة السيارات الصينية أن تطمح بمواكبة الشركات اليابانية أو الأمريكية أو الألمانية حين يتعلق الأمر بالمركبات التقليدية.
وضع المهندس الصيني الدؤوب نظريته بناءً على أن الاستثمار في تقنيات جديدة يمكن أن يدفع بالصين لمستوى منافس أو حتى يمنحها فرصة أخذ زمام المبادرة، كما أن ذلك يساعد البلاد على التخلص من الاعتماد على النفط الأجنبي.
ويشير إلى ذلك "بيل روسو" (Bill Russo)، مسؤول تنفيذي سابق في شركة "كرايزلر" (Chrysler) والذي يرأس الآن شركة استشارات صناعة السيارات "غاو فينغ أدفايزري" (Gao Feng Advisory) في بكين، قائلًا: "كان وان يؤكد أنه يريد إنشاء نظام يجعلنا آمنين فيما يتعلق بالطاقة، حيث المنافسة يمكن أن تكون عادلة لشركاتنا"، مضيفًا: "كان يعلم أنه لا يمكنك الفوز بالمنافسة وفقًا لقواعد اللعبة القديمة".
هذا ما فعله أيضًا بعض زملائه رفيعي المستوى، ومن بينهم نائب رئيس مجلس الدولة الأسبق "لي لان تشينغ" (Li Lanqing)، الذي بدأ عام 1952 في شركة صناعة المركبات المعروفة الآن باسم شركة "فاو جروب كورب" (FAW Group Corp)، والذي وضع خطة لإنشاء برنامج أبحاث "مركبات الطاقة الجديدة"، وهناك "ما كاي" (Ma Kai) الذي قاد سياسات تحفيز هذا البرنامج أثناء إدارته للجنة الوطنية للتنمية والإصلاح (National Development and Reform Commission) والتي تساعد في الإشراف على الاقتصاد.
في عام 2007، أصبح "وان" وزيرًا للعلوم والتكنولوجيا ليشرف على مليارات من اليوان، وأصبح بمقدوره توجيه أموال البحث والتطوير نحو الصناعات المفضّلة، ودائما ما تحدّى المهندسين الصينيين أثناء تقلّده هذا المنصب، إذ تحدّاهم مرة في صنع أسطول من الحافلات الكهربائية لأولمبياد بكين 2008، وفي العمل على توفير 1000 مركبة تعمل بالبطارية في شوارع كل مدينة من المدن الرئيسية، وفي ربيع عام 2010، قدمت الحكومة الصينية إعانات تصل إلى 10 آلاف دولار لكل مركبة كهربائية (EV) تمكنت شركات صناعة السيارات من بيعها.
وأشار "وان" في تصريحات لوسائل الإعلام الحكومية في مارس 2010 إلى أنّه "ستكون هناك نافذة استراتيجية لتطوير السيارات الكهربائية على مدى 10 إلى 20 سنة مقبلة"، وأكّد قائلًا: "علينا أن نبدأ العمل من الآن"، الأمر الذي دفع وتيرة البحث والتطوير في الصين.
بعد مضي بضعة أشهر، ساد التوتر مختبر "أرغون ناشونال" (Argonne National Laboratory) وهو مركز الأبحاث الفيدرالي الأمريكي الواقع قرب شيكاغو، حيث ابتكر العلماء تقنية بطارية "ليثيوم- أيون" (Lithium-ion) المستخدمة في صنع المركبات الهجينة القابلة للشحن بالكهرباء في شركة "جنرال موتورز" (GM)، والتي تُعرف بـاسم سيارة "فولت" (Volt).
كان ذلك في أثناء زيارة "وان" للمختبر بهدف التعرف على الوصفات الكيميائية للبطاريات، إذ أنّ وكالة مكافحة التجسس الأمريكية قد أطلعت العالم "جيف تشامبرلين" (Jeff Chamberlain) وفريقه حول مخاطر تفشّي الأسرار، ما دفع الأمريكيون إلى الحذر، حتى تعرفوا جيدًا على "وان" .
ويقول "تشامبرلين" : "لقد زالت الريبة بمجرد التحدث إليه، كُنا مجرد عالمين نقارن الملاحظات. ولم أشعر للحظة -ولا حتى من بعيد- أنه كان يتجسس، ولا يعني هذا أنه لم يفعل ذلك، لكننا لم نشعر ذلك قط".
كما تلقى "وان" دعوات من صانعي السيارات من جميع أنحاء العالم لزيارة مصانعهم.
فمن جانبه، أفاد "ماكوتو يوشيدا" (Makoto Yoshida) المسؤول عن الشؤون الحكومية في شركة "نيسان موتور كو" (Nissan Motor Co)، والذي قدم جولة لـ "وان" في منشأة بالقرب من يوكوهاما، حيث قاد الوزير سيارات هجينة: "لقد كان وان أهم عميل لدينا في الصين"، وأضاف: "إذا قالت الصين لا يمكننا قبول التكنولوجيا الخاصة بكم، فذلك مشكلة كبيرة بالنسبة لنا، وهذا ما جعل وان غانغ الشخص الرئيسي".
ومع نهاية 2018، أصبح في السوق أكثر من مئة نوع من السيارات الصينية من صنع شركات عملاقة، مثل شركة "بي واي دي" (BYD) التي يدعمها "وارن بافت" (Warren Buffett)، وشركات ناشئة مثل "نيو" التي جمعت نحو مليار دولار عند الطرح الأولي لأسهمها للاكتتاب العام في شهر سبتمبر من عام 2018.
وقال الملياردير "وانغ تشوانفو" (Wang Chuanfu) مؤسس شركة "بي واي دي" (BYD) -أكبر شركة لتصنيع مركبات الطاقة الجديدة في الصين، مستذكرًا لقاءً جمعه بـ"وان" في عام 2014: "لقد أُعجبت بهوس وان حول تكنولوجيا الطاقة النظيفة".
وتشكّل "مركبات الطاقة الجديدة" تقريبًا 1 من كل 20 سيارة ركاب تم شراؤها في الصين، ومن المحتمل أن تشهد هذه الأرقام ارتفاعًا في ظل الحوافز التي تقدمها الدولة والتي تجسّد إرث "وان" الحقيقي.
كما تقوم الحكومة ببناء شبكة واسعة من محطات الشحن، ما دفع المستهلكين إلى شراء المركبات الكهربائية (EV) بفرض قيود مثل تسهيل الحصول على لوحة ترخيص للسيارة الكهربائية في المدن الكبيرة، في الوقت الذي يتطلب الحصول على لوحة للسيارات التقليدية الدخول في قرعة.
وعلاوة على ذلك، بحلول عام 2019 يتعين على كل شركة تصنيع سيارات ترغب في بناء مصنع لها في الصين أن تنتج عددًا معينًا من المركبات التي تعمل بالبطاريات أو أن تشتري نقاطًا من الشركات المنافسة عوضًا عن ذلك لتجنب الغرامة.
ويرى العالم الأمريكي "تشامبرلين" بأن هذه التغييرات مفيدة، فمنذ عام 2016 وهو يدير شركة "فولتا إنيرجي تيكنولوجيز" (Volta Energy Technologies)، وهي شركة ناشئة تعمل بمجال البطاريات في نابرفيل، إلينوي.
وأشار إلى أنّ الثورة التي أحدثها "وان" تعني أنه لم يعد مهمًا إذا تراجعت الولايات المتحدة عن معايير خفض الانبعاثات أو كفاءة الوقود، كما تحدث الرئيس "دونالد ترامب" (Donald Trump).
وقال "تشامبرلين": "إذا أرادت أي من الشركات العالمية، سواء "فورد" (Ford) أو "جنرال موتورز" (General Motors) أو "فولكس واجن" (VW) أو "هيونداي" (Hyundai) أو "تويوتا" (Toyota)، المشاركة في السوق الصينية، فيجب عليها امتلاك مركبات كهربائية"، مضيفًا: "أنا سعيد من أجل وان غانغ فتلك كانت رؤيته منذ سنوات عديدة".