كيف تتكيّف دور السينما مع احتمالية زوالها؟

time reading iconدقائق القراءة - 12
دور السينما الأمريكية تعاني من عزوف الرواد مع تفشي فيروس كورونا. - المصدر: بلومبرغ
دور السينما الأمريكية تعاني من عزوف الرواد مع تفشي فيروس كورونا. - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

في وقت كان يبلغ فيه سعر كيس الفيشار الواحد 10 دولارات داخل دور السينما في الأيام العادية، وقيمة استئجار صالة سينما كاملة مقابل 99 دولاراً ويبدو ذلك صفقةً موفّقة جداً، نرى أن سلسلة دور السينما "إي أم سي" (AMC Theatres) طرحت مؤخراً خطة تؤجر بموجبها صالاتها لإقامة عروض خاصة، وذلك مراعاةً للمخاوف السائدة إزاء السلامة العامة وتراجع القاعدة الجماهيرية للسينما في ظلّ جائحة كورونا (كوفيد-19). فبالنسبة لهذه السلسلة من دور السينما الأمريكية الكبرى، تمثل هذه الخطوة محاولة يائسة للصمود والاستمرارية فيما تواجه دور السينما خطر لفظ أنفاسها الأخيرة.

ومما لا شكّ فيه، أنّ ارتفاع عدد الإصابات بفيروس كورونا (كوفيد-19) مؤخراً في الولايات المتحدة، بالاقتران مع تدابير الإقفال العام والانخفاض المتوقع في النزهات العائلية خلال موسم الأعياد، قد أخذ دور السينما نحو مستقبل قاتم مع نهاية عام حافل بالأخبار السلبية.

وفي مطلع أكتوبر، عندما أغلقت سينما "ريجال" (Regal Cinemas) أكثر من 500 دور عرض في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، أُسدِلَ الستار على أكثر من 7000 شاشة. وقد سبق لقطاع السينما أن شهد غربلةً في الولايات المتحدة، وفقاً للرابطة الوطنية لأصحاب المسارح، حيث انخفض عدد صالات السينما من 7200 عام 1996 إلى حوالي 5500 في أواخر عام 2019. بيد أنّ هذا التراجع ما هو إلا تمهيد لما قد يحصل لاحقاً.

وفي هذا السياق، ووفقا لما ذكره جون فيثيان، رئيس الرابطة الوطنية لأصحاب دور السينما، خلال مقابلة لمجلّة فارايتي، فإنه إذا لم يقرّ الكونغرس الأمريكي مشروع قانون "أنقذوا مسارحنا"، المقدم من الحزبين لدعم قاعات الحفلات والمسارح التي تدهورت أعمالها جرّاء جائحة كورونا (كوفيد-19)، فإنه‘ كما صرح، "على الأرجح أنّ حوالي 70% من أعضائنا، أصحاب دور المؤسسات المتوسطة والصغرة، سيواجهون خطر الإفلاس أو احتمال التوقّف نهائياً عن العمل بحلول شهر يناير".

وخلال فترات الركود الاقتصادي السابقة، طرح أصحاب دور السينما تجارب متنوعة لجذب الزبائن، مثل إقامة "أمسيات الأواني" في زمن الكساد الكبير حين كان يتمّ توزيع قطع مختلفة من أواني المائدة كطقم فناجاين أو طبق سلطة مثلاً. ولكن على الأغلب مثل هذه العروض لن تجدي نفعاً هذه المرّة. بل إنه من المتوقع أن يزداد عدد العقارات السينمائية التي هي بحاجة ماسة لإعادة التأهيل.

غايات أخرى لدور السينما

يوجد تقليد يقضي بتكييف دور السينما من أجل إعادة استخدامها لغايات أخرى، مثل ما جرى مع دور السينما التي كانت منتشرة في الأحياء. فقد اختفى الكثير منها في النصف الثاني من القرن العشرين مع نشوء دور السينما الكبرى. وبالتالي، أعيد تحويل دور السينما الصغيرة تلك إلى مرافق محلية مثل مسارح مجتمعية أو مسارح تابعة للكنائس أو لنواد رياضية أو لمكتبات. ومثال على ذلك، أعلنت الشركة الناشئة للمركبات الكهربائية "ريفيان" مؤخراً عن خطة لتحويل مسرح "لاغونا بيتش" الذي يعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، إلى صالة عرض راقية.

بيد أنّ دور السينما الكبرى الحديثة قد تفتقر للمؤهلات الكافية لإعادة التكيّف، نظراً لأرضياتها المائلة ومساحاتها المقسّمة؛ وهذا بحسب أقوال لأصحاب دور السينما وخبراء العقارات لصحيفة "وول ستريت جورنال". وهذا الأمر صحيح في زمن تناضل فيه أغلب مراكز التسوّق التي تتبع لها هذه الدور، في سبيل تطوير ذاتها وتجديد أدوارها.

ولعلّ دور السينما ذات المباني الخاصة بها تحقّق نجاحاً أفضل في سوق العقارات بما أنه يمكن هدمها واستخدام الأرض التي تقوم عليها. وخير مثال على ذلك إحدى دور سينما "ريجال" التي تمّ إغلاقها في نورث تشارلستون في كارولينا الجنوبية ومن ثمّ تمّ هدمه بكل بساطة، مع وضع خطة لتشييد مبنى سكني بدلا منه.

ومع ذلك، يرى بعض المطوّرين العقاريين إمكانيات يمكن استغلالها في دور السينما الحديثة. ففي العام الماضي، صبّت "بي أم بي" (PMB) إحدى شركات التطوير العقاري تركيزها على المجال الطبّي، حيث قامت بتحويل دار سينما كبيرة تعود إلى الثمانينيات من القرن الماضي في غوديير، أريزونا، إلى مجموعة من المكاتب الطبية.

كذلك، قام والتر كروتشيلد، المؤسِّس الشريك في "فينتاج بارتنرز"، إحدى شركات التطوير العقاري في أريزونا، بتحويل دار سينما "فلاغستاف" إلى صالة عرض للمركبات تتمتع بالتصميم الأكثر إبداعاً في الولاية.

كما أعاد المسرح المؤلف من تسع شاشات، والتابع لسلسة "هاركنز" (Harkins)، فتح أبوابه عام 2016 كمقرّ لإدارة النقل بولاية أريزونا، وهو مؤلّف من طابقين وممتدّ على مساحة 72 ألف قدم مربّع (1 قدم مربع = 0.9 متر مربع) بما يشمل الدائرة التابعة لإدارة المركبات الآلية.

تحديات أمام استخدامات أخرى لدور السينما

لا بدّ من التنويه بأنّ عملية إعادة التكيّف هذه انطوت على تحديات عديدة، مثل شقّ النوافذ في الجدران الخرسانية للسماح بدخول الضوء الطبيعي. إلا أن النتيجة النهائية والتي تضمنت تقسيم المسارح ذات الأسقف العالية إلى طابقين مع طابق إضافي، جاءت غنية عن التعليق، على حدّ قول كروتشفيلد.

وفي هذا السياق، يوضح كروتشفيلد قائلاً: "كان مشروعاً عظيماً بما أنّ مبنى الإسمنت المصبوب في الموقع مُصمَّم في الأصل للاستخدام العام، لذا هو أشبه بصفحة بيضاء رائعة للرسم عليها. توجد ردهة ضخمة مؤلفة من أربعة طوابق. والآن بات بوسع 200 عامل كانوا موزّعين على ستة مواقع، التعاون معاً في مكتب جديد بالكامل". حتّى أنّه تمّ إبقاء بعض تجهيزات إضاءة النيون وآلات الفشار في الردهة لتقديم وجبات مكتبية خفيفة.

ويتابع قائلاً إنّ دور السينما المعاصرة توفّر إمكانياتٍ صالحةً لإعادة التكيّف (مواقع ممتازة مع الكثير من المساحات الشاغرة) شرط أن يتمتّع المطوّرون بحسّ إبداعي عالٍ.

ويوضح قائلاً: "إذا كنت تستطيع أن تجني 5 ملايين دولار من خلال القيام بعمل بسيط ويسهل تكراره، أو أن تجني مليون دولار من القيام بعمل معقّد للغاية، أو بالأحرى مهمة شبه مستحيلة، فكم من الأشخاص سيختارون الخيار الثاني؟"

وفي جنوب بيتسبرغ، يتم العمل على تحويل دار سينما أخرى إلى مبنى مكتبي من المزمع تدشينه في مايو أو يونيو 2021. إذ تستعدّ شركة "سومرا رود بارتنرز" المتمركزة في نيويورك لتحويل دار السينما الذي تمّ إغلاقها إلى مشروع متعدد الأغراض يشمل متاجر بيع بالتجزئة وشققاً ومساحة مكتبية أطلق عليها اسم "شباك التذاكر"، بوحي من ماضي المبنى.

هل من المنطقي الاستثمار في قطاع على شفير الهاوية؟

يقول يان روس، وهو مؤسِّس وشريك رئيسي في شركة "سومرا رود بارتنرز" إنّ المشروع بدأ قبل جائحة كورونا، عندما درست الشركة احتمال إعادة تطوير "ساوث سايد ووركس" وهو متجر للبيع بالتجزئة يقع بالقرب من المنطقة التي تشهد بروز شركات تقنية عالية في المدينة. وقد بحث روس وشركاؤه في احتمال تحديث دار سينما "ساوث سايد وركس" إلا أنهم استنتجوا أن إقامة دار سينما جديدة لن يشكل "الاستخدام الأمثل للأرض".

وفي هذا السياق، يوضح قائلاً: "كان بإمكاننا استثمار 5 ملايين في هذا المشروع، ولكن هل من المنطقيّ الاستثمار في قطاع على شفير الهاوية؟ لا أقول إنّنا نلمّح إلى زوال دور السينما في الوقت الراهن، ولكن عند التفكير بالأمر يمكننا القول إننا أغلقنا دار السينما هذه قبل أن تغلق بنفسها".

وعلى الرغم من أن دار السينما كانت تشهد ازدحاماً في عطل نهاية الأسبوع، إلا أنها لم تكن تنبض بالحيوية التي يمكن أن يحظى بها هذا المكان في حال استخدامه لغايات أخرى. وفي نهاية المطاف، اتفق المطوّرون على تحويله إلى مساحة مكتبية من تصميم شركة الهندسة المعمارية "هوك" حيث يتم إعداده بشكل خاص لاستهداف شركات التكنولوجيا والمستأجرين ذوي الأفكار الإبداعية.

ويتمنى روس تكرار هذا الأمر في كافة دور السينما التي أغلقت أبوابها، بيد أنّه وشركاءه لا يعتقدون أنّها مهمّة بسيطة. فهو يرى أنّ هذا المشروع بالذات نجح لأنّه عقار متعثّر يتميّز ببنية فريدة، مع منصّة فولاذية مؤلفة من ثلاثة طوابق وقابلة للاستخدام لأغراض أخرى.

ويقول ك.س. كونواي، وهو كبير الاقتصاديين لدى معهد "CCIM"، وهي مجموعة اعتماد مهني للمسؤولين التنفيذيين في مجال العقارات التجارية، إنّ احتمالات إعادة استخدام دور السينما المقفلة مشابهة لفرص إعادة استخدام المتاجر الكبرى التي تقع قبالة مراكز التسوق. فلا شكّ في أن العديد من هذه المتاجر تأثّرت بشدة نتيجة النمو الهائل الذي شهدته تجارة التجزئة عبر الإنترنت، بالتالي تحولت إلى مستودعات ومخازن تستخدم في التجارة الإلكترونية.

ويكمن السرّ في السلع كبيرة الحجم. ويوضح كونواي قائلاً: مع انتشار التسوّق الإلكتروني، غدت المرحلة الأخيرة من عملية تسليم السلع كبيرة الحجم إلى المستهلك النهائي، أو ما يعرف بالمسافة الأخيرة، عمليةً صعبةً ومكلفةً، لا بل هي مشكلة بالنسبة إلى تجّار التجزئة، لاسيما متاجر الأدوات المنزلية. وهنا تبرز دور السينما: حيث توفّر أسقفها التي يتجاوز ارتفاعها 24 قدماً ( 1 قدم = 0.30 متر) فسحةً أكبر من المتاجر متعددة الأقسام التقليدية التي يبلغ ارتفاعها 18 قدماً، وهي غالباً ما تتمركز في الضواحي ذات الكثافة السكانية بالقرب من المناطق التجارية الرئيسية الأكثر حيويةً. بالإضافة لكونها مجهّزة بأحدث الأنظمة الكهربائية وأنظمة التدفئة والتهوية وتكييف الهواء.

أمّا تلك التي تضمّ طوابق مسطحة ومقاعد في مدرّج، فيمكن هدمها بسهولة من أجل توفير مساحة للتخزين. حتى أنّ الكثير منها تحتضن منطقةً مخصصةً للصناعات الخفيفة، أي أنّها بخلاف العقارات التجارية البحْتة مثل متاجر "بست باي"، لا تتطلّب عملية إعادة تقسيم مستهلكة للوقت.

مستودعات للتخزين

ويضيف كونواي قائلاً إنّ الجهات الفاعلة في قطاع الأدوات المنزلية والمقاولات بدأت تنظر في إمكانية ملء دور السينما الكبرى في مراكز التسوّق الميتة بجزّارات العشب والجبس. كذلك فإن التكلفة المادية لهذه هي معقولة، حيث إن بناء مستودع جديد لتخزين السلع ضمن مرحلة التسليم الأخيرة قد يزيد عن140 دولاراً للقدم المربّع في المناطق الغالية. أمّا التكلفة في حال استخدام دور السينما التي تم شراؤها ضمن صفقة موفّقة، فقد تناهز 50 دولاراً للقدم المربّع، بالإضافة إلى 25 دولاراً فقط للقدم من أجل تحديث اللوجستيات، بحسب تقديرات كونواي.

وفي هذا الإطار، يوضح كونواي قائلاً: "تأخر الناس في فهم إمكانيات التكيّف وإعادة الاستخدام. فمن شأن مثل هذه الخطوات أن توفر المزيد من المساكن بأسعار مقبولة والتخفيف من المباني غير المستخدمة، كما تعيد المتاجر القديمة إلى قوائم الضرائب العقارية، حتى أنها أمر مفيد للبيئة. وثمة مزايا كثيرة. يكفي أن يكون أصحاب رأس المال أقل تخوّفاً والحكومات أكثر مرونةً!".

ومع عودة تفشّي الفيروس وبثّ العروض الأولى للأفلام عبر الإنترنت، لا يزال الغموض يكتنف مصير قطاع السينما في مرحلة ما بعد صدور اللقاح. فقد لا يرغب الجمهور في العودة إلى الصالات إلا بعد أشهر أو سنوات عديدة. حتّى أنّه أشيع أنّ شركة "أمازون" تفكّر في الاستحواذ على بعض دور السينما في مطلع هذا العام.

إلا أنّ روس من شركة "سومرا رود" يستبعد أن يكون قطاع السينما على طريق الزوال بأي شكل من الأشكال، إنما يجب اتخاذ التدابير اللازمة لإصلاح الأمور. وبرأيه، فإنّ الشريحة الدنيا (20%) من المسارح – أي تلك التي تكافح أصلاً في سبيل الصمود – قد تشهر إفلاسها ويعاد استخدامها لأغراض أخرى بعد الجائحة.

أمّا كروتشفيلد فيتوقّع أن تكون نسبة الإقفال في قطاع السينما أعلى من معظم العقارات الأخرى، مثل المكاتب، سواء بسبب الجائحة أو بسبب انتشار منصات بثّ على غرار "نتفلكس". وهو على قناعة تامة بأنّه سيتم إيجاد سبل مبتكرة لإعادة استخدام هذه المساحات.

وفي هذا السياق، يوضح أخيراً: "لا أعرف بالضبط كم من الوقت ستدوم تجربة السينما التقليدية، إلا أنّه يتوفر الكثير من العقارات والفرص".

تصنيفات