بلومبرغ
يقبل المشترون بقوة على سوق العقارات في المدن الصغيرة بأستراليا، ليقتنصوا فرصة شراء المنازل، حتى بدون معاينتها. وذلك وسط مراهنة سكَّان المدينة على انتهاء عصر العمل بدوام كاملٍ في المكاتب في خضم التغييرات التي أحدثها وباء كورونا، وهو الأمر الذي يثير الرعب في نفوس بعض السكان المحليين في هذه المدن الصغيرة من النزوح إلى تلك المناطق، والضغط على مرافقها.
وهناك شهودٌ كُثر على تلك التغييرات، ومنهم آمي موراتور، وهي معلِّمة في المرحلة الابتدائية من قرية أبويي الجبلية الهادئة، التي تبعد نحو 50 دقيقة بالسيارة عن وسط ملبورن.
وكغيرها من المواقع شبه الريفية التي أصبحت تجذب اهتماماً متزايداً، فقد قفزت شعبية أبويي. إذ أصبح المشترون يقتنصون فرصة شراء المنازل المكوَّنة من ثلاث غرف نوم في غضون أسبوعين من طرحها للبيع، لترتفع بذلك أسعار المنازل بنسبة 8.8% خلال العام الحالي، وفقاً لبيانات موقع العقارات دومين.
وتشعر موراتور بالقلق تجاه إمكانية إنهاك البنية التحتية للقرية، بالأخص مع الضغوط المتزايدة لإضعاف قوانين التخطيط المحلية، وارتفاع أعداد المنازل دون زيادة مقابلة في التمويل. وقالت: "هذا المكان يشبه الجنة، لذا نحن نتفهم رغبة الناس في الاستمتاع بما نستمتع به، لكنَّ عدم احترام السمات الطبيعية التي نحاول الحفاظ عليها، ربما يكون تأثيره كبيراً ودائماً ".
هناك أيضاً مخاوف بشأن ما يعنيه وجود مزيد من الأفراد وسط عمليات الإخلاء في موسم حرائق الغابات في الأيام المقبلة. وفي هذا الصدد، قالت موراتور: "نحن نعيش على جبل، وتحيط بنا غابة، وهناك طريقان، أحدهما لدخول البلدة والآخر للخروج منها، وبالتالي فمن المحتمل انتهاء الأمر بمأساة في الأيام الكارثيَّة التي نضطر فيها للإخلاء بسرعة".
إنَّ أبويي ليست المكان الوحيد الذي يشعر بالضغط جرَّاء هذه الموجات من الانتقال للقرى والبلدات الصغيرة. فقد ارتفعت شعبية العقارات في المناطق الريفية البريطانية هذا العام، مقارنة بلندن. وتتراوح تلك المناطق من مواقع في إنفيرنيس في المرتفعات الأسكتلندية إلى المناطق الساحلية في جنوب غرب إنجلترا، بما في ذلك ديفون وكورنوال.
وبحسب موقع العقارات رايت موف، كانت وتيرة بيع المنازل في لندن هي الأبطأ في بريطانيا، على الأقل في بداية العام الحالي، في حين كان البيع في أسكتلندا بوتيرة أسرع، فقد تمَّ بيع 26% من الوحدات في غضون سبعة أيام على طرحها.
وفي الولايات المتحدة، تزدهر أسعار العقارات المحاطة بمناطق أكثر اتساعاً، مثل بحيرة تاهو، ومقاطعة ويستشستر. ووفقاً لتقرير صادر عن المثمِّن العقاري ميلر صموئيل، وشركة العقارات "دوغلاس إليمان"، ارتفع متوسِّط أسعار المنازل في مقاطعة ويستشستر بنسبة 16% في الربع الثالث عن العام الماضي، لتصل بالمتوسط إلى 808,500 دولار، وهي أعلى قيمة تصلها منذ عام 1986.
وعلى الرغم من أنَّ انتقال مئات الأشخاص إلى مدينة كبيرة قد لا يعدو أن يكون نقطة في بحرٍ، ولا يكاد يكون ملحوظاً، إلا أنَّ السيناريو يختلف في البلدات الصغيرة، إذ يمكنك الشعور بآثار تلك الخطوة على الفور.
كانت أستراليا من الدول التي سيطرت على الفيروس بشكل كبير، وأصبحت الأنشطة الاعتيادية فيها ممكنة في معظم المدن. وقد جعل هذا موجة الانتقال، ليست بالأمر الاعتيادي، فقد سجَّلت المدن الرئيسية في البلاد أكبر خسارة فصليَّة صافية مسجلة بالنسبة لعدد السكان في الربع الثاني.
وتتحوَّل التوترات طويلة الأمد لسكان البلدات الصغيرة إلى أمورٍ واقعية، خاصة مع أصحاب منازل العطلات، الذين باتوا يقودون ارتفاع الأسعار هناك من خلال نَهَمِ الشراء بالبلدات. ووجود مخاوف تتعلَّق بالتعامل مع أعداد كبيرة من السكان الدائمين، سواء كان ذلك من خلال تحسين الطرق، أو الخدمات الصحيَّة، أو تأمين المقاعد الدراسية الكافية لأطفال هذه العائلات.
ومن هؤلاء، كارل فيتزجيرالد، وهو مدير أبحاث في مؤسسة "بروسبر أستراليا" الفكرية، ويتمتَّع بمكانة فريدة لرؤية هذه التغييرات بشكلٍ شخصيٍّ، وكخبيرٍ سياسيٍّ، فقد انتقل مع عائلته إلى بلدة مالمسبوري ذات الطراز الفيكتوري الجميل قبل أربعة أعوام. واشترت عائلته منزلاً حجرياً مبنياً بشكل يدويِّ، يتكون من ست غرف نوم، ويمتد على مساحة 27 فدان، مقابل 630 ألف دولار أسترالي "أي 464 ألف دولار أمريكي". ومنذ ذلك الحين ارتفعت الأسعار بشكل كبير، فقد أظهرت بيانات موقع "Domain" ارتفاع متوسط أسعار المنازل بمقدار 100 ألف دولار أسترالي منذ عام 2019.
يشعر فيتزجيرالد بالقلق من افتقار الحكومة لإمكانية التخطيط بشكل ملائم للتأثيرات الاقتصادية والاجتماعية المحتملة لهذا التحوُّل، خاصة بشأن الإسكان.
ويقول عن ذلك: "قلَّةٌ قليلةٌ من المناطق لديها سياسات مراعية للقدرة على تحمُّل التكاليف، فأينما نظرت، سيكون الفائز صاحب العطاء الأعلى سعراً ".
ويعدُّ بعضهم أنَّ أصحاب المنازل في موقع تأجير المنازل الشهير "إير بي إن بي"، هم من أكبر الرابحين في هذه الفترة، فقد باتوا يأجرون هذه المنازل التي هجرت من السيَّاح بسبب الوباء، ويحقِّقون الكثير من الأرباح، بحسب ما قاله فيتزجيرالد.
وبدأ نمط الهجرة ذاته في التكرار على بعد ما يقرب من 2000 كيلومتر في منطقة بوندابيرج المشمسة على ساحل كوينزلاند، فقد توجَّه المشترون بأموالهم من المدينة إلى القرية، التي تشتهر بمصنع جعة الزنجبيل و"الرم". وباتوا يجرون جولات افتراضية عبر الإنترنت في البلدة، إذ يمكنك شراء ثلاث غرف نوم مقابل أقل من 300 ألف دولار أسترالي. وبات بعضهم يشتري العقارات حتى دون معاينتها فعلياً.
ويقول الوكيل العقاري المحلي كورت ديمبسي، من وكالة "مايكلز" العقارية: "هذا غير مسبوق، هناك منازل أقل بنسبة 30% في السوق الآن، وكثيرٌ من المشترين على استعداد للشراء".
هذا الأمر لا يؤثِّر على سوق المبيعات فقط، بل إنَّ ارتفاع الطلب يدفع الإيجارات للارتفاع أيضاً، خاصةً في ظلِّ تضاؤل معدَّل الوحدات الشاغرة بشكل كبير. ويقول ديمبسي، إنَّ هناك 20 طلباً مقدَّماً لكلِّ وحدة جديدة مدرَجة للإيجار في مدينة بوندابيرج.
ويعتقد المطوِّرون أنَّ الفرصة جيدة لبناء مزيد من العقارات في المناطق الإقليمية، لكن غالباً ما تُقابل أفكارهم هذه بتجهمِ السكان المحليين الذين يخشَون المعاناة من الكثافة السكانية نفسها للمدن في ظلِّ غياب مرافق كافية كتلك التي تتمتع بها المدن.
وتعدُّ الكاتبة كارين بيكرينغ مثالاً حول تأثير ذلك، فبعد انجذابها إلى الإيجارات الرخيصة في البلدات، انتقلت إلى بالارات، التي كانت تشتهر سابقاً بالتنقيب عن الذهب، فقد أصبحت العقارات فيها أرخص بنحو 40% من ملبورن قبل عامين. لكنَّها ما لبثت أن عادت إلى مدينة ملبورن مرة أخرى. فمَعَ اكتشاف معاناة ابنها الصغير هاري من إعاقة، أصبح البقاء في المنطقة أمراً صعباً جداً، فهي لم تتمكن من الحصول على موعد مع طبيبٍ عام، أو أخصائيٍّ نفسيٍّ.
وقالت بيكرينغ: "بمجرد أن أدركنا مدى حاجة هاري للتدخُّل المبكر، كنَّا نبحث عن احتياجات علاجه في قوائم الانتظار، التي تصل إلى عامين أو ثلاثة أعوام، مثل تعليم النطق والعلاج المهني، بالإضافة إلى أخصائيين نفسيين للأطفال".
وعن تجربتها بالانتقال من مدينة كبيرة إلى بلدة، تقول بيكرينغ: إنَّها اكتشفت أنَّ الفوائد الاقتصادية لهذه الخطوة تقابلها تكاليف غير متوقَّعة، فلم يتوقف الأمر على الإنفاق لاصطحاب ابنها إلى مواعيد الأخصائيين في المدينة؛ بل إنَّ السفر لهذه الرحلات كلَّفها وقتاً أيضاً. وبالرغم من أنَّ بيكرينغ ما تعمل من المنزل غالباً، إلَّا أنَّها عقدت اجتماعاتٍ وفعاليات للعمل في المدينة، وبات السفر المتكرِّر إلى المدينة أكثر تكلفة، وصعَّب عليها وضع جدولٍ زمنيٍّ واضحٍ.
وتضيف بيكرينغ أخيراً: "يتحدَّث الكثير من أصدقائي الآن عن الانتقال إلى البلدات والقرى. تلمع أعين الناس عندما يشاهدون أسعار المنازل الكبيرة والرخيصة، إلَّا أنَّ هناك الكثير من الأمور التي يجب التفكير فيها قبل اتخاذ هذه الخطوة".