لا تعد معظم الانتقادات لأنشطة المستخدمين على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي صارمة أو مفيدة، أقصد بذلك أنها لا توضح بصورة كافية كيف يتسبب قضاء الكثير من الوقت في استخدام الإنترنت في إحداث المشكلات، وما العمل إذا ما كان ذلك صحيحًا. فاسمحوا لي أن أطرح عليكم فرضية وحلًا أوليين.
عالم النفس "دانييل كانيمان" (Daniel Kahneman)، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، أعدّ وشارك في عدد من الأبحاث حول السعادة، يُميز فيها بين استمتاع الشخص باللحظة وإحساسه العام بالرضا عن حياته، فقد تبين أن هذين الأمرين متباينان تمامًا.
على سبيل المثال، قد تستمتع بقضاء ليلة ما مع أصدقائك في الخارج، دون أن تشعر لدى تذكرك هذه اللحظة بأنك قد عشت حياة جيدة مرضية؛ بل قد تتمنى لو أنك قضيت هذا الوقت في القيام ببعض الأعمال الخيرية، كما قد تكون تربية الأطفال على نقيض ذلك مجزية على المدى الطويل، وإن كانت تزيد من توترك بل وتقلل من شعورك المباشر بالسعادة لحظتها.. (ألم تسمع الدعابة التي تقول: أفضل شيء في إنجاب الأطفال قضاء ليلة بعيدًا عنهم؟).
ولطالما فاضل الناس بين هذين النوعين المختلفين من المكافآت، ومما لا شك فيه أننا لا نفاضل بينهما بشكل صحيح دائمًا.
الجديد في الأمر أن حياة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي قلبت التكاليف النسبية للمكافآت بشكل جذري، إذ أصبح من الأسهل اليوم تحقيق السعادة الفورية مقارنة بالخيارات التي كانت متوافرة عام 1968، فالبريد الإلكتروني وفيديوهات "تيك توك" (TikTok) والتغريدات اللاذعة أو الغاضبة– أيا كانت رغبتك من الإنترنت- لا تبعد عنك سوى بمقدار كبسة زر، وكما تنبأ خبراء الاقتصاد، فإن الناس في سعي وراء تحقيق السعادة المؤقتة.
بالنسبة لي، فأنا أستمتع بالوقت الذي أقضيه على "تويتر" (Twitter)، حيث أقوم بتفقد التغريدات والاستمتاع بالمجان، إلا أنني لا أتخيل أنني سأعود بذاكرتي يومًا إلى الوقت الذي قضيته وأنا أتفقد هذه التغريدات.
سعادة قصيرة الأمد
دائمًا ما أعود بذاكرتي إلى أيام الدراسة، وكيف اعتاد أصدقائي الذهاب بدراجاتهم إلى منازل بعضهم، للخروج في نزهة، أو الاستماع إلى الألبومات الموسيقية، ورغم أنني لا أذكر تمامًا كم كان ذلك ممتعًا، فإنني لا أزال أحتفظ بهذه الذكريات الغالية، والأمر ذاته ينطبق على تجارب السفر التي مررت بها، حتى إن كانت في حينها مرهقة ومليئة بالأنشطة الشاقة.
أستنتج من كل هذا أن حياة الإنترنت تحثنا على ألا نستثمر كثيرًا في ذكرياتنا والشعور بالرضا على المدى الطويل، فبناءً على السلوك البشري، يبدو جليًا أن الإنترنت يسعى إلى تعزيز السعادة قصيرة الأمد.
والأسوأ من ذلك في اعتقاد البعض دور حياة الإنترنت في إعاقة فهمنا لحياتنا الخاصة، وإن كنت لا أرى ذلك، ففي نهاية المطاف، يتخذ الناس خيارات شبيهة في الموازنة بين لحظات السعادة طويلة وقصيرة الأمد عندما يميلون لإنجاب طفل واحد بدلًا من أربعة، أو عندما يمارسون الرياضة باستخدام الدراجة الثابتة بدلًا من ركوب الطائرة إلى باريس، وهي خيارات قد لا تكون خاطئة للجميع.
يشار هنا إلى إمكانية استخدام الإنترنت في إيجاد ذكريات جميلة، أو تحسين الشعور بالرضا على المدى الطويل، فهو يساعدنا في اختيار شريك الحياة الصحيح (وفي ذلك تلميح إلى الأطفال الأربعة) أو التخطيط لقضاء إجازة لا تُنسى.
إدمان الإنترنت
كثيرًا ما أسمع النقاد يصفون السلوك المتبع عبر الإنترنت بـ"الإدمان"، لكن للإدمان مجموعة من التعاريف الطبية والسريرية، ومن الصعب توظيفه في سياق التكنولوجيا، فعلى سبيل المثال، لا أرى العديد من الناس يرمون هواتفهم الذكية بقدر سعي الأشخاص الذين يريدون الإقلاع عن الكحول أو التدخين، في حين أن العديد من الأشخاص الذين يريدون هجر مجالات معينة من الإنترنت مثل التدوين أو موقع "تويتر" يظهرون القدرة على ذلك دون هجر الإنترنت بأكمله.
يصعب القول رغم ذلك إن الإنترنت لم يجعل الأمور تبدو أسوأ، لا سيما لأولئك الذين يسعون للحصول على الملذات المؤقتة، فالإنترنت يُغذي ميولهم، كما لا بد لنا من أن نشير إلى ما يقدمه الأشخاص الذين ينعمون بذاكرة غنية بالذكريات طويلة الأمد، من فوائد للمجتمع ككل، من خلال الحكم والمواعظ والإلهام.
هناك الكثير من النقاشات حول تنظيم الإنترنت أو التحكم به، واسمحوا لي أن أقترح نهجًا بديلا، مثل استخدام السياسة للمساعدة في تحقيق الرضا وتكوين ذكريات طويلة الأمد، فلتجعلوا إنجاب الأطفال وتربيتهم أرخص وأسهل، واجعلوا نظام التعليم يدعم المزيد من الرحلات الدراسية إلى الخارج وفكروا في طريقة تسهل تحقيق الرضا على المدى الطويل.
هناك العديد من العيوب البشرية وراء خياراتنا التي نتخذها عبر الإنترنت، لكن، لم لا نسلط الضوء على الجوانب الإيجابية ونترك للناس حرية الاختيار؟