يواجه علم الاقتصاد السلوكي وقفة مع الذات. فعلى مر عقود، تحول تطبيقُ علم النفس البشري على الاقتصاد من موضوع جاف إلى آخر عصري مرتبط بيوميات الحياة. بدا هذا المجال فيما مضى منفصلاً عن الواقع ومليئاً بنماذج مجردة بدأت بفرضية أن الناس سيتصرفون بعقلانية بناءً على رغبة عامة بصنع أشياء والحصول على مقتنيات أكثر. لكن جاء بصحبة ذلك جيلٌ من الاقتصاديين وعلماء النفس يروي الحكايات عن مدى جنوننا جميعاً وسوء فهمنا للمخاطر. كانوا يقصدون من المعنى الضمني الإغراء بأن الحكماء من التكنوقراطيين يمكنهم استخدام هذه المعرفة لتوجيه جماهير لا عقلانية إلى سلوك أفضل، أو على الأقل سلوك مجدٍ تجارياً.
والآن، يبدو هذا التفكير مبالغاً بقدره، ويسري ذلك على فكرة إمكانية أو وجوب التسويغ للناس كي يتخذوا قرارات أفضل عند مواجهتهم بالمخاطر. ذهب علم الاقتصاد السلوكي أبعد مما ينبغي، حيث أُفرِط في تقييمه وسِيء استخدامه جهلاً وعمداً، لكنه ما يزال قابلاً للإصلاح. أوضح الوباء في جملة دروسه، أنه بدلاً من أن ندفع الناس تجاه سلوك معين، من الأفضل لنا استخدام ذات الأفكار لمساعدتهم على اتخاذ خيارات أفضل لأنفسهم.
غالباً ما يبادر أصدقاء أو غرباء حسنو النية بتذكير الاقتصاديين أن علم الاقتصاد معيب لأنه يفترض أن الناس عقلانيون، في حين أنهم ليسوا كذلك. ما يقصده المشككون بكلمة عقلاني ليس واضحاً على الدوام، لكن غالباً ما يتعلق بالنزعة لاتخاذ قرارات سيئة. وثمة صدقية في ذلك. يعاني الناس في استيعاب مفهوم الاحتمالات خاصة عند عدم التيقن. مصداقاً لذلك، انظروا إلى صعوبة فهم معظم الناس لفاعلية لقاحات كوفيد-19.
تسرع بالقرارات
كما نميل نحن معشر البشر للمبالغة في المخاطر البعيدة ولتجاهل الأحداث المرجحة. حتى حين نقيم المخاطر بدقة، فإننا نؤجل في بعض الأحيان ما هو في صالحنا أو نتخذ قرارات سريعة نندم عليها لاحقاً.
تعني كلمة "عقلاني" في علم الاقتصاد أن الناس يداومون على سلوكهم ذاته، لكنهم لا يفعلون ذلك. تضم أدبيات الاقتصاد السلوكي أدلة كثيرة على أن الناس -لدى مواجهتهم خياراً في موقف محفوف بالمخاطر- ربما يعتمد قرارهم على كيفية تقديم البيانات لهم أو ينطلق مما قد يخسروه. رأينا أمثلة عديدة في العام الماضي عندما بذل أصدقاؤنا جهوداً كبيرة لتجنب أي مخاطر بعيدة تتعلق بالوباء. لكنهم في الوقت ذاته مارسوا سلوكاً خطراً كالسواقة بسرعة. يقود هذا النمط السلوكي اقتصاديين كثيرين لإعادة التفكير بنماذجهم. بحثت الحكومة والشركات عن طرق لاستغلال الانحرافات بغية إحداث سلوك معين. وأصبح تعيين خبير اقتصاد سلوكي شائعاً لدى شركات كثيرة، حتى أن الحكومة البريطانية أنشأت وحدة للوكز.
ربما نكون قد بلغنا ذروة الوكز. فقد كُشف أخيراً أن عالم السلوك الشهير دان أريلي استخدم ما يبدو أنه بيانات مزورة وتراجع عن إحدى أشهر دراساته حول كيفية تشجيع النزاهة حين تعذر تكرار نتائج الدراسة. حتى قبل تلك الفضيحة، كانت هناك عدة حالات تعذّر فيها تكرار التحيزات المعروفة، وكانت الأدلة على أن كل الوكز يمكن أن يحدث فرقاً ضعيفة.
تبدو البيئة مهيأة لرد فعل عنيف بعد أكثر من عام من شعور ناس كثيرين بأن الحكومة لم تكن صريحة معهم فيما يتعلق بالمخاطرة الوبائية، رغم أن الاقتصاد السلوكي ليس مسؤولاً عن ذلك. أعلن جايسون هيريها، الرئيس العالمي السابق للعلوم السلوكية في "ولمارت" (Walmart)، هذا العام عن وفاة علم الاقتصاد السلوكي.
تلاعب أم وكز
دافع كاس سنستين، وهو من أوائل المؤيدين والمؤلفين المشاركين لكتاب "نودج" أو الوكز، عن هذا النهج. يقول إنه يجب استخدام الوكز لمساعدة الناس على اتخاذ قرارات أفضل، بدل التلاعب بهم. ويشير أيضاً إلى أن الوكز أقل تدخلاً من تحديد مهام وآجال والقيود الأخرى.
للإنصاف، يعد الاقتصاد السلوكي مجالاً كبيراً وجديداً وليس هناك معايير واضحة حول من يمكنه أن يطلق على نفسه اسم خبير فيه. كان لا بد من وقوع بعض الانتهاكات. حقق هذا المجال أيضاً بعض الانتصارات: أدى تسجيل الأشخاص تلقائياً في حسابات التقاعد إلى زيادة الادخار، كما أدى تسجيل الأطفال تلقائياً للحصول على وجبات مدرسية مجانية لتقليل الجوع.
لكن بشكل عام، كانت الفكرة التي يمكننا من خلالها حث الناس على اتخاذ خيارات أفضل من خلال استغلال تحيزاتهم السلوكية مبالغاً فيها دائماً. من الصعب إقناع الناس بعمل ما لا يريدون، خاصة عندما لا تفهم تماماً دوافعهم الفريدة. إذا لم تُقدم البيانات بوضوح وصدق، فإن محاولات تنبيه الناس يمكن أن تؤدي إلى هزيمة الذات عندما لا يثقون بك.
هناك مجال لفعل ما هو أفضل. فبدلاً من حث الناس على تحمل مخاطر معينة أو تجنبها، يجب أن يكون هدف صانعي السياسات ووسائل الإعلام والشركات هو إيجاد طرق للإبلاغ عن المخاطر بطرق من المرجح أن تكون منطقية للناس. الاحتمالاتُ اختراعٌ حديث نسبياً. لكن البشر يتعاملون مع المخاطر منذ آلاف السنين. يجادل علماء النفس مثل غيرد جيجرينزر بأن الخبراء يجب عليهم ويمكنهم إيجاد طرق للتعبير عن الخيارات المحفوفة بالمخاطر بطريقة يتواصل بها الناس وتكون طبيعية بالنسبة لهم. أحد الأمثلة البسيطة هو الحديث عن المكررات بدلاً من النسب، لأن 1 من 100 أكثر بديهية من فرصة 1%.
يجب أن يدفع رد الفعل العنيف للاقتصاد السلوكي لإعادة التفكير في كيفية استخدام المعايير لتوضيح المخاطر بطرق واضحة ومفهومة، ثم الثقة بالناس لاتخاذ الخيارات الصحيحة لأنفسهم.