لم يعيِّن بوريس جونسون، ديفيد فروست مسؤولاً عن ملف انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من أجل أن يبني جسوراً مع الاتحاد.
فمنذ ترقيته إلى مستوى وزير بالحكومة في فبراير الماضي، وفروست، الناشط السابق ضمن جماعات الضغط الداعمة لصناعة الويسكي، الذي يشتهر بارتداء جوارب بألوان العلم البريطاني، يستمتع برمي قنابل دبلوماسية نحو الاتحاد، متهماً بروكسل باتخاذ موقف متصلِّب تجاه إيرلندا الشمالية في وقتٍ تعرقل فيه التعقيدات الروتينية التبادل التجاري، وسط تصاعد الغضب السياسي المحلي.
إعادة التفاوض
قنبلة فروست الأولى تمثَّلت في مطالبته بإعادة التفاوض على شروط التجارة في مرحلة ما بعد الخروج من الاتحاد، بعد مرور سبعة أشهر فقط على توصيف تلك الشروط بالنصر المطلق لصالح بريطانيا، ليتبيَّن أنَّ الاستقرار الذي تحقَّق بموجب الاتفاق المؤلف من 1200 صفحة كان أمراً مؤقتاً.
بالطبع، جاء رفض الاتحاد الأوروبي قاطعاً، نظراً إلى عدم التزام جونسون وفروست باحترام الاتفاقية من الأصل، إلا أنَّ الاتحاد ظلَّ منفتحاً على إمكانية التوصُّل إلى "حلول مبتكرة"، شرط ألا يعيد الرجلان فرض التشدُّد على الحدود في إيرلندا، وألا يسعيا لدخول السوق الموحَّدة عبر الباب الخلفي.
عدائية وخصومة
في هذا السياق، يُتَوقَّع أن تستمر هذه الدوامة من العدائية، والخصومة، والتنازلات المتفرقة لفترة إضافية، فتُشكِّل تحدياً فعلياً للاتحاد الأوروبي المعتاد على جيران من نوعٍ آخر يطمحون للانضمام إلى التكتل، مثل دول البلقان، أو دولة ذات تاريخ طويل مع السوق الموحَّدة، مثل سويسرا.
إذ تبدو المملكة المتحدة أشبه بتركيا، فتمثِّل مصدراً للتوترات الجيوسياسية لجيرانها، ومع ذلك تجد طريقها نحو الدبلوماسية الأوروبية.
إلا أنَّ التعامل مع بريطانيا العدائية تجاه الاتحاد قد يتطلَّب على الأرجح نهجاً مختلفاً، ومساراً بعيد المدى.
تكمن مشكلة العلاقة بين بريطانيا والاتحاد في ظهور نزاعات ناجمة عن الهيكلية التكنوقراطية التي اتبعها فريق مفاوضي الاتحاد الأوروبي بقيادة ميشال بارنييه من أجل التوصل لاتفاق "البريكست"، مما أدى بالضبط إلى نوع الفوضى التي يقصدها جونسون.
مناوشات مع فرنسا
إنَّ مسألة الصيد في المياه البريطانية تحوَّلت إلى حادثة دبلوماسية في مايو الماضي، فقد أثار فرض قيود جديدة على الرخص غضب فرنسا التي هدَّدت بقطع إمدادات الطاقة عن المملكة المتحدة.
ومؤخَّراً، قامت المملكة المتحدة وبشكل مثير للسخرية بإدراج فرنسا ضمن الدول التي على المسافرين القادمين منها أن يخضعوا للحجر الصحي، بما يشمل الأشخاص الملقَّحين أيضاً، وهو قرار انتقدته فرنسا علناً، ووصفته بـ"غير العلمي"، إذ يبدو من الظاهر أنَّه تمَّ اتخاذه في المراحل الأخيرة من الاتفاقية الثنائية بين البلدين حول دوريات مراقبة الحدود البحرية للحدِّ من تسلُّل المهاجرين.
وعلَّق النائب الفرنسي ألكسندر هولروي قائلاً، إنَّ الفرنسيين يعامَلون كأشخاص "مستهدفين" من قبل البريطانيين.
بريطانيا تأمل في مزيد من التسهيلات
من المستبعد أن يحقق فروست وجونسون انتصارات كبرى في حال اختارا المواجهة المباشرة، مع ذلك يبدو أنَّهما راضون بما يحصلان عليه من فتات الدعم المحلي للبريكست، وبعض التنازلات الأوروبية من حين إلى آخر. فعلى صعيد التجارة مع إيرلندا الشمالية على سبيل المثال؛ وافقت المفوضية الأوروبية ذات الموقف المتصلِّب المفترض، على منح الشركات البريطانية التي تبيع اللحوم المجمَّدة إلى إيرلندا الشمالية فترة سماح أطول.
ولكن ما تراه بروكسل متنفساً مؤقتاً، يتحوَّل في أعين البريطانيين إلى فرصة للمطالبة بالمزيد، ومن هنا كان الاندفاع نحو إعادة التفاوض.
مسار سام
لن تفلح أي استجابة تكنوقراطية بحتة مصمَّمة لتفادي مواجهة مفتوحة في وقف هذا المسار السام.
إذ على الرغم من أنَّ التصعيد القانوني مبرر، ولكن هل سيكون فعَّالاً؟ وماذا سيغيِّر إذا كانت النتيجة النهائية ستبدو أشبه بنزاع بين "إيرباص"، و"بوينغ" أمام منظمة التجارة العالمية؟. يتحدَّث بارنييه عن الحاجة إلى القيام بردَّة فعل مباشرة بموجب ما نصَّ عليه اتفاق التجارة بين الطرفين، إلا أنَّ نفوذ بارنييه الأوروبي قد خفت مؤخَّراً في ظلِّ سعيه لإعادة إطلاق مسيرته السياسية في فرنسا.
فضلاً على ذلك، فقدت المفوضية بعضاً من مصداقيتها في ظل وباء كورونا، بالأخص بعد قرارها المتسرِّع (الذي عكسته لاحقاً) حول ضبط تصدير اللقاحات.
ضعف أوروبي
كذلك؛ فإنَّ انتظار الأمور لتتطور بما يكفي من أجل القيام بردِّ فعل دبلوماسي أوروبي لن يساعد على الأرجح.
والمثال التركي خير شاهد على ذلك، ففشل قبرص في العام الماضي بالحصول على موقف أوروبي صارم موحَّد ضد أنشطة التنقيب التي كانت تقوم بها أنقرة في شرقي المتوسط، جعل الاتحاد الأوروبي يبدو ضعيفاً أكثر حين فشل في الاتفاق على عقوبات على بيلاروسيا (بسبب تعنت قبرص).
فإذا اعتبرنا إيرلندا الموازية لقبرص في حالة البريكست، يبدو من الخطر انتظار وقوع أزمة كبرى هناك قبل السعي لتبني موقف أوروبي مشترك.
بدل ذلك، فإنَّ الاتحاد الأوروبي مدعو لتبني استراتيجية أكثر تناسقاً، مصممة بشكل خاص للتعامل مع المملكة المتحدة، وتجمع بين المفوضية والدول الأعضاء بأسلوب يختلف عن النهج المعتاد المتَّبع فيما يتعلَّق بـ"دولة ثالثة".
فهذه هي العلاقة التي يريدها جونسون وفروست، التي سيحصلان عليها على الأرجح، بحسب فيديريكو فابريني من معهد بركسيت في جامعة مدينة دبلن.
سياسة العصا والجزرة
من شأن مثل هذه السياسة المعدَّة خصيصاً للتعامل مع المملكة المتحدة أن تمكِّن الاتحاد الأوروبي من ممارسة سياسة العصا والجزرة، فيلوِّح بعصا جيوسياسية صارمة حين يتخذ القرارات حيال ردود الفعل على الصعيد التجاري، في حين يصدر قرارات يمكن وصفها أكثر بالجزرة على المدى الطويل (ربما بعد فترة بعيدة) حين يصبح بالإمكان بناء نهج تعاوني أكثر.
على صعيد الأمن الخارجي والدفاع، من الواضح أنَّ الاتحاد الأوروبي قد ضعف بسبب خروج بريطانيا (فرنسا باتت القوة العسكرية الجدية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي ذات القدرات النووية).
كذلك؛ فإنَّ التعامل مع مدينة لندن بشكل استراتيجي- نظراً إلى طموحات الاتحاد الأوروبي في مجال التمويل- قد يكون مفيداً أيضاً.
إلى ذلك الحين، من المتوقَّع أن تستمر هذه القنابل الدبلوماسية في السقوط على بروكسل، بوميض جوارب بألوان العلم البريطاني.