برزت سياسة التيسير الكمّي وسيلة استجابة لطارئ، وهو انخفاض حادّ في الطلب الكلي أواخر 2008 إلى مطلع 2009. منذئذ، باتت أداة السياسة الرئيسية لبنوك الاقتصادات المتقدمة المركزية. مبدئياً لا غضاضة، فلطالما خاضت البنوك المركزية في السندات الحكومية شراءً وبيعاً من باب إدارة عرض النقد، بيد أن نهمها لشراء السندات في عامنا هذا وسابقه أثار مخاوف حول أثر ذلك في التضخم، خصوصاً في ظل ظروف لم تتضح فيها حصافة ضخ مبالغ نقدية كبرى.
وقد حل التضخم بنا راهناً، إذ بلغ في الولايات المتحدة 5.4%، ويبلغ 2.5% في المملكة المتحدة، ناهيك بتوقع ارتفاعه في المستقبل بعد أن تجاوز تسارع ارتفاع الأسعار توقعات البنوك المركزية. هذا ما جعلها تتراجع أخيراً عن التزام سياسة "خفض أسعار الفائدة لمدة أطول"، التي تبنتها حين غلب الظن باستمرار انخفاض التضخم إلى أجل غير مسمى. تلك بداية، إلا أن الشأن يتطلب إعادة التفكير ملياً في كيف ومتى يكون التيسير الكمي مطلوباً.
أصدرت لجنة الشؤون الاقتصادية في مجلس لوردات المملكة المتحدة، التي أنتمي إلى عضويتها، تقريراً حول تحديات استخدام عمليات شراء السندات على نطاق واسع، كإحدى أدوات السياسة النقدية. ويطرح عنوان التقرير سؤالاً بدقة: "هل التيسير الكمي إدمان خطير؟" جوابنا بكلمة واحدة هي: "نعم".
نقاط التقرير الرئيسية
1- لا تكونوا أسرى سياسة واحدة. رغم تبنّي البنوك المركزية سياسات نقدية ومالية توسعية، يبدو أنها تعتبر المخاطر المؤدية للتضخم عابرة تماماً. ينطبق ذلك على بعض مقومات زيادة التضخم بصورة شبه أكيدة، نظراً إلى الارتباط بالتأثيرات الأساسية. كما بدأت نسب نمو عرض النقد الواسع بالتراجع من نسب مرتفعة بشكل استثنائي سجّلتها في نهاية العام الماضي وبداية الحالي. ومع ذلك، اتسمت تصريحات البنوك المركزية، على الأقل حتى الأيام القليلة الماضية، بعدم الاهتمام، ما غذى انطباعاً بأن صانعي السياسة حبيسو عقلية "أسعار فائدة منخفضة لفترة أطول". هذا مهم لأن السياسة إن تخلفت عن الركب فستكون تكلفة التصدي لارتفاع معدلات التضخم أعلى من تكلفتها في ظل مقاربة استشرافية واستباقية.
2- التيسير الكمي ليس دواء كل بلاء. بدا الأمر وكأن البنوك المركزية تفترض أن أي صدمة سلبية تبرر جولة أخرى من شراء السندات. فغدا التيسير الكمي حلاً كونياً لأي انتكاسة تلحق بالاقتصاد الكلي تقريباً. غير أن بعض الصدمات تستوجب، دون سواها، استجابة تعتمد على السياسة النقدية. لقد تباينت تفسيرات البنوك المركزية لتبرير حجم استخدام التيسير الكمي في 2020 على مدى العام، كما فشلت في التمييز بين الصدمات التي بررت الاستجابة النقدية وتلك التي لم تستوجبها. علاوة على ذلك، فإنه بعد عقد من النمو البطيء ليس واضحاً البتة أن أداة السياسة النقدية قصيرة الأجل هذه ستظل فعالة في تعزيز الإنفاق والإنتاج.
3- مخاطر تهدد استقلالية البنوك المركزية. تعمقت اللجنة في بحثها بشأن العلاقة بين سياسة التيسير الكمي والماليات العامة. سهّل التيسير الكمي تمويل عجز الميزانيات الضخمة على الحكومات في خضمّ ظروف استثنائية فرضها "كوفيد-19". لكن عندما تقلل البنوك المركزية هذا الدعم، هل ستتعرض لضغوط للمساعدة في تمويل العجز المستمر في الميزانيات أو للإبقاء على أسعار الفائدة قصيرة الأجل قريبة من الصفر؟ نعم، من المحتمل أن تتعرض لذلك، إذ تعمل البنوك المركزية اليوم في بيئة سياسية أصعب مما كانت عليه قبل عقدين.
4- وضع خطة للتخلي عن التيسير الكمي. تفعيل سياسة التيسير الكمي يميل إلى أن يكون استجابة لأخبار سيئة، لكنها لا تُعكَس عند زوال تلك الأخبار. يرتفع نتيجة ذلك مخزون السندات لدى البنوك المركزية وتتضخم ميزانياتها على المدى الطويل. حين تبنّت البنوك المركزية استهداف التضخم في التسعينيات، ارتأت أن الوضوح بشأن مؤدى رد فعلهم عبر استخدام سياسة، أو كيف تتغير السياسة النقدية استجابة لأخبار، أمر حيوي لمصداقيتها. واليوم، يتخبط صانعو السياسات لتوضيح كيف أو حتى ما إذا كانت سياسة التيسير الكمي ستهجر. وهم محقون في قلقهم حيال أن إشارات عن تخفيف عمليات شراء الأصول قد تثير رد فعل حادّاً في السوق، ولكن كلما استمر الارتباك لفترة أطول، زاد الضرر المحتمل. ويبدو أن بنك إنجلترا غيّر رأيه حول تسلسل تشديد السياسة النقدية، إذ يبدو أن خطته الآن هي تقليل التيسير الكمي قبل رفع أسعار الفائدة. وفي هذا السياق، يحث تقريرنا على مزيد من الوضوح بشأن استخدام وتوضيح التعديلات المستقبلية لسياسة التيسير الكمي.
نصائح عابرة للحدود
نأمل أن تؤخذ هذه النقاط في الاعتبار، وليس في المملكة المتحدة فحسب. فقد أصبح مخزون الأصول المشتراة بموجب سياسات التيسير الكمي ضخماً، إذ يمثل 30% من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة، و40% من ذاك البريطاني. قال أعضاء لجنة السوق الفيدرالية المفتوحة التابعة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي ولجنة السياسة النقدية التابعة لبنك إنجلترا، خلال الأيام القليلة الماضية، واستجابة لأرقام معدلات التضخم الجديدة، إنهم على استعداد لإعادة النظر في مسار شراء الأصول. لكن من غير الواضح بالضبط كيف ستُجري البنوك المركزية هذا التعديل وتعلنه للمستثمرين.
التيسير الكمي بعيد عن أن يكون سياسة تلائم جميع فصول العام، أو استجابة مناسبة لأي صدمة اقتصادية. هو مرغوب فقط حين يكون التوسع النقدي مطلوباً، ولا ينطبق ذلك على الوقت الحالي. لذا، يجب تغيير وتيرة التيسير الكمي هبوطاً خلال الأشهر المقبلة، كما ينبغي على البنوك المركزية أن تساعد المستثمرين في التخطيط وفقاً لذلك.