يبدو أن سفن الشحن البحري حول العالم لا تستطيع العمل بشكلٍ منظم معاً.
بداية، كانت هناك طوابير الانتظار في الميناءين التوأم "لوس انجلوس" و"لونغ بيتش"، التي تسببت في وقوف ما يصل إلى 40 سفينة حاويات في انتظار دورها للرسو على الرصيف، في أوائل شهر فبراير الماضي، وسط تدفق كبير على هذه المنطقة المزدحمة. وسجلت الأحجام المجمعة في المحطات رقماً قياسياً بلغ 1.9 مليون حاوية في مايو، أي ما يقرب من ضعف المستوى المتدني الذي تم تسجيله أثناء أزمة كوفيد- 19 في مارس 2020.
بعد ذلك، علقت السفينة "إيفر غيفن" العملاقة، الحاملة لـ 20124 حاوية، في قناة السويس لمدة أسبوع تقريباً، مما أدى إلى تأخير مئات السفن التي كانت تشق طريقها بين آسيا وأوروبا. وحالياً، ينضم ميناء "يانتيان" في مدينة" شنتشن" الصينية إلى سلسلة الأزمات، حيث أدى تفشي فيروس كورونا إلى إلغاء الجداول الزمنية المقررة بالميناء خلال الشهر كله.
الأزمة تستمر لسنوات
إذا كنت تعتقد أن هذا يرجع في الغالب إلى وجود القليل من الزعزعة المحلية، التي ستتقلص من تلقاء نفسها بعد انتهاء الاضطرابات المرتبطة بتعافي الاقتصاد العالمي، فقد تتعرض لصدمة. لأن العوامل التي أدت لارتفاع أسعار الحاويات بين آسيا وأوروبا - ووصولها إلى مستويات قياسية تزيد على 10 آلاف دولار لكل 40 قدماً - ليست مجرد مشكلة تنسيق مؤقتة، إنما قد تستغرق العودة إلى ما يشبه الوضع الطبيعي عدة سنوات.
في الأحوال المعتادة كان قطاع شحن الحاويات يعمل بسلاسة شديدة للغاية، لدرجة أننا كنا بالكاد نلاحظه.
وكانت السفن التي تحمل 10 آلاف حاوية بمقدورها الوصول عند الفجر، ثم المغادرة بشحنة جديدة بحلول غروب الشمس، كما كانت الأسعار في بعض الأحيان تنخفض للغاية، لدرجة أنه في أوائل عام 2016 كان بإمكانك تحويل طن متري من البضائع من "شنغهاي" إلى "روتردام" مقابل حوالي 10 دولارات.
حتى في ذلك الحين، كان أكبر خط شحن في العالم، وهو "إيه بي مولر – ميرسك إيه/ أس"، قادراً على تحقيق ربح تشغيلي متواضع.
لكن على الوجه الآخر من ذلك سنجد أنه عندما تسوء الأمور في القطاع، فإنها تتدهور بشكل خطير.
الحاويات ليست في المكان الصحيح
أيضاً، يتمثل جزء من المشكلة في أن الحاويات ليست في الأماكن الصحيحة. فوفقا للمقاييس العالمية، مرت التجارة بوباء قصير وحاد بشكل ملحوظ.
وبحلول شهر سبتمبر من العام الماضي، كانت أحجام النقل تفوقت بالفعل على مستوياتها المعدلة موسمياً في يناير وفبراير، حيث ارتفع الطلب على المعدات الطبية والإنفاق على السلع المعمرة في البلدان الغنية.
وبسبب محاولة إجراء كل عملية من عمليات التسليم هذه في الوقت المحدد، أدى ذلك إلى أن العديد من السفن بدأت في الانطلاق في رحلات العودة وهي فارغة، حتى توفر بضع ساعات ثمينة من الوقت، والتي كانت تُقْضَى عادةً في تحميل الصناديق الشاغرة ومن ثم شحنها إلى الصين. ونتج عن ذلك وفرة في الحاويات الموجودة بموانئ أوروبا وأمريكا الشمالية ونقص المتوافر منها في آسيا، مما دفع أسعار الشحن إلى الوصول لمستويات فلكية على طرق التصدير.
يمكن النظر إلى تلك الأسعار المرتفعة - والفوارق الحادة مقارنة بالتكلفة الموجودة على طريق العودة - على أنها إشارات سعرية ستدفع القطاع إلى استعادة توازنه بنفسه.
ويبدو أن هذا الأمر له تأثير بالفعل، حيث تم شحن أكثر من 360 ألف حاوية فارغة من ميناء لوس أنجلوس الشهر الماضي، أي ضعف المعدلات الموسمية المعتادة تقريباً.
تراجع الاستثمارات
ستظهر المشكلة الأكبر بمجرد أن تصبح حاويات العالم متوفرة في المكان الذي نحتاج إليها فيه، فرغم أن كوفيد وجه ضربة قاصمة لأحجام البضائع العالمية، لكن التباطؤ كان مستمراً لبعض الوقت قبل ذلك، وذلك يعزى إلى الحروب التجارية التي شنها الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترمب" على بقية العالم.
وكانت حركة النقل البحري تتجه نحو الانخفاض منذ أواخر عام 2018، واستعادت فقط مستوياتها السابقة في بداية هذا العام.
نتيجة لذلك، قلص قطاع الشحن استثماراته تحسباً لتراجع دور التجارة في الاقتصاد العالمي مستقبلاً.
ومنذ مارس 2019، وصل الاستثمار الرأسمالي لشركة ميرسك إلى 2.9 مليار دولار فقط، وهو رقم لا يتجاوز بكثير المبلغ الذي استثمرته الشركة في ربع واحد فقط خلال عام 2014. وهذه مشكلة ستستغرق سنوات من بناء السفن والأرصفة ورافعات التحميل الجديدة لإصلاحها.
مدٌ وجزر
فيما مضى، ربما كانت خطوط الشحن ستتمكن من تخفيف الضغط عن طريق مطالبة سفنها بالسفر بشكل أسرع، مما يزيد من قدرة الأسطول عبر العمل بقوة أكبر.
لكن رغم ذلك، بات هذا الخيار أقل توفراً، حيث أصبح أحدث جيل من السفن العملاقة يوفر الطاقة والتكاليف من خلال الحصول على سرعات قصوى تبلغ حوالي 18 أو 19 عقدة فقط، مقارنة بـ 24 عقدة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حسبما كتبه محللو مؤسسة "مورغان ستانلي" بقيادة كارولينا دوريس في مذكرة تم نشرها خلال الأسبوع الماضي. لذلك، لا توجد مقدرة كبيرة على تحمل فترة الركود عن طريق إبحار السفن بشكل أسرع.
يميل الشحن البحري إلى الارتفاع والهبوط مثل البحر نفسه، لذا حتى هذه المشكلة سيتم تصحيحها في الوقت المناسب.
ويتوقع المحللون أن تحقق شركة ميرسك أرباحاً أكثر هذا العام مما جمعته في السنوات السبع السابقة كلها مجتمعة.
وحتماً، سيؤدي ذلك إلى التركيز مرة أخرى على بناء السفن، بحيث تظهر وفرة في سعة الحاويات حول العالم كما حدث خلال عام 2016، وهذا سيكون في مرحلة مقبلة لم تظهر على السطح بعد.
لكن رغم ذلك، ففي هذه الأثناء سيعتمد ازدهار التجارة في الاقتصاد العالمي على قطاع الشحن، الذي لم نتوقع حصوله على مثل هذا الحظ أبداً.
ستتراجع الفوضى والتكاليف الموجودة في أعالي البحار بنهاية المطاف. لكن، كما هو الحال مع أي سفينة كبيرة، سيستغرق الأمر بعض الوقت.