الرسوم الجمركية سلاح ترمب لتعزيز النفوذ العالمي في ولايته الثانية

استراتيجية ترمب تعتمد على فرض رسوم جديدة وتهديد الآخرين بهدف "الترهيب وكسب النفوذ"

time reading iconدقائق القراءة - 12
صورة كرتونية للرئيس الأميركي ترمب وهو يمسك برموز لعملات مشفرة أمام البيت الأبيض خلال تنصيبه، معروضة في متجر \"كوين هيرو\" في هونغ كونغ، الصين، بتاريخ 20 يناير 2025 - بلومبرغ
صورة كرتونية للرئيس الأميركي ترمب وهو يمسك برموز لعملات مشفرة أمام البيت الأبيض خلال تنصيبه، معروضة في متجر "كوين هيرو" في هونغ كونغ، الصين، بتاريخ 20 يناير 2025 - بلومبرغ
المصدر:

الشرق

بعد أن تعهد خلال حملته الانتخابية بإعادة الرسوم الجمركية وقلب السياسة الاقتصادية الأميركية، تحرك دونالد ترمب سريعاً، معلناً فرض رسوم جمركية جديدة تستهدف شركاء الولايات المتحدة التجاريين. 
 
ويعتمد ترمب في استراتيجيته على فرض رسوم جمركية جديدة وتهديد الآخرين بهدف "الترهيب أو كسب نفوذ" في نزاعات أخرى، وهو ما يشكل تحولاً جذرياً في الاقتصاد العالمي، إذ يسعى معظم اللاعبين الرئيسيين إلى تقليص الحواجز التجارية، حسبما تعتبر "بلومبرغ". 

وأرسل تنفيذ ترمب أجندته الأساسية "إشارات متضاربة"، إذ ترك مزيج من الإنذارات النهائية والتأجيلات والإعفاءات العديد في حيرة من أمرهم بشأن الهدف الحقيقي الذي يسعى إلى تحقيقه. 

ما الذي فعله ترمب حتى الآن؟

كان التركيز في البداية على الواردات من كندا والمكسيك والصين، أكبر ثلاثة شركاء تجاريين للولايات المتحدة. وشكّلت هذه الدول مجتمعة نحو 40% من إجمالي التجارة السلعية العام الماضي. 
 
وفيما يتعلق بالصين، التزم ترمب بشكل أكبر بتنفيذ تهديداته، فكما وعد، فرضت الولايات المتحدة في أوائل فبراير ضريبة شاملة بنسبة 10% على جميع السلع الصينية المستوردة، قبل أن تتم مضاعفتها إلى 20% بعد شهر واحد. 
 
ومع ذلك، أرجأ ترمب إلغاء الإعفاءات الجمركية على السلع منخفضة القيمة القادمة من الصين وهونغ كونغ، والتي تشمل الطرود التي تقل قيمتها عن 800 دولار. وكان من شأن هذه الخطوة إغلاق مسار شحن خالٍ من الرسوم الجمركية، يُستخدم بشكل أساسي في الشحن الجوي من قبل شركات التجارة الإلكترونية الصينية التي تحظى بشعبية بين المستهلكين الأميركيين.

وأما مع كندا والمكسيك، فقد تركت استراتيجية ترمب "المتقلبة" المسؤولين الحكوميين والشركات والمستثمرين في حالة من الارتباك. ففي البداية، أعلن ترمب عن فرض رسوم جمركية شاملة بنسبة 25% على الواردات من البلدين اعتباراً من 4 فبراير الماضي، مع معدل مخفض بنسبة 10% على منتجات الطاقة القادمة من كندا. 
 
لكن هذه الرسوم تأجلت لمدة شهر قبل أن يبدأ تطبيقها فعلياً. وعندما دخلت حيز التنفيذ أخيراً، لم تستمر سوى أقل من يومين، إذ أعلن ترمب عن مهلة إضافية شملت مجموعة واسعة من السلع. 
 
وبعد مناشدات من شركات صناعة السيارات، مُنحت واردات المركبات وقطع الغيار إعفاءً من الرسوم الجمركية حتى 2 أبريل المقبل، بشرط الامتثال لاتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، المعروفة باسم USMCA. ثم وسّع ترمب نطاق التأجيل ليشمل جميع السلع والخدمات المستوردة المشمولة بالاتفاقية، لتتراجع الحرب التجارية إلى مرحلة "التجميد الجزئي".

ما الهدف التالي؟

وسط هذا التخبط، قد يكون الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري التالي الذي يستهدفه ترمب بالرسوم الجمركية. فقد هدد بفرض رسوم بنسبة 25% على "السيارات وكل شيء آخر" قادم من التكتل المكون من 27 دولة، واصفاً الاتحاد بأنه "أُنشئ للاحتيال" على الولايات المتحدة.
 
وبالإضافة إلى فرض رسوم جمركية على بعض الشركاء التجاريين، أعلن ترمب عن إجراءات تستهدف قطاعات بعينها. فمن المخطط فرض ضريبة جمركية بنسبة 25% على واردات الصلب والألمنيوم الأميركية اعتباراً من 12 مارس الجاري، وقد أشار الرئيس إلى احتمال استهداف النحاس أيضاً. 

كما صرّح ترمب بأنه قد يفرض رسوماً جمركية بنحو 25% على جميع واردات السيارات وأشباه الموصلات والأدوية اعتباراً من 2 أبريل المقبل.
 
ويبدو أن 2 أبريل سيكون يوماً حافلاً بالرسوم الجمركية، إذ يعتزم ترمب في هذا التاريخ فرض ما يُعرف بـ"رسوم المعاملة بالمثل"، التي ستُحدد وفقاً لكل شريك تجاري بهدف تعويض أي ضرر محتمل تتعرض له الشركات الأميركية. وحذر ترمب من أن منتجات الأخشاب والألبان الكندية قد تخضع لهذه الرسوم في وقت أقرب.

كيف ردت الدول المستهدفة؟

جاء الرد الصيني سريعاً بعد مضاعفة الرسوم الأميركية، إذ فرضت بكين رسوماً جمركية تصل إلى 15%، استهدفت بشكل رئيسي الشحنات الزراعية الأميركية، كما حظرت تصدير بعض المنتجات إلى شركات دفاعية أميركية. ومع تصاعد التوترات، وصف وزير الخارجية الصيني، وانج يي، الرسوم الأميركية بأنها "شريرة" و"منافقة". 
 
وجاء الرد الكندي بنفس الحدة، حيث وصف رئيس الوزراء، جاستن ترودو، الحرب التجارية بأنها "تصرف بالغ الغباء". وعند دخول الرسوم الجمركية الشاملة حيز التنفيذ، أعلنت الحكومة الكندية عن حزمة واسعة من الإجراءات المضادة ضد المنتجات الأميركية، شملت فرض رسوم بنسبة 25% على سلع بقيمة 30 مليار دولار كندي (20.9 مليار دولار أميركي)، من بينها عصير البرتقال وزبدة الفول السوداني والنبيذ والقهوة. 

وظلت هذه الرسوم سارية رغم تراجع ترمب لاحقاً، إلا أن كندا أرجأت خططها لفرض جولة ثانية من الإجراءات الانتقامية، كانت ستستهدف سلعاً رئيسية مثل السيارات والصلب والألمنيوم. 
 
أما المكسيك، فكان نهجها "أكثر تروياً"، حيث لم تسارع الرئيسة كلوديا شينباوم إلى تبني رسوم انتقامية مماثلة، وركزت بدلاً من ذلك على التفاوض مع إدارة ترمب. ويبدو أنها نجحت في كسب ود نظيرها في الوقت الحالي، وفق "بلومبرغ". 
 
وعند إعلانه عن تأجيل الرسوم على الواردات من المكسيك حتى 2 أبريل عبر منصته "تروث سوشيال"، قال ترمب إن القرار جاء بناء على "توافق، ومن باب الاحترام للرئيسة شينباوم".

ما هدف ترمب من الرسوم الجمركية؟

خلال جلسة التصديق على تعيينه وزيراً للخزانة في أوائل يناير الماضي، قال سكوت بيسنت لأعضاء مجلس الشيوخ إن على الناس أن يتوقعوا أن يستخدم ترمب الرسوم الجمركية بثلاث طرق: لمعالجة الممارسات التجارية غير العادلة.

وهو ما قال ترمب إنه سيُنعش الصناعة الأميركية، ولزيادة الإيرادات للموازنة الفيدرالية، وهو أمر مهم للمساهمة في تمويل خططه لتمديد التخفيضات الضريبية؛ وكأداة ضغط على القوى الأجنبية بدلاً من العقوبات، التي يرى ترمب أنها استُخدمت بشكل مفرط.

ما مدى تطرف نهج ترمب؟

أوضحت "بلومبرغ " أن بعض الرسوم الجمركية الأميركية السابقة على السلع الواردة من الصين وكندا والمكسيك، كانت قريبة من أو ربما تجاوزت المستويات التي حددها ترمب. لكنها كانت تقتصر على فئات محددة من السلع، في حين أن فرضها بشكل شامل يمثل تحولاً كبيراً. 
 
وتغطي الرسوم الجمركية السابقة، رغم ارتفاعها النسبي، جزءاً صغيراً فقط من التجارة الأميركية، ما جعل متوسط معدل الرسوم الجمركية المرجح تجارياً على السلع الصناعية المستوردة يبلغ 2%، وفقاً لمكتب الممثل التجاري للولايات المتحدة. 

ويتم احتساب هذا المعدل بقسمة إجمالي قيمة الواردات على إجمالي الإيرادات الجمركية. وتشكل هذه السلع 94% من إجمالي الواردات السلعية الأميركية من حيث القيمة، فيما دخل نصفها إلى البلاد دون رسوم جمركية. 
 
وتجاوزت الرسوم الجمركية الجديدة التي فرضها ترمب تلك التي طُبقت خلال رئاسته الأولى بفارق كبير، مما رفع متوسط الرسوم على الواردات الأميركية إلى أعلى مستوى لها منذ عام 1943، وفقاً لمختبر الميزانية في جامعة ييل. 
 
وقال المختبر، في تقرير أصدره في 3 مارس الجاري، إن هذه الرسوم قد تضيف ما يصل إلى 2000 دولار من التكاليف الإضافية على كل أسرة أميركية، كما أنها ستؤدي إلى تباطؤ كبير في النمو الاقتصادي للولايات المتحدة، لا سيما إذا ردت الدول الأخرى بإجراءات انتقامية.

هل نهج ترمب جديد؟

فرضت الولايات المتحدة ضرائب مرتفعة على الواردات لفترات طويلة من تاريخها قبل أن تتخلى إلى حد كبير عن هذه السياسة في ثلاثينيات القرن الماضي، مع تبني قادتها لفكرة التجارة الحرة. 
 
وكان أحد الأسباب الرئيسية لذلك هو رد الفعل على قانون الرسوم الجمركية لعام 1930، المعروف باسم تعرفة "سموت-هاولي"، الذي أدى إلى زيادة تُقدر بنحو 20% في متوسط الرسوم على الواردات. وأثار هذا القانون رسوماً انتقامية من حكومات أجنبية، مما أدى إلى تراجع التجارة العالمية وتعميق الكساد الكبير. 

وأدى ذلك الإخفاق إلى فترة استمرت لعقود شهدت صعود التجارة الحرة، وتُوجت بإنشاء الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة عام 1947، ثم تأسيس منظمة التجارة العالمية عام 1995. وخلال تلك الفترة، تجنب الحزب الجمهوري في واشنطن فرض الرسوم الجمركية.
 
وعاد الجمهوريون لاستخدام الرسوم الجمركية خلال الولاية الأولى لترمب، حيث لجأ إليها في محاولة لإنعاش الصناعة الأميركية والتصدي لما تعتبره الولايات المتحدة ممارسات تجارية غير عادلة من جانب الصين. وواصل الرئيس السابق جو بايدن هذا النهج. 

هل يستطيع ترمب رفع الرسوم دون موافقة الكونغرس؟

بحسب "بلومبرغ"، نعم، فالكونغرس الأميركي يمنح الرئيس صلاحية تعديل الرسوم الجمركية عبر عدد من القوانين لمواجهة مجموعة من القضايا، مثل التهديدات الأمنية، والحروب أو حالات الطوارئ، والأضرار الفعلية أو المحتملة التي تلحق بصناعة أميركية، والممارسات التجارية غير العادلة من قبل دولة أجنبية. 
 
وفي حين يمكن للشركات محاولة الطعن في الرسوم الجمركية المرتفعة أمام المحاكم، فإن مثل هذه التحديات "ستواجه صعوبات كبيرة" بسبب الصلاحيات الواسعة التي مُنحت للرئيس سابقاً، وفقاً لمقال نشره مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية وشارك في تأليفه وارن ماروياما، المستشار العام السابق لمكتب الممثل التجاري للولايات المتحدة.

كيف تُحسب الرسوم الجمركية ومن يدفعها؟

تُحسب الرسوم الجمركية عادةً كنسبة مئوية من قيمة السلعة (كما يتم التصريح عنها خلال عملية التخليص الجمركي) وتُحدد وفقاً لبلد منشأ المنتج. ويصبح الأمر أكثر تعقيداً عندما يُجمع المنتج من مكونات تعبر عدة حدود، مثل سيارة تحتوي على أجزاء مُصنّعة في الولايات المتحدة لكنها تُجمّع في المكسيك ثم يُعاد استيرادها إلى الولايات المتحدة. 

ويمكن أيضاً فرض الرسوم الجمركية كمبلغ ثابت على كل سلعة. وتُمنح البضائع التي تعبر الحدود رموزاً رقمية وفقاً لتسمية موحدة تُعرف باسم "النظام المنسق الدولي". 
 
ويمكن تخصيص الرسوم الجمركية لرموز منتجات محددة، مثل هياكل الشاحنات، أو لفئات أوسع، مثل المركبات الكهربائية. وتتولى وكالات الجمارك تحصيل هذه الرسوم لصالح الحكومات.

يدفع المستورد أو وسيط يعمل نيابة عنه الرسوم الجمركية، لكن التكاليف غالباً ما تُنقل إلى المستهلكين. ويؤكد ترمب أن المُصدر هو من يتحمل التكلفة في نهاية المطاف، إلا أن الدراسات أظهرت أن العبء يتوزع على نطاق أوسع. 
 
وقد تقرر الشركة الأجنبية المصنعة للمنتج خفض أسعاره كتنازل للمستورد، أو قد تستثمر في بناء مصنع في مكان آخر لتجنب الرسوم الجمركية. 
 
وبدلاً من ذلك، قد يلجأ المستورد، مثل شركتي "وول مارت" و"تارجت"، وهما من أكبر المستوردين في الولايات المتحدة إلى رفع سعر المنتج لحماية هامش ربحه، ما يعني أن المستهلك يتحمل تكلفة الرسوم الجمركية بشكل غير مباشر.

كيف تؤثر الرسوم الجمركية على الاقتصاد الأميركي؟

قد يكون من الصعب تحديد التأثيرات الاقتصادية للرسوم الجمركية. فهي قد تحفز التوظيف عبر جذب الاستثمارات، مع سعي الشركات إلى تجنب الرسوم الجمركية من خلال نقل مصانعها إلى الدولة التي تفرضها. وفي المقابل، قد تؤدي هذه السياسات إلى فرض رسوم انتقامية من دول أخرى، ما يهدد بفقدان وظائف في قطاعات اقتصادية مختلفة. 
 
وعند فرض دولة ما رسوماً جمركية على الواردات، لا يندفع المصنعون المحليون بالضرورة إلى إنتاج السلع المتأثرة. وإذا لم يكن لدى الدولة بديل محلي لهذه المنتجات، فقد ترتفع أسعارها نتيجة لذلك. 

ما دور الصين في كل ذلك؟

على مدار عقود، حظي مبدأ التجارة الحرة بتوافق بين الحزبين في الولايات المتحدة، كما دعمته الشركات متعددة الجنسيات التي سعت إلى الاستفادة من سلاسل التوريد منخفضة التكلفة والفعالة في الخارج. لكن صعود الصين كقوة اقتصادية عالمية كسر هذا التوافق، بحسب "بلومبرغ". 
 
ومنذ انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001، حصلت الصين على وصول أوسع إلى الأسواق العالمية، رغم أن منتقديها يؤكدون أنها انتهكت نص وروح قواعد التجارة الحرة من خلال دعم صناعاتها وإجبار الشركات الأجنبية العاملة في البلاد على نقل معرفتها التقنية. 

وخلص عدد من الباحثين إلى أن المنافسة من الصين ساهمت في إبقاء التضخم منخفضاً عالمياً لسنوات، لكنها أدت في الوقت نفسه إلى تراجع التوظيف في المصانع، مع تحول الدولة الآسيوية إلى المنتج المهيمن عالمياً. 
 
وفرضت إدارة ترمب خلال ولايته الأولى رسوماً جمركية جديدة على واردات صينية بقيمة نحو 380 مليار دولار في عامي 2018 و2019. وحافظ بايدن على تلك الرسوم ورفعها في عام 2024 لتشمل بضائع إضافية بقيمة 18 مليار دولار.

تصنيفات

قصص قد تهمك

الجمارك ليست الخطر الوحيد.. نمو الاقتصاد الأميركي مهدد في عهد ترمب

الحرب التجارية تفاقم الضغوط على الاقتصاد وارتفاع تكلفة الواردات يؤثر على المستهلكين والشركات

time reading iconدقائق القراءة - 11
عمال يفرغون الصلب من سفينة شحن في ميناء ديترويت، ديترويت، ميشيغان - بلومبرغ
عمال يفرغون الصلب من سفينة شحن في ميناء ديترويت، ديترويت، ميشيغان - بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

يُتوقع أن تؤدي أحدث موجة من الحرب التجارية التي يشنها الرئيس دونالد ترمب، وتعد أضخم حزمة من الإجراءات الحمائية الأميركية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، إلى كبح جماح نمو الاقتصاد الأميركي في المدى القريب. لكنها مجرد إحدى الصدمات التي تتراكم على المستهلكين والشركات والمستثمرين الذين يتزايد قلقهم باستمرار.

وهناك أيضاً سعي إيلون ماسك إلى خفض عدد الموظفين الفيدراليين، وتشديد إجراءات الهجرة، وتباطؤ محتمل في استثمارات الأعمال وسط ضبابية سياسية طاغية. ويشير تزايد الإجماع بين المحللين الاقتصاديين إلى أن اجتماع كل هذه العوامل يرجح تباطؤ أكبر اقتصاد في العالم.

يتوقع قليلون ارتفاع خطر الانكماش المباشر للاقتصاد هذا العام، وهناك أيضاً إجراءات تدعم النمو قيد الإعداد، مثل التخفيضات الضريبية. رغم ذلك، تتزايد المخاوف من حدوث "ركود ترمبي" (Trumpcession)، وتصعيد الحرب التجارية المتبادلة لن يسبب إلا تفاقم هذا الخطر. وقد أعلن ترمب اعتزامه فرض مزيد من الرسوم الجمركية بعد التي فرضها على المكسيك وكندا والصين.

عبء الرسوم الجمركية

قال ترمب أمام الكونغرس الأميركي الثلاثاء الماضي: "الرسوم الجمركية تهدف إلى إثراء أميركا مجدداً وإعادة عظمتها. وهذا ما يحدث. سيكون هناك بعض الاضطرابات، لكننا نتقبل ذلك، فلن تكون كبيرة".

تشمل الأهداف القادمة للرسوم الجمركية الاتحاد الأوروبي، والسيارات، والأدوية، وأشباه الموصلات، إلى جانب التعريفات الجمركية المتبادلة التي يتوقعها مستشارو ترمب بناءً على الحواجز التجارية المتنوعة على البضائع الأميركية في الخارج، وقد أوضح الرئيس هذا الجزء من خطته أمام الكونغرس بقوله "أياً كانت التعريفات الجمركية التي سيفرضونها علينا، سنفرضها عليهم".

لكن هذه الموجة شهدت تراجعاً إلى حدٍّ ما الأسبوع الماضي، مع منح الرئيس الأميركي دونالد ترمب إعفاءً للسلع المكسيكية والكندية المشمولة باتفاقية التجارة الأميركية الشمالية المعروفة باسم "USMCA" من الرسوم الجمركية البالغة 25%. رغم ذلك، فإن موجة التعريفات الجمركية تبلغ ذروتها في ظل الإشارات الواضحة على تباطؤ النمو وارتفاع التضخم.

سجل الإنفاق الاستهلاكي في يناير أكبر تراجع منذ حوالي أربعة أعوام، وتراجعت ثقة المستهلكين، كما تباطأ نشاط التصنيع الأميركي الشهر الماضي، بينما ارتفع مؤشر الأسعار المدفوعة للمواد إلى أعلى مستوى منذ يونيو 2022.

يحذر المحللون من الإفراط في الاعتماد على بيانات شهر واحد، بالأخص الذي تأثر بطقس قاسٍ. وتكهنت أداة "جي دي بي ناو" (GDPNow) للتوقعات الفورية التابعة لبنك الاحتياطي الفيدرالي في أتلانتا يوم الإثنين بانكماش الاقتصاد خلال الربع الأول بنسبة 2.8%، إلا أنه توقع يخالف الاتجاه السائد، إذ لا تشير معظم المؤشرات إلى انكماش حاد.

أوضح الرئيس التنفيذي لبنك "غولدمان ساكس" ديفيد سولومون في مؤتمر في سيدني يوم الثلاثاء أن هناك احتمالاً "ضئيلاً للغاية" لأن ينزلق الاقتصاد الأميركي إلى الركود.

ترمب يريد "إصلاحاً جذرياً"

يرى ترمب وفريقه حاجة ماسة إلى إجراء إصلاح جذري شامل لإعادة بناء الصناعات الأميركية التي تدهورت نتيجة عقود من عجز الميزان التجاري، ولإعادة وظائف التصنيع ذات الأجور المجزية إلى البلاد. من جهته، اعترض وزير الخزانة الأميركية سكون بيسنت على المخاوف من تداعيات الرسوم الجمركية وما سببته من تراجع الأسواق العالمية، حيث انخفضت أسعار الأسهم في جميع أنحاء العالم، وكاد مؤشر "إس آند بي 500" أن يتخلى عن كل مكاسبه التي حققهها بعد الانتخابات الرئاسية.

قال بيسنت لقناة "فوكس نيوز" يوم الثلاثاء: "سنعيد موازنة الاقتصاد. وفي المدى المتوسط، الذي ينصب عليه تركيزنا حالياً، يشكل الاقتصاد الحقيقي محور اهتمامنا. حققت (وول ستريت) نجاحاً كبيراً، وبمقدورها مواصلة الأداء الجيد، لكن علينا التركيز على الشركات الصغيرة والمستهلكين".

ستشعر الفئتان بتأثير الضرائب الجديدة المفروضة على واردات أميركية بحوالي 1.5 تريليون دولار، أي ما يزيد عن خمسي إجمالي الواردات. وفي يوم الثلاثاء، وصل متوسط الرسوم الجمركية الأميركية إلى أعلى مستوى منذ أربعينيات القرن الماضي.

ركود الاقتصاد الأميركي

يكفي هذا وحده لرفع احتمال حدوث فترة من الركود التضخمي، أي تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع التضخم، بحسب مايفا كوزين ورانا ساجدي من "بلومبرغ إيكونوميكس"، إذ كتبتا: "ستمثل هذه الرسوم الجمركية صدمة عرض سلبية على الاقتصاد الأميركي".

تشير التقديرات المعتمدة على النماذج التي استخدمها الاحتياطي الفيدرالي خلال فترة ترمب الأولى إلى أن صدمة الرسوم الجمركية الحديثة قد تسبب تراجع الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة 1.3%، وترفع معدل التضخم الأساسي 0.8%.

توقع المحللون الاقتصاديون لدى مركز بحوث "بدجت لاب" (Budget Lab) التابع لجامعة ييل حدوث صدمة في النمو بنحو نصف هذه النسبة خلال 2025، إلا أنهم حذروا من آثار طويلة الأمد قد تستمر لسنوات. وحتى بعد التغييرات في الإنتاج وإعادة هيكلة سلاسل التوريد، ستؤدي أحدث رسوم جمركية يفرضها ترمب، ورد الدول الأخرى عليها إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي 0.4% في المدى الطويل، وكتبوا أن ذلك "يعادل انكماش الاقتصاد الأميركي باستمرار بما يتراوح بين 80 ملياراً و110 مليارات دولار سنوياً".

قطاع التجزئة الأميركي في خطر

أعلنت شركات بيع التجزئة، مثل "تارغت" و"بيست باي" أنها تتوقع تباطؤ المبيعات بسبب الرسوم الجمركية. وقال الرئيس التنفيذي لـ"تارغت" بريان كورنيل لقناة "سي إن بي سي" إن المتسوقين في متاجر الشركة يتوخون حذراً شديداً بسبب "الحديث المستمر عن الرسوم الجمركية الذي يسمعونه كل ليلة تقريباً في الأخبار"، وبإمكانهم توقع ارتفاع الأسعار خلال الأيام القليلة المقبلة.

وأشار بالأخص إلى منتجات زراعية مثل الفراولة، والأفوكادو، والموز، إذ أن الشركة "تعتمد على المكسيك في جزء كبير من الإمدادات" في الشتاء، كما أن نحو نصف واردات الولايات المتحدة من الفواكه والخضروات، بما يشمل أكثر من 90% من الأفوكادو، مصدره الدولة الواقعة جنوب الولايات المتحدة.

ستطال الرسوم الجمركية الجديدة مرتادي الحفلات ومشتري الملابس أيضاً، فمن بين كل خمس عبوات جعة تدخل الولايات المتحدة، أربع منها تأتي من المكسيك، فيما تمثل الصين مصدراً لنحو 30% من الملابس.

لفت مارك زاندي، كبير المحللين الاقتصاديين لدى "موديز أناليتكس" (Moody’s Analytics)، إلى أن ذلك سيؤدي إلى تحمل تكلفة باهظة، "إذا جرى تطبيق كل التعريفات الجمركية التي أُعلن عنها وهُدد بفرضها واستمر العمل بها، ستضطر الأسرة الأميركية المتوسطة إلى إضافة نحو 1300 دولار إلى إنفاقها السنوي على شراء السلع نفسها مقارنةً بما دفعته العام الماضي".

هذه العائلات نفسها تلقت ضربة في الآونة الأخيرة من الارتفاع الكبير في تكلفة المعيشة بعد جائحة كوفيد، ما أسهم في انتخاب ترمب بحسب معظم المحللين، وهناك قلق واضح من ارتفاعها مجدداً. كما بلغت توقعات التضخم خلال العام المقبل أعلى مستوى منذ 2023، بينما يشير استطلاع رأي طويل الأجل إلى وصوله إلى أعلى مستوى منذ عقود.

الصناعة الأميركية مهددة

بخلاف التأثير المباشر على إنفاق المستهلكين، هناك مخاطر على الإنتاج الصناعي ووظائف التصنيع أيضاً، إذ تراجع كلاهما في 2019 خلال الحرب التجارية التي شنها ترمب في ولايته الأولى.

كذلك، فإن صناعة السيارات الأميركية، التي تمثل نحو 2.5% من الاقتصاد، معرضة للمخاطر بشكل كبير، الأمر الذي تحذر منه كبرى شركات القطاع مثل "فورد موتور" علنياً، إذ تزايد ارتباط سلاسل التوريد بشكل عميق بكندا والمكسيك خلال العقود الماضية. لذلك، فإن أي اضطراب حتى لو قصير الأجل قد يؤدي إلى انخفاض معدل نمو الناتج المحلي السنوي بمقدار نقطة مئوية، بحسب "سيتي غروب"، إلى جانب احتمال فرض رسوم جمركية منفصلة على السيارات خلال الفترة المقبلة. وأطلع ترمب المشرعين على حديثه مع رؤساء أكبر ثلاث شركات سيارات أميركية يوم الثلاثاء، قبل إلقاء خطابه.

في غضون ذلك، فإن مجرد التهديد بفرض رسوم جمركية على الصلب والألمنيوم اعتباراً من 12 مارس قد أدى بالفعل إلى ارتفاع الأسعار محلياً، ما أفضى إلى زيادة التكاليف على شركات مثل "كالدر برذرز" (Calder Brothers).

تصنع الشركة التي يقع مقرها في غرينفيل، ساوث كارولاينا، معدات الرصف المستخدمة في ممرات السيارات ومواقفها، ويبلغ متوسط سعر بيع التجزئة لمنتجاتها 200 ألف دولار. وإضافة إلى زيادة أسعار الصلب في الآونة الأخيرة، تواجه الشركة ضغطاً من الرسوم الجمركية المفروضة على المكونات المستوردة، مثل صناديق تروس نقل الحركة والصمامات الهيدروليكية. وأشار رئيس الشركة غلين كالدر إلى أنها تدرس زيادة غير معتادة في الأسعار في منتصف العام.

وأضاف: "هذه الرسوم الجمركية تضر بصغار المصنعين الأميركيين في الواقع. هناك قلق كبير مما سيحدث لأسعار كثير من السلع والمنتجات".

ترحيل المهاجرين

إذا كانت الرسوم الجمركية في مقدمة أولويات مراقبي نمو الاقتصاد الأميركي الآن، فهناك سياسات كثيرة أخرى للإدارة تعد بمثابة إشارات تحذيرية. فيهدد تضييق الخناق على المهاجرين غير الشرعيين، الجاري تنفيذه بالفعل، بالتسبب في فجوة في القوة العاملة لن يكون سدها بسرعة سهلاً، بالأخص في بعض القطاعات الرئيسية مثل اللحوم.

يُرجح ألا يكون التأثير السلبي لعمليات الترحيل التي تجريها إدارة ترمب حتى الآن كبيراً على الاقتصاد، لكن المحللين الاقتصاديين لدى "غولدمان ساكس" يشيرون إلى أن حدوث تباطؤ واسع النطاق في الهجرة، في ظل تراجع صافي عدد الوافدين سنوياً، قد يؤدي إلى تراجع معدل النمو المتوقع بنحو 40 نقطة أساس مقارنةً بالسنوات الماضية.

أدت تسريحات العمالة التي تقودها إدارة الكفاءة الحكومية التي يديرها ماسك إلى إقالة أكثر من 100 ألف موظف فيدرالي، وانطوى ذلك على تبعات غير مباشرة على عديد من المتعاقدين. ربما لا تكفي الإدارة وحدها للتسبب في ركود، لكنها "ترفع مخاطر الركود بطريقتين أساسيتين" عبر التقدم السريع وارتكاب الأخطاء، بحسب المحللة الاقتصادية كلوديا سهم.

وكتبت يوم الثلاثاء: "الطريقة الأولى أن الإدارة تركز الآثار الاقتصادية بشكل مؤقت، والثانية أنها تخلق حالة من الضبابية قد تؤثر سلبياً على النمو والتوظيف"، وهذا في ظل تباطؤ النمو بالفعل، واستمرار أسعار الفائدة المرتفعة، وتزايد الرسوم الجمركية.

هل تأتي سياسات ترمب بثمارها؟

أقر ترمب بأن الأميركيين قد يواجهون "بعض الصعوبات" نتيجة الحرب التجارية، لكنه يقول إن المكاسب التي ستحققها أجندته في المدى الطويل ستكون كبيرة. وتشير الحكومة إلى أن الرسوم الجمركية، وتخفيف القيود التنظيمية، والتخفيضات الضريبية التي بدأت مناقشتها في الكونغرس ستشكل معاً حافزاً لانتعاش الاستثمار.

واضح أن السياسة التجارية المتشددة التي تنتهجها الحكومة تؤتي ثمارها؛ فيشير فريق ترمب إلى تعهد "تايوان سيميكوندوكتور مانوفاكتشورينغ"، أكبر شركة لصنع رقائق الذكاء الاصطناعي في العالم، باستثمار 100 مليار دولار إضافية في مصانع في الولايات المتحدة.

ويُعدُّ توفير الطاقة بأسعار منخفضة أحد العناصر الرئيسية في مجموعة السياسات، فهناك دلائل تشير إلى أن ترمب تمكن من إقناع السعودية وروسيا، القوتان النفطيتان، من الاستجابة لدعواته إلى رفع الإنتاج، ما قد يؤدي إلى انخفاض الأسعار في محطات الوقود، ويوفر قدراً من الراحة للمستهلكين الأميركيين الذين تضرروا من الرسوم الجمركية.

تنوّه ستيفاني روث، كبيرة المحللين الاقتصاديين لدى شركة البحوث "وولف ريسيرش" (Wolfe Research)، بأن الاقتصاد الأميركي طالما أثبت مرونته، وخالف توقعات الركود، مع ذلك، تتزايد الصدمات التي يسببها ترمب. واختتمت: "إذا كنت تخطط لتنفيذ شيء ما يكون له تأثير سلبي شديد على الاقتصاد، فهذا يكفي".

تصنيفات

قصص قد تهمك

نستخدم في موقعنا ملف تعريف

نستخدم في موقعنا ملف تعريف الارتباط (كوكيز)، لعدة أسباب، منها تقديم ما يهمك من مواضيع، وكذلك تأمين سلامة الموقع والأمان فيه، منحكم تجربة قريبة على ما اعدتم عليه في مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك تحليل طريقة استخدام موقعنا من قبل المستخدمين والقراء.