في حال كان الفوز الذي لم يكتمل حتى الآن صحيحاً، فإنَّ مرشحاً يرتدي قبعة من القش، ويحمل قلم رصاص عملاق، ينتمي إلى حزبٍ ماركسي قد فاز للتو في الانتخابات الرئاسية في "بيرو".
وبرغم أنَّ الفارق ضئيل للغاية، لكنَّه يشير إلى انقسامات عميقة، وينذر بانعدامٍ دائمٍ للاستقرار لبلدٍ هو اليوم ليس فقط المنتج الثاني للنحاس، ولكن ينظر إليه أيضاً - حتى الآن - كمصدر رئيسي للإمداد المستقبلي للمعدن الذي سيدعم اقتصاداً عالمياً أكثر اخضراراً.
ويشكِّل هذا تحذيراً، لأنَّ الاضطرابات السياسية في فترة ما بعد كوفيد بدأت لتوِّها في أمريكا اللاتينية وخارجها.
"كاستيلو" يقترب من الرئاسة
فمع فرز 96% من الأصوات، يتقدَّم مدرس المدرسة السابق "بيدرو كاستيلو" بنسبة 50.3%، بفارق بضع عشرات الآلاف من الأصوات عن منافسته اليمينية "كيكو فوجيموري" التي حصلت على 49.7%، مما شكَّل صدمة للنُخب السياسية الراسخة في "ليما".
ولم تقر حتى الآن ابنة الرئيس السابق المسجون "ألبرتو فوجيموري" بخسارتها للانتخابات، وبدلاً من ذلك نددت بالمخالفات التي اُرتكبت خلال عملية التصويت.
كورونا تزيد أوجاع "بيرو"
ووفقاً لمعايير القارة التي تضررت من كوفيد-19 أيضاً؛ فقد تعرَّضت "بيرو" لضربة قوية، وذلك بفضل عدم الاستقرار السياسي، والأعداد الكبيرة من العمال المؤقتين، ونظام الرعاية الصحية الذي يعاني من نقص التمويل. بالإضافة إلى أنَّ لدى "بيرو" أسوأ معدل وفيات للفرد على مستوى العالم.
وماتزال عمليات الإغلاق القاسية التي فشلت في إنقاذ مواطنيها تضر بالاقتصاد الذي كان في الماضي زعيماً إقليمياً، لكنَّه تقلَّص بنسبة تزيد قليلاً على 11%خلال العام الماضي، وهو أكبر انخفاض له منذ عام 1989، في حين يعيش ما يقرب من ثلث السكان حالياً في فقر.
أضف إلى ذلك عمق الاستياء في المناطق الريفية، ووجود عدد هائل من الناخبين الشباب، مما يجعل من السهل أن نفهم لماذا أصبحت الدولة الواقعة في جبال الأنديز الآن على حافة المجهول؟.
زيادة الضرائب على التعدين
كان "كاستيلو"، الذي صعد إلى الواجهة خلال إضراب المعلمين في عام 2017 متطرِّفاً بالتأكيد في تصريحاته خلال جولات حملته الانتخابية، بما يتماشى مع صورته كرجلٍ ريفي فقير، ومع واجهة رسمية ألا وهي "حزب بيرو الحرة".
وقد وعد بإعادة كتابة الدستور، والضغط من أجل زيادة الضرائب والريع من قطاع التعدين.
ويجب الانتباه إلى الجارة "تشيلي" العملاقة في إنتاجها للنحاس، إذ يفكر المشرِّعون فيما يمكن أن يصبح أحد أثقل الرسوم في التعدين العالمي.
وبالنظر إلى سجل "كاستيلو" القصير، هناك عدم وضوح حول كيفية حدوث ذلك على أرض الواقع، وليس واضحاً لمن ستكون اليد العليا، للبراغماتية أم لمطالب المؤيدين المتشددين.
لا مجال للتأميم
من المستبعد أن يتمَّ اتخاذ خطوات متطرِّفة مثل التأميم على غرار فنزويلا، فعلاوة على تحذيرات "فوجيموري" خلال حملتها الانتخابية، هناك أسباب ليس أقلها أنَّ مثل هذه النتيجة المتقاربة، وانقسام الكونغرس سيشكِّلان مشكلة أساسية في الحكم أيضاً.
فهناك أيضاً أمثلة في المنطقة وأماكن أخرى - من بينها، "أولانتا هومالا"، الرئيس البيروفي الأسبق- وهو أحد مؤيدي الرئيس الفنزويلي السابق، هوغو شافيز- فقد كان من القادة الذين تحوَّلوا إلى معتدلين عند نجاحهم في الوصول إلى دفة القيادة.
لكنَّ المطالب الشعبية المرتفعة، في ظل ارتفاع أسعار النحاس عند 9900 دولار للطن المتري -وهو مستوى ليس بعيداً عن المستويات المرتفعة القياسية التي لامسها الشهر الماضي- تعني أنَّ على شركات التعدين الاستعداد للضغط.
الضغوط الشعبية ماتزال مؤثرة
في الواقع، ليس هناك ما يضمن عدم حدوث ذلك حتى لو استطاعت "فوجيموري" إحداث زيادة مفاجئة في نتائج الانتخابات في اللحظة الأخيرة.
فهي تدرك تماماً الحاجة إلى تهدئة سكان الريف في مناطق التعدين، إذ لم تنتشر الثروة على نطاق واسع.
وبسبب ذلك؛ فإنَّ سوق الأسهم في البلاد شهدت انخفاضاً حادَّاً يوم الإثنين، وضعفاً في العملة.
مقاومة شعبية لمناجم النحاس
المشكلة هنا، بالنسبة لعمال المناجم على الأقل، ليس فقط ما تمثِّله "بيرو" اليوم عند مستوى 11% من إمدادات النحاس في جميع أنحاء العالم، وهو رقم سيزداد عندما يبدأ منجم "كويلافيكو" البالغة قيمته ما يزيد على 5 مليارات دولار، وهو تابع لشركة "الأنغلو أمريكية"، الذي سيعمل بطاقته الكاملة العام المقبل أو نحو ذلك.
إنَّ الأمر يتعلَّق بما يمثِّله ذلك بالنسبة للإنتاج المستقبلي، من بينها المناجم التي لم تتم الموافقة عليها بعد، خاصة الحُفر التي سيتمُّ حفرها من الصفر، تلك الحُفر التي يتسمُّ انجازها بالبطء، وارتفاع التكلفة.
وقد تجعل الضرائب المرتفعة والمخاطر الأخرى هذا القطاع أقل لمعاناً، ليس أقلها في سياق بلدٍ كانت فيه المقاومة المجتمعية لهذه المناجم مشكلة فعلية، كما هو الحال في منجم "تيا ماريا" التابع لشركة "ساوثرن كوبر".
تعطل الاستثمار
يتوقَّع المحللون في"جيفيريز غروب" أن تكون هناك 2.4 مليار دولار من المشروعات القائمة، لكنَّها معلَّقة في "بيرو".
وتشير بيانات "وود ماكينزي"، إلى 34.7 مليار دولار من العمليات الجديدة المقرر أن تدخل حيز الإنتاج خلال العقد المقبل أو نحو ذلك، بما في ذلك منجم "كويلافيكو".
ويأتي ذلك في وقتٍ يجب أن تقوم فيه الأسعار التي بلغت الذروة بدفع قرارات تخصيص رأس المال، ففي حال رفع "بيرو" لتكلفة الحفر، يتعيَّن توقُّع تباطؤ الاستثمار وارتفاع الأسعار.
اضطرابات سياسية واجتماعية
لكن هذا ليس مجرد تحذير لعمال المناجم، فما حدث في "بيرو" لم يكن مزيجَ أمريكا اللاتينية من التضخم المفرط والديون المتصاعدة.
فهناك مشاكل خاصة في "بيرو" - بما في ذلك قضية عدم الاستقرار السياسي والرئاسي التي مرَّ خلالها ثلاثة زعماء على البلاد في أسبوعٍ واحد من العام الماضي.
ولكن ما لا ينفرد به البلد هو الألم المتعاظم الذي يسببه الوباء، والاستياء من الاستجابة الحكومية له، والانقسامات الاجتماعية والريفية الحضرية المتزايدة.
في الواقع، تمتد هذه القضايا من الهند إلى البرازيل، إذ يقود الرئيس اليساري السابق "لويس إيناسيو لولا دا سيلفا" موجة مماثلة. وبفضل إلغاء الإدانات الجنائية، أصبح الآن مرشحاً يملك مصداقيةً تمكنه من هزيمة الرئيس اليميني "جايير بولسونارو" في انتخابات عام 2022.