تتنوّع مكاسب السعودية من استضافة كأس العالم لكرة القدم 2034 لتشمل كافة قطاعات تنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط، لاسيما السياحة والترفيه والإنشاءات، وصولاً إلى توقع مساهمة "المونديال" بنحو 2% إضافية في الناتج المحلي للمملكة خلال عام تنظيم البطولة. لكن ماذا عن انعكاس تنظيم الحدث الرياضي الأبرز عالمياً على كرة القدم السعودية نفسها؟
يمثل "مونديال 2034" تتويجاً لمسيرةٍ طويلة لكرة القدم في البلاد، تعود لما قبل 1956 تاريخ تأسيس الاتحاد السعودي. لكن السنوات الأخيرة شهدت تطوراتٍ متوالية على صعيد تطوير الأندية وتخصيصها، واستقطاب أبرز النجوم العالميين، ورفع دوري "روشن" إلى مصاف أهم 10 دوريات في العالم، ما حوّل كرة القدم السعودية إلى محط أنظار متابعي اللعبة الأكثر شعبية عالمياً، ويؤسس لمرحلةٍ جديدة تُبنى على زخم ما بعد "المونديال".
فرصة نموذجية
ستترتب على استضافة السعودية لكأس العالم نتائج تطال مختلف جوانب اللعبة. ويشير الكاتب والأكاديمي علاء الغامدي إلى أن فوز المملكة بتنظيم هذا الحدث "يعكس تحولاً استراتيجياً بدورها في عالم كرة القدم".
أولى هذه النتائج، برأي الغامدي لـ"الشرق" أن استضافة "المونديال" تعزز من "الدبلوماسية الرياضية"، وتضع السعودية في "موقع متقدم لتشكيل مستقبل كرة القدم العالمية، كما تبرز التزام المملكة بتطوير الرياضة محلياً، وتعزيز دورها كمحفز للتطور الاجتماعي والصحي". ويواكب ذلك بناء المملكة "صورةً جديدةً" لها، بما يوصف بـ"القوة الناعمة".
هذه "الصورة" بدأت تتسم بالوضوح، مع استضافة البطولات والأحداث، أو جذب كبار النجوم مثل كريستيانو رونالدو، ونيمار، وكريم بنزيما، إلى أندية الدوري السعودي، أو حتى من خلال شراء نوادٍ أجنبية، والفوز بحقوق تسمية ملاعب عالمية. وكافة هذه الأنشطة مرشحة لقفزة بعد 2034، إذا أُحسن استغلال "المونديال" للمدى الاستراتيجي.
يرى روبرت بولاند، الرئيس المشارك لقسم الضيافة والترفيه والرياضة في شركة "شوميكر للمحاماة" الأميركية، أن الأموال التي تنفقها المملكة على الرياضة محلياً وخارجياً، والتزامها بالفعل بنشاط كرة القدم بشكلٍ خاص، يشكلان عنصرين مؤثرين على ساحة اللعبة العالمية، لكن "ما إذا كانت ستصبح قوة فاعلة في عالم كرة القدم خلال نصف القرن المقبل، فإن ذلك يظل سؤالاً مفتوحاً".
وأضاف في تصريح لـ"الشرق" أنه إذا تمكّنت السعودية من إخراج نسخة مميزة من كأس العالم، فسيكون ذلك بمثابة "حفل تعريف العالم على السعودية الأكثر حداثة وانخراطاً في الأحداث العالمية".
منصة لعرض فرص الاستثمار
يشكل كأس العالم أيضاً فرصة للانتقال إلى ترسيخ العلامة التجارية الكروية، والتحول من الإقليمية إلى العالمية، على أكثر من صعيد، بدءاً من "دوري روشن" وتخصيص الأندية. فبعد إنفاق مئات ملايين الدولارات لتعزيز صفوف الفرق بكبار اللاعبين العالميين، ما رفع القيمة السوقية للاعبي "روشن" إلى 1.35 مليار دولار، فإن السعودية تتطلّع إلى قطف ثمار هذا الاستثمار، البالغ حوالي 300 مليون دولار سنوياً، مدعومةً بوصول عدد الدول التي تنقل "دوري روشن" إلى 155 حول العالم.
وستمثل أروقة "المونديال" منصةً لعرض الفرص الاستثمارية على المهتمين الدوليين في الأندية السعودية، بعدما تكون قد وصلت إلى مرحلة النضوج لمثل هذه الخطوة خلال عقدٍ من الآن.
كان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أطلق مشروع الاستثمار والتخصيص للأندية الرياضية منتصف العام الحالي، والذي يتضمن في مرحلته الأولى مسارين رئيسيين، أولهما الموافقة على استثمار شركات كبرى وجهات تطوير تنموية في أندية رياضية، مقابل نقل ملكية الأندية إليها، والثاني طرح عدد من الأندية الرياضية للتخصيص. حيث يُقدّر تحقيق عوائد تفوق نصف مليار ريال من هذه العملية، بحسب وزير الرياضة السعودي الأمير عبد العزيز بن تركي الفيصل.
وشهد تنفيذ المسار الأول تحويل أندية "الهلال" و"النصر" و"الاتحاد" و"الأهلي" إلى شركات، مع نقل 75% من ملكيتها لصندوق الاستثمارات العامة، كما تم نقل ملكية أندية "القادسية" لشركة "أرامكو"، و"العلا" للهيئة الملكية لمحافظة العلا، و"الدرعية" لهيئة تطوير الدرعية، و"الصقور" لـ"نيوم"، وتم بالفعل تغيير اسم النادي إلى نادي "نيوم". وتلا ذلك الإعلان عن خصخصة 14 نادياً إضافياً.
حقبة جديدة للفعاليات القادمة
أمّا الأحداث الرياضية، التي استضافت المملكة ما يفوق 100 منها منذ 2018، فيُرتقب أن تكون الفائز الأكبر بعد كأس العالم، مدفوعةً ببناء 11 ملعباً جديداً، وتجديد 4 ملاعب قائمة، بكلفة تُقدّر بـ25 مليار دولار.
واستضافت الملاعب السعودية خلال الأعوام الأخيرة العديد من المباريات والبطولات الكروية، بما في ذلك كأس العالم للأندية، وكأس السوبر الإسباني، وكأس السوبر الإيطالي، وكأس السوبر الأفريقي. وستنظم في 2027 بطولة كأس آسيا لأول مرة.
هذه البطولة هي التي نقلت المنتخب السعودي إلى مصاف كبار القارة الآسيوية، حيث فاز فيها 3 مرات، أعوام 1984 و1988 و1996.
ومما لا شك فيه أن استضافة كأس العالم 2034 على أرضه، سيكون فرصة لا تتكرر للمنتخب السعودي للخطو نحو العالمية، بعد 6 مشاركات، كانت أولها وأفضلها في "مونديال" 1994 حين تأهل للدور الثاني، واختير هدف نجمه سعيد العويران بمرمى بلجيكا الأفضل في البطولة. أمّا آخر مشاركة في "مونديال" الدوحة، فتميزت بفوز الأخضر السعودي على بطل كأس العالم منتخب الأرجنتين في دوري المجموعات.
المواهب وكرة القدم النسائية
كذلك، سيكون للمواهب السعودية نصيب من غلّة "المونديال"، حيث يجري بناء 72 ملعباً مخصصاً للتدريب في 10 مدن جديدة، بخلاف التي ستستضيف المباريات وهي الرياض وجدة والخبر وأبها ونيوم. وتتيح هذه الملاعب، بالإضافة إلى 134 منشأة تدريب، المقوّمات الأساسية لصقل مهارات لاعبي المستقبل. يبلغ عدد اللاعبين المسجلين حالياً في المملكة 27 ألفاً.
كما يُنتظر أن تطال النتائج الإيجابية لاستضافة كأس العالم كرة القدم النسائية أيضاً، على حداثة عهدها، من خلال انتشار الملاعب ومرافق التدريب العالمية في 15 مدينة، وتسليط الضوء على منتخب سيدات السعودية، الذي أُدرج لأول مرة بتصنيف "فيفا" في مارس من هذا العام وهو يطمح للتأهل لمونديال 2027.
بالإضافة إلى الانعكاسات المتعددة على أوجه نشاط كرة القدم في المملكة، يبدو أن "الرؤية" السعودية تطمح إلى أبعد من ذلك، وهو ما يُستشرف من تصريح ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، عقب الإعلان عن فوز بلاده بتنظيم كأس العالم 2034 اليوم الأربعاء، بقوله إن السعودية "عازمة على المساهمة الفعالة في تطوير كرة القدم حول العالم".