الشرق
يعيش الرئيس الأميركي جو بايدن أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، بعد عزوفه عن الترشح لولاية أخرى تاركاً الساحة لنائبته كامالا هاريس أو منافسهما دونالد ترمب، في انتخابات من المرجح أن تتحدد نتيجتها بناء على ملفين: الاقتصاد والهجرة.
يمكن وصف ولاية الرئيس الحالي التي بدأت في يناير 2021، بأنها "منفصلة عن الواقع"، فالأرقام تشير وبوضوح إلى تحسن اقتصاد أميركا ما دفع الرئيس لإطلاق لقب "بايدنوميكس" على خطته الاقتصادية، ولكن الشعب لا يشعر بذلك، حتى أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن غالبية الأميركيين يرون أن إدارة الاقتصاد خلال فترة ترمب، كانت أفضل.
نظرة الأميركيين للاقتصاد
يمكن الدلالة على هذا التباين من خلال مسح المستهلكين الذي تجريه جامعة ميشيغان، إذ وجد أن نظرة الأميركيين للاقتصاد ارتفعت قليلاً خلال أكتوبر الماضي مقارنة بالشهر السابق له، لتسجل 64.9 نقطة، ولكنها متراجعة بنسبة 8.1% على أساس سنوي.
ومن خلال التعمق في البيانات، فإن نظرة المستهلكين للاقتصاد بدأت بالانخفاض المتواصل منذ أبريل 2021، مسجلة 97.2 نقطة، لتصل إلى أدنى مستوى لها في يوليو 2022 عند 53.8 نقطة. ثم بدأت بعدها رحلة من الارتفاعات والانخفاضات، وصولاً إلى نتيجة شهر أكتوبر الماضي. وللإشارة فإن ترمب تسلم الدفة من سلفه باراك أوباما، وكانت قراءة المؤشر عند 111.3 نقطة.
يشرح أستاذ علم التسويق في جامعة فلوريدا الدولية أنتوني ميازاكي التباين في النظرة للاقتصاد. ويشير في تصريح لـ"الشرق"، إلى أنه لا يمكنه نفي زيادات الأسعار التي حدثت خلال عامي 2022 و2023، وخاصة في ما يتعلق بالطاقة والغذاء.
ويضيف أنه نظراً لأن كلّ من الطاقة والغذاء من النفقات الدورية، فإن المستهلكين يتذكرون باستمرار الأسعار المرتفعة، ويولدون "حنيناً لما شعروا أنه أوقات أفضل، أي عندما كانت الأسعار أقل"، موضحاً أن "تجارب المستهلكين الحية قد تكون المحرك الأكبر للمشاعر السلبية تجاه الاقتصاد".
ميازاكي اعتبر أنه حتى في الأوقات التي ترتفع فيها الأجور بمعدل أعلى من التضخم، فإن المستهلكين الذين يتمتعون بهذه القدرة الشرائية الأكبر، "يشعرون بالفزع إزاء ارتفاع الأسعار، إذ يرون أن ارتفاع الأسعار يشكل شيئاً يعاكس زيادة دخلهم ومستوى المعيشة الأعلى الذي كانوا ليتمتعوا به لو لم يعوض التضخم جزئياً عن أجورهم الأعلى. وعلى هذا فإن التضخم يصبح عقبة أمام حياة أفضل، وهو ما يعتبره العديد من المستهلكين عنصراً أساسياً في الحلم الأميركي".
تحقيق الهبوط السلس ورفع النمو
بدأ بايدن ولايته بصدمتين كبيرتين، الأولى اقتصادية جراء فيروس كورونا، وارتفاع أسعار النفط، والحرب الروسية على أوكرانيا، وما ترتب عليها من نتائج، والثانية سياسية جراء اقتحام أنصار ترمب لمبنى الكابيتول رفضاً لنتائج الانتخابات. ومع مرور نحو 4 سنوات على توليه السلطة، لا تزال أصداء الصدمتين تتردد في الدوائر السياسية والاقتصادية الأميركية.
مع بداية ولاية بايدن، قلة من آمن أن الاقتصاد الأميركي قادر على تحقيق "الهبوط السلس"، بل كانت التوقعات تشير إلى أن الاقتصاد في طريقه لتحقيق ركود، وأن الاحتياطي الفيدرالي تأخر في مواجهته للتضخم، عبر رفع أسعار الفائدة.
وفي أكتوبر 2022، توقع أحدث نموذج بشأن احتمال الركود من قبل الاقتصاديين في "بلومبرغ"، آنا وونغ وإليزا وينغر، احتمال حدوث ركود أعلى في جميع الأطر الزمنية، حيث وصل تقدير احتمال حدوث الركود خلال الأشهر الاثني عشر القادمة (بحلول أكتوبر 2023) إلى 100%، ارتفاعاً من 65% للفترة المماثلة في التحديث السابق.
ولكن الاقتصاد خالف التوقعات، واستطاع تحقيق نمو كبير فاق توقعات المحللين.
وعلى سبيل المقارنة، نما الاقتصاد الأميركي بنحو 11.8% منذ تسلم بايدن في نهاية 2020 حتى النصف الأول من السنة الجارية، في حين أن النمو خلال ولاية ترمب وصل إلى 7.6%، وفق حسابات صحيفة "وول ستريت جورنال".
سجل الاقتصاد الأميركي فترة أخرى قوية من النمو، وإن كانت مخيبة للآمال بعض الشيء، في الربع الثالث من العام الجاري، مدفوعاً بالإنفاق الاستهلاكي القوي الذي تحدى التوقعات بالتباطؤ. وهو ما قد يعني أن الناتج المحلي في عهد بايدن قد يسجل أقوى نمو في فترة رئاسية منذ السنوات الأربعة الأخيرة في ولاية الرئيس الأسبق بيل كلينتون.
الفترة | نسبة النمو (%) |
الربع الثالث 2024 | 2.8 |
الربع الثاني 2024 | 3 |
الربع الأول | 1.3 |
2023 | 2.5 |
2022 | 2.1 |
2021 | 5.7 |
سوق عمل قوية
بالنظر إلى النسبة المئوية لعدد الوظائف التي خلقها الاقتصاد، يمكن ملاحظة أنه لم تكن هناك وتيرة سنوية أقوى من النسب التي حققها بايدن، منذ انتهاء ولاية جيمي كارتر في يناير 1981.
أضافت الولايات المتحدة منذ يناير 2021 وحتى سبتمبر الماضي، 16.2 مليون وظيفة. وللمفارقة، فإن مكتب ميزانية الكونغرس وهو هيئة غير حزبية، قدر قبل اندلاع الوباء بأنه سيكون هناك 15.1 مليون وظيفة في الربع الثالث من العام الجاري، وهو ما استطاع الاقتصاد الأميركي التفوق عليه رغم الوباء، وإضافة 3 ملايين وظيفة أكثر.
الوظائف ليست الوحيدة التي ارتفعت، فبحسب بيانات الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس، فإن المتوسط الحسابي للدخل الحقيقي للأسرة في الولايات المتحدة انخفض قليلاً خلال بداية فترة بايدن وحتى العام الماضي، مقارنة بفترة سلفه. ولكن المتوسط الحسابي للفترتين يظهر أن متوسط الدخل الحقيقي للأسر خلال 4 سنوات من فترة ترمب بلغ 77842.5 دولار، في حين يزيد هذا الرقم بنحو 1294.1 دولار خلال ثلاث سنوات من ولاية بايدن.
أما المتوسط الحسابي للدخل الشخصي الحقيقي، فارتفع هو الآخر في السنوات الثلاث الماضية، ليبلغ المتوسط الحسابي له 42110 دولارات مقابل 41005 دولارات خلال 4 سنوات من فترة ترمب.
اتخذ معدل البطالة مساراً مشابهاً للوظائف، إذ انخفض من 4.7% عندما تولى ترمب منصبه إلى 3.5% عشية الوباء، ثم ارتفع إلى أعلى مستوى له على الإطلاق، وبلغ 6.4% في يناير 2021.
في عهد بايدن، انخفض من 6% إلى 5% ثم 4%. في العام الماضي، وصل إلى أدنى مستوى له في 70 عاماً عند 3.4%، لكنه ارتفع منذ ذلك الحين إلى 4.1%.
زيادة ثروة الأميركيين
بات الأميركيون أكثر ثراءً بشكل ملحوظ في عهد بايدن كما في عهد ترمب، بدعم من القفزات التي جرت في سوق الأسهم وأسعار العقارات، فضلاً عن المبالغ التي تدفقت إلى الحسابات المصرفية للأسر، جراء الإغاثة الحكومية بعد كورونا.
بدأ مؤشر "إس إند بي 500" ولاية بايدن عند رقم قياسي بلغ 3841.47 نقطة في 22 يناير 2021، وهو مستوى لم يصل إليه خلال ولاية ترمب. واصل المؤشر الصعود بشكل كبير خلال السنوات التي تلت ذلك، مسجلاً في 10 أكتوبر الماضي على سبيل المثال، 5815.03 نقطة.
من جهة المساكن، ارتفعت أسعار المساكن في الربع الثاني من عام 2021 بأكبر نسبة منذ 2014 بلغت 17.4%. ويتوقع المحلل فيناي فيسواناثان من "غولدمان ساكس" أن ترتفع أسعار المساكن في الولايات المتحدة مع بدء بنك الاحتياطي الفيدرالي في خفض أسعار الفائدة، بينما لا يزال الاقتصاد الأساسي قوياً.
ورفع محللو المؤسسة المالية من توقعاتهم لارتفاع أسعار المساكن في الولايات المتحدة إلى 4.5% هذا العام و4.4% في عام 2025، من التقديرات السابقة البالغة 4.2% و3.2% على التوالي في أبريل.
التضخم علة العلل
رغم هذه الأرقام، إلا أن المواطن الأميركي لا يشعر بتحسن اقتصاده، وهو ما أثر في الفترة الأخيرة بشكل كبير على شعبية بايدن، وقد يكون سبباً رئيساً في دفعه إلى عدم الترشح لمرة أخرى.
إذا أردنا شرح هذا الانفصال بين ما هو على الورق وما هو على أرض الواقع بكلمة واحدة، فإن الكلمة ستكون: التضخم.
خلال فترة ترمب، ارتفعت أسعار المستهلكين بنسبة تراكمية بلغت 7.8%، وذلك على رغم أن كورونا ساهمت في إضعاف نسبة التضخم أكثر بسبب الإغلاق الذي أضعف الاستهلاك. أما خلال فترة بايدن، وتحديداً حتى سبتمبر الماضي، فإن أسعار المستهلكين كانت أعلى بنحو 20% من مستويات يناير 2021.
ولقياس التضخم على أرض الواقع، فإن قيمة الدولار في ديسمبر 2023، بلغت 1.17 مقارنة بيناير 2021، وهو موعد تسلم بايدن سدة الرئاسة.
بتعبير آخر وعلى اعتبار أن نهاية حقبة ترمب سنة الأساس، فإن متوسط الدخل الشخصي في عام 2023 يجب أن يصل إلى 49192.97 دولار ليكون مساوياً لمتوسط الدخل في نهاية 2020، في حين أنه سجل خلال العام الماضي 42220 دولاراً، وذلك وفقاً لحاسبة سعر الدولار من مكتب إحصاءات العمل الأميركي.
مستويات الجوع لم تنخفض
إضافة لذلك، فإن مستويات الجوع في البلاد لم تنخفض كثيراً منذ ما بعد الوباء. ففي عام 2021، اعتمد واحد من أصل كل 6 أميركيين على بنوك الطعام للبقاء على قيد الحياة، أي نحو 53 مليون شخص، مقارنة بـ40 مليون شخص قبل الوباء.
أمّا في 2023، وعلى الرغم من انحسار الوباء، فتقدر وزارة الزراعة الأميركية بأن 47.4 مليون شخص عاشوا في أسر تعاني من انعدام الأمن الغذائي، في حين عاش 12.2 مليون بالغ في أسر تعاني من انعدام الأمن الغذائي الشديد، كما عاش 7.2 مليون طفل في أسر تعاني من انعدام الأمن الغذائي، حيث يعاني الأطفال مع البالغين من انعدام الأمن الغذائي.
وتشير الإحصاءات أيضاً إلى أن 841,000 طفل (1.2% من أطفال البلاد) عاشوا في أسر حيث عانى طفل واحد أو أكثر من انعدام الأمن الغذائي الشديد.
إجراءات ممتدة لمكافحة كورونا
هناك عامل آخر قد يكون ساهم في هذا الانفصال، وهو تأثير كورونا والإجراءات التي اتخذها ترمب لإنعاش الاقتصاد، وتواصلت خلال عهد بايدن.
يرى جاستين فوكس في مقال رأي نشرته "بلومبرغ"، أن البيانات تشير إلى أن الاقتصاد تحت إدارة بايدن نما بوتيرة أسرع منذ 2021، متجاوزاً هدف النمو الاقتصادي لإدارة ترمب. ومع ذلك، تشير المقارنة إلى تأثير الجائحة على الأداء الاقتصادي لترمب، فـ"إذا أوقفنا القياس عند الربع الرابع من عام 2019، فإن النمو في عهد ترمب يبدو أفضل بكثير من النمو خلال كامل فترة ولايته. ومع ذلك، لا يزال هذا النمو أقل من ذلك الذي تحقق حتى الآن في عهد بايدن".
وأضاف أن بايدن، تولى الرئاسة في وقت كانت إجراءات التحفيز التي تم تطبيقها في عهد ترمب قد بدأت بالفعل في إعادة إحياء الاقتصاد، ولقاحات كورونا التي تم تطويرها بمساعدة إدارة ترمب كانت قد بدأت تُتاح على نطاق واسع.
انخفاض شعبية الرئيس
كل هذه العوامل، بالإضافة إلى الأمور السياسية مثل زلات لسان الرئيس المتكررة وعمره، أدت إلى انخفاض شعبيته بشكل ملحوظ.
ووجد استطلاع لـ"رويترز" و"إيبسوس" في يونيو الماضي، أي قبل شهر من انسحاب بايدن، أن الناخبين يرون أن ترمب هو الأفضل للاقتصاد.
وعندما سُئل الناخبون عن أي المرشحين لديه نهج أفضل للاقتصاد - وهو الشاغل الأول للمستجيبين - اختار الناخبون المسجلون ترمب بنسبة 43% مقابل 37% لبايدن.
والحال، أن الأميركيين عموماً يرون أن الاقتصاد هو الأمر الأكثر أهمية في الوقت الحالي، وهو ما قد يحدد هوية الرئيس الجديد للبيت الأبيض. ولكن اللافت أن ترمب أو هاريس، لم يقدما بعد تفاصيل مهمة تكشف كيفية تعاطيهم مع هذا الملف، واكتفيا حتى الساعة بإعطاء عناوين عريضة لسياستهما المتوقعة.