بلومبرغ
اتضحت أخيراً صورة المرشحين الطامحين لخلافة المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، كما ارتسمت معالم التحديات الدولية التي سيرثها خليفتها.
تغادر ميركل السلطة بعد 16 عاماً في الحكم وسط تكهنات حول مستقبل أكبر اقتصاد في أوروبا وموازين القوى على امتداد القارة.
تحديات من اللحظة الأولى
ومع اشتداد الصراع على السلطة في العالم، ما يذكر بالوضع الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر، فإن الفائز في الانتخابات الفيدرالية المقررة في سبتمبر المقبل، سيواجه تحديات دولية منذ اللحظة الأولى.
وقد بدأت إدارة الرئيس بايدن بالفعل تطالب برلين بموقفٍ واضحٍ من الصين وروسيا، والصراع على السيطرة على الابتكارات التكنولوجية.
في غضون ذلك، تُطرح تساؤلات حول مدى قدرة ألمانيا على الحفاظ على علاقاتها الوثيقة مع واشنطن وسط سعي الاتحاد الأوروبي لتعزيز دوره على الساحة الدولية.
ويفرض وباء كورونا المزيد من الضغوط في ظلّ السباق نحو اللقاحات الذي يأتي مصحوباً بتبعات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ما يؤشر إلى عودة كل دولة للتصرف وحدها، ويعيدنا إلى حقبة الدولة الأمة التي كانت ألمانيا قد تجاوزتها منذ فترة طويلة.
وتقع كل هذه الأعباء على عاتق برلين فيما تستعد لأكثر انتخابات غير متوقعة النتيجة، منذ أن أجبرت فضيحة التجسس في الحرب الباردة فيللي براندت، زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي، على الاستقالة من منصبه كمستشار لألمانيا الغربية في العام 1974، وحلّ مكانه هيلموت شميت الذي واجه هلموت كول بعد سنتين من الفضيحة وتمكن من الفوز.
والسؤال اليوم هو إذا ما سيقدر المستشار الجديد على الارتقاء إلى مستوى المسؤولية الدولية الذي يليق بحجم القوة المسيطرة في أوروبا. والإجابة على ذلك تمكن لدى مجموعة مرشحين لم يتم اختبارهم بعد على الساحة الدولية.
"أرمين لاشيت"
اختار التكتل الذي يقوده حزب ميركل، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، أرمين لاشيت، رئيس وزراء ولاية شمال الرين ويستفاليا، الأكثر كثافة سكانياً مرشحاً له، وهو كان يبدو الأوفر حظاً للفوز، على الأقل إلى حين صدرت نتائج استطلاع الرأي الحساس الذي أُعلنت عن نتائجه في وقت متأخر يوم الثلاثاء.
في العادة، يتوقع من لاشيت أن يستمر في نهج ميركل الوسطي، إلا أن المعركة المحتدمة والعلنية للحصول على ترشيح المحافظين، وضعته على رأس حملة انتخابية متزعزعة منذ البداية ربما قد تقيد يديه حتى في حال فوزه.
التحالف المحافظ في موقف صعب
ويكمن الخطر في أن تستدير ألمانيا نحو الداخل من أجل معالجة الانقسامات السياسية في عقر دارها، ما يحرم أوروبا من حجر الزاوية الأساسي في مواجه المشاكل التي تتهدد القارة.
وعلى الرغم من تراجع التأييد لتكتل ميركل في استطلاعات الرأي هذا العام في خضم الصراع على خليفتها المحتمل، إلا أن التأثير الفعلي لرحيل المستشارة الألمانية لم يظهر بعد، بحسب جايكوب كيركيغارد، الزميل الأعلى في معهد "بيترسون" للاقتصادات الدولية.
إذ يحذر كيركيغارد من أن التحالف المحافظ قد يتزعزع أكثر بالأخص بعد "المبارزة البشعة" التي اندلعت بين لاشيت وخضمه ماركوس سودر، ما يعني أن الانتخابات الألمانية ستكون "مفتوحة على نتائج كثيرة".
وجاء حديث كيركيغارد قبل الإعلان عن نتيجة استطلاع معهد "فورسا" يوم الثلاثاء الماضي الذي أظهر أن التقدم بأربعة نقاط مئوية لصالح تكتل ميركل على الخضر، تحول إلى تأخر بسبع نقاط مئوية في غضون أسبوع واحد فقط.
وحتى مع الأخذ في عين الاعتبار تقلبات استطلاعات الرأي، إلا أن النتيجة تسهم في تعزيز حظوظ مرشحة حزب الخضر، انالينا باربوك، التي لم تشغل حتى اليوم أي منصب حكومي سواء على المستوى الفيدرالي أو مستوى الولايات.
ويعتبر مرشح الحزب الاشتراكي الديمقراطي، أولاف شولتس، الذي يشغل حالياً منصب وزير المالية في الائتلاف الحاكم بقيادة ميركل، صاحب الخبرة الحكومية الأكبر بين المرشحين، إلا أن حزبه يأتي متأخراً في المرتبة الثالثة في استطلاعات الرأي.
دور أكبر لـ "الخُضر"
في غضون ذلك، تُظهر استطلاعات الرأي أن حزب الخضر سيلعب دوراً متقدماً في الحقبة المقبلة، سواء كـ"شريك أساسي" للتكتل المحافظ في الحكومة أو من خلال استلام منصب المستشار الألماني، ما سيؤدي تلقائياً إلى موقف أكثر حزماً تجاه روسيا والصين.
وبحسب كيركيغارد "سيعني ذلك أن النهج القائم على المصالح التجارية الذي تعتمده ميركل من جوانب عدة بالأخص في العلاقة مع الصين سوف ينتهي".
وفي زمن الأزمات، تتطلع أوروبا إلى ألمانيا كي توفر قيادة قوية، حيث تتطلب التحديات المالية والاقتصادية الناجمة عن الوباء مواقف صلبة.
وكان التنازل الذي قدمته ميركل للسماح ببيع بعض الديون الأوروبية أفسح المجال لإنشاء صندوق التعافي الأوروبي، وهي خطوة لا تزال تثير الجدل ضمن تكتلها، لولا حزب الخضر.
كما أنها كانت قد أسهمت في قيادة أوروبا في خضم أزمة ديون منطقة اليورو، إلى جانب حاكم المركزي الأوروبي آنذاك، ماريو دراغي، الذي يشغل اليوم منصب رئيس الحكومة الإيطالية.
توتر العلاقات مع روسيا
في غضون ذلك، أثار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، توترات جيوسياسية، إثر حشد عسكري روسي عند الحدود مع أوكرانيا، فيما يعاني المعارض، أليكسي نافالني، من تدهور حالته الصحية في مستشفى سجن خارج موسكو.
وكان القادة الغربيون قد حذروا من تدهور العلاقات مجدداً مع موسكو، وردات فعل في حال وفاة نافالني.
في غضون ذلك، كانت ميركل قد دعت في مناسبات عدة لإبقاء الخطوط مفتوحة مع موسكو وهي شخصٌ يُظهر بوتين استعداداً للحديث معه على الأقل.
بالتالي، يتعين على خلفها أن يلعب دوراً رائداً في قيادة العلاقة مع روسيا في وقت ربما هو الأصعب منذ انتهاء الحرب الباردة.
الإمبراطورية الألمانية
وفي هذا السياق، تبدو الأسئلة حول الدور المحتمل لألمانيا قديمة بقدم الإمبراطورية الألمانية نفسها التي أنشئت في عام 1871، وضمت الولايات المؤسسة قائمة على "الدم والحديد" بحسب قول مهندس الإمبراطورية والمستشار الأول، أوتو فون بسمارك.
فالإمبراطورية المعروفة أيضاً باسم الرايخ الثاني امتدت من غربي نهر الرين إلى كالينينغراد أوبلاست في روسيا المعاصرة تحت قيادة فيلهلم الأول، حيث شكلت بروسيا القوة المسيطرة.
إلا أن توحيد الأراضي الذي أتاح تأسيس الإمبراطورية فكان بفضل هجمات بيسمارك العسكرية المستهدفة ضد الدانمارك ثمّ النمسا وفرنسا.
وجاء إحياء الذكرى الـ150 لتأسيس الإمبراطورية الألمانية خافتاً. وقد أشار الرئيس فرانك-فالتر شتاينماير، الذي عقدة ندوة مع عدد من المؤرخين في يناير الماضي إلى بعض أوجه الشبه مع الزمن الحاضر.
وقال إن تطور الإمبراطورية الألمانية كـ"قوة عسكرية واقتصادية دولية" تذكرنا بصعود الصين اليوم.
وأثار التحديث السريع لألمانيا مشاعر القلق والقومية والشعبوية التي بدأت تظهر مجدداً، هذه المرة مدفوعة بالقلق من العولمة.
وقالت كاتيا هويير، المؤرخة ومؤلفة كتاب "الدم والحديد: قيام وسقوط الإمبراطورية الألمانية 1871 – 1918" إن إنشاء الإمبراطورية الألمانية "أحدث اختلالاً كبيراً في ميزان القوى وأدى إلى ظهور قوة كبرى في قلب أوروبا"، مضيفة أن تموضع هذه القوة الجيوسياسي "لم يحلّ حتى اليوم".
وكانت ألمانيا قد اختارت نهجاً متحفظاً على صعيد العلاقات الخارجية في النصف الثاني من القرن العشرين بالمقارنة مع سلوكها العدائي في النصف الأول من القرن.
وازداد هذا التردد في السياسة الخارجية في التسعينيات حيث عزفت القوة الأوروبية عن لعب دور أكثر حضوراً على الساحة الدولية في مسائل غير التجارة.
وقام المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر، ببعض الخطوات للأمام، وأسهمت أنجيلا ميركل، في الذهاب أبعد قليلاً، إلا أن مسائل مثل الإنفاق الدفاعي لا تزال مثار جدل لدى المواطنين.
وسيواجه خليفة ميركل، ضغوطاً لجعل ألمانيا أكثر انخراطاً على الصعيد الدولي.
وبالنسبة لإيميلي هابير، سفيرة ألمانيا لدى الولايات المتحدة، فهي ترى أن الصين والسباق بين "الدول التكنولوجية الديمقراطية والدول التكنولوجية الأوتوقراطية" التحدي الأكبر في عصرنا.
وقالت في فعالية استضافها معهد "صندوق مارشال الألماني" حول العلاقات العابرة للأطلسي إن ألمانيا انضمت للجهود في دفع أوروبا لتغيير موقفها، حيث تتفق اليوم مع إدارة الرئيس بايدن "على الأساسيات".
وترى المؤرخة هويير أن ألمانيا كان يجب أن تتخذ مثل هذا الوقف منذ زمن طويل. وقالت: "تواجه ألمانيا مشكلة قديمة، ربما منذ العام 1871، بين ما تريد أن تكونه ومكانتها في العالم وفي أوروبا". وأضافت "سيكون من المثير للاهتمام رؤية ما الذي سيفعله المستشار التالي".