أوروبا لا تملك الوقت الكافي للدفاع عن مكانتها وسط تطورات عالمية قاسية

الجمود السياسي والتهديدات الخارجية والركود يهدد طموحات الاتحاد الأوروبي ليصبح قوة عالمية مستقلة

time reading iconدقائق القراءة - 9
علم الاتحاد الأوروبي يرفرف خارج بيرلايمونت في بروكسل، بلجيكا - المصدر: بلومبرغ
علم الاتحاد الأوروبي يرفرف خارج بيرلايمونت في بروكسل، بلجيكا - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

يقترب المشروع الأوروبي من نقطة تحول حاسمة. فالمنطفة تشهد مزيجاً من الجمود السياسي، والتهديدات الخارجية، والركود الاقتصادي والذي يهدد بالإطاحة بطموحات الاتحاد الأوروبي بأن يصبح قوة عالمية مستقلة، مما يدفع الدول الأعضاء إلى الدفاع عن مصالحها الخاصة بدلاً من ذلك.

بعد عقود من التحذيرات والنمو المتواضع، يواجه قادة أوروبا فجأة موجة من الأدلة التي تشير إلى أن التراجع أصبح يستعصي على التوقف.

الرئيس الفرنسي المؤيد للاتحاد الأوروبي تنازل عن حق النقض لحكومته لصالح اليمين المتطرف؛ وأكبر شركة لصناعة السيارات في ألمانيا تتحدث عن إغلاق مصانعها المحلية لأول مرة على الإطلاق؛ وعمالقة التكنولوجيا الأميركيون يديرون ظهورهم للسوق الأوروبية بسبب القيود الجديدة على الذكاء الاصطناعي.

تعكس هذه التطورات فشل الاتحاد الأوروبي في العمل ككتلة اقتصادية متماسكة وديناميكية، مما يقوض مكانته ويضعف قدرته على مواجهة مجموعة متنوعة من التهديدات، بدءاً من السياسة الصناعية الصينية وصولاً إلى العدوان العسكري الروسي، أو حتى إدارة أميركية مستقبلية معادية.

اللامبالاة أو المقاومة التي أبدتها الحكومات مؤخراً إزاء دعوة رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماريو دراغي لزيادة الاستثمارات وإصدار سندات مشتركة لمواجهة ضعف نمو الإنتاجية تسلط الضوء على مدى تراجع أوروبا عن محاولات التغلب على هذه التحديات.

القوة الاقتصادية لأوروبا أهم

يقول غونترام وولف، أستاذ في الجامعة الحرة ببروكسل وزميل بارز في مركز أبحاث "بروغل": "إذا كنت تريد أن تصبح قوة جيوسياسية، فإن القوة الاقتصادية هي العنصر الرئيسي". وأضاف: "كان نمو الإنتاجية كارثياً. أوروبا لا تزال غنية، ولكن هذه الفروقات على مدى 20 عاماً لها آثار هائلة".

تكمن المشكلة الأساسية في أن العالم يشهد تحولات جذرية تتمثل في انهيار المناخ، والتغيرات الديموغرافية، والتحول إلى اقتصاد ما بعد صناعي، وهي ظواهر تتباطأ أوروبا في الاستجابة لها.

يسعى المنافسون الجيوسياسيون للمنطقة إلى استغلال هذه التحولات، بينما العديد من أكبر أعضاء الاتحاد الأوروبي مثقلون بنماذج اقتصادية فاشلة منذ فترة طويلة، مع ناخبين غير راضين ولا يقبلون البدائل.

يقول الرئيس البولندي السابق ألكسندر كفاشنيفسكي: "هناك شيء يتغير بشكل جذري وعميق جداً في هذا العالم. لا يمكننا الرد بشكل صحيح لأننا بطيئون للغاية".

بالطبع، الصين تواجه أيضاً تباطؤاً اقتصادياً، والولايات المتحدة تتجه نحو انتخابات قد تكون مضطربة، مع اختلال في التوازن المالي العام. لكن كلا البلدين يمتلك أنظمة تركز على اتخاذ القرارات إلى حد كبير، وتولد كميات هائلة من رأس المال الخاص أو العام للدفاع والاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة.

أوروبا لا تمتلك أياً من هذه المزايا، وهذا أصبح واضحاً بشكل متزايد.

معايير المعيشة بأوروبا

بالتأكيد، معايير المعيشة في الاقتصادات الأوروبية الغنية ليست على وشك الانهيار. قد تستفيد بعض الدول من الاستثمارات أو الصفقات التجارية مع الولايات المتحدة أو الصين أو روسيا. ولكن كلما استمرت الاتجاهات الحالية، زادت هشاشة أوروبا أمام الصدمات الدراماتيكية.

قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذا الشهر في جلسة حوارية في برلين: "أنا حقاً أعتقد أننا في خطر. في غضون سنتين إلى ثلاث سنوات، إذا واصلنا اتباع أجندتنا التقليدية، سنخرج من السوق. ليس لدي أي شك".

بدأت تلك المخاطر تتبلور بالفعل بالنسبة للاتحاد الأوروبي، حيث يزداد اعتماد الكتلة على الاقتصاد الصيني رغم تزايد النزاعات مع بكين.

يؤكد ماكرون أن فقدان الوقود الأحفوري الروسي الرخيص منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022، والسياسة الصناعية المكثفة التي يتبعها الرئيس الأميركي جو بايدن، يمثلان تدميراً للنموذج القديم الذي سمح بازدهار الاقتصادات الأوروبية القائمة على التصدير.

يضاف ذلك إلى التحديات الموجودة مسبقاً التي يطرحها صعود الصين، وماكينتها الصناعية الضخمة، والتقدم الهائل في الابتكار التكنولوجي الذي تجاوز المنطقة إلى حد كبير.

تحول شبيه بالثورة الصناعية

قال ديفيد غالبريث، رجل أعمال ومستثمر في مجال التكنولوجيا وعمل على جانبي الأطلسي، ويرى أن الاقتصاد العالمي في خضم تحول شبيه بالثورة الصناعية: "انظر إلى ما حدث للدول التي فشلت في التصنيع. لم يكن أداؤها جيداً".

النتيجة تهدد بإحداث أضرار تتجاوز مجرد التأخر في الاستثمار والإنتاجية: قادة المنطقة يفقدون الثقة في المشروع الأوروبي.

الأمر لا يتعلق فقط بالمشككين في الاتحاد الأوروبي مثل فيكتور أوربان في المجر، الذي كان دائماً شوكة في خاصرة الكتلة. المسؤولون في الدول الأوروبية الأساسية بدأوا يرون الاتحاد الأوروبي كعقبة يجب تجاوزها بدلاً من أن يكون مصدر الازدهار والحماية الذي مثله حتى الآن.

يتحدث المسؤولون الفرنسيون عن تعميق التكامل مع مجموعة أصغر من الدول خارج إطار الاتحاد الأوروبي بسبب معارضة ألمانيا المستمرة. يستشهد المسؤولون البولنديون بمبادرات مماثلة في مجال الدفاع. أما رئيس وزراء إسبانيا، التي كانت تقليدياً من أكثر الدول دعماً للاتحاد الأوروبي، فيقوم بتقويض سياستها التجارية في سبيل استقطاب الاستثمارات الصينية.

أوضح جيمي راش، كبير الاقتصاديين الأوروبيين في "بلومبرغ إيكونوميكس": "الجغرافيا السياسية للتقسيم تعمل حقاً. الصين توجه سياسة إسبانيا تجاه الاتحاد الأوروبي من خلال إلقاء القليل من الأموال. أوربان يتصرف دون عقاب. كل هذا يقوض الثقة في المشروع الأوسع، ليس فقط بالنسبة للسياسيين، بل أيضاً للمستثمرين".

فجوة الإنتاج الأوروببة سمحت لأميركا بالتقدم

الرؤساء التنفيذيون والمستثمرون بدأوا أيضاً يبدون شكوكاً مماثلة حول أوروبا، وكان ذلك أكثر وضوحاً في القرارات الأخيرة التي اتخذتها "أبل" و"ميتا بلاتفورمز" بالامتناع عن طرح أحدث منتجاتهما المتعلقة بالذكاء الاصطناعي في السوق الأوروبية-مما أضر بمزاعم الكتلة بأنها معيار المعايير العالمية.

في السابق، كان معظم الشركات العالمية يعتبر السوق الموحدة كبيرة ومربحة جداً بحيث لا يمكن تجاهلها، رغم القوانين الصارمة. إلا أن عمالقة التكنولوجيا الأميركية اعترفوا بأن قواعد الاتحاد الأوروبي بشأن الذكاء الاصطناعي مقيّدة للغاية.

في هذا السياق السياسي والاقتصادي العالمي المتفاقم، وضع دراغي، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، مخططاً في سبتمبر لإنعاش الكتلة، مع توثيق دقيق لخطر تدهور المنطقة كقوة اقتصادية.

استمر التراجع النسبي للاتحاد الأوروبي على مدار ربع قرن منذ الاتحاد النقدي. أظهرت تحليلات "بلومبرغ إيكونوميكس" أن اقتصاد الكتلة كان يمكن أن يكون أكبر بحوالي 3 تريليونات يورو (3.3 تريليون دولار) لو حافظ على وتيرة الولايات المتحدة- وهو ما يكفي لزيادة دخل العامل العادي بنحو 13 ألف يورو سنوياً.

تحدٍ وجودي

قال دراغي في مقدمة تقريره: "الأسس التي بنينا عليها الاتحاد تتعرض الآن للاهتزاز.وهذا تحدٍ وجودي".

توصياته الرئيسية، التي ركزت على تسخير القوة المالية للاتحاد الأوروبي من خلال إصدار المزيد من الديون المشتركة، قوبلت بالرفض الفوري من قبل الألمان، الذين يتحفظون على تحمل المزيد من المخاطر المشتركة مع الدول الأعضاء الأخرى. أما الأولويات الأخرى، مثل إنشاء سوق رأسمال مشترك، فلم تكتسب بعد الزخم المطلوب.

لم يلق التقرير استجابة كبيرة حتى الآن، مما أثار قلق بعض صناع القرار الذين يخشون أن النافذة المتاحة للتحرك قد تُغلق بسرعة.

قال وزير المالية اليوناني كوستيس هاتزيداكيس في مقابلة بتاريخ 24 سبتمبر: "من الواضح أن أوروبا تتراجع خلف شريكتيها التجاريتين الرئيسيتين، وهما الولايات المتحدة والصين. إذا لم تتخذ إجراءات فورية، فإن التراجع سيصبح في نهاية المطاف غير قابل لتعديل مساره".

تصنيفات

قصص قد تهمك