بلومبرغ
يستقبل الرئيس الصيني شي جين بينغ في بكين الأٍسبوع الجاري زعماء أفريقيا الطامعين في سخاء بلاده، بيد أنه يمد يده للمصافحة بينما يمسك بالأخرى دفتر شيكات أصغر حجماً، إذ بات يملك رؤية أكثر وضوحاً لما يرغب في قطفه من ثمار في مقابل ذلك، شريطة جني عوائد أكبر ومتاعب أقل.
على مدى عقد، ضخت الصين أكثر من 120 مليار دولار من القروض الممولة من الحكومة، عن طريق مبادرتها "الحزام والطريق"، لبناء محطات الطاقة الكهرومائية والطرق وخطوط السكك الحديد عبر كافة أنحاء القارة، بالإضافة إلى نفوذ غير مسبوق. ساعدت هذه العلاقات بكين على تأمين الوصول إلى الطاقة والمعادن، مع توفير منفذ لتصريف ناتج سعتها الصناعية غير المستغلة.
دول متعثرة
لكن مشروعات البنية التحتية والحضور الدبلوماسي ارتبطا أيضاً باتهامات بـنصب "فخاخ ديون" والاستغلال والفساد، وهي اتهامات دعمتها موجة من أزمات الديون اجتاحت أفريقيا خلال السنوات الأخيرة، وتخلفت 3 بلدان عن سداد ديونها، ما أسفر عن عمليات إعادة هيكلة طويلة الأجل. بدت بعض المشروعات مثل مشروع سكة حديد غير مكتمل بقيمة 3.8 مليار دولار في كينيا تنتهي في حقل فارغ، في تجسيد لوعد لمبادرة الحزام والطريق لم يتحقق.
قبيل انعقاد الاجتماع، يتوقع كلا الجانبين استمرار العلاقات الوثيقة التي قامت على سخاء بكين. الفرق الآن هو أن شي، الذي يواجه صعوبات في معالجة تباطؤ الاقتصادي الصيني، بدأ يحول تركيز بلاده نحو شراكات أكثر غموضاً وتجري بالتعاون بين القطاع العام والخاص يمكن أن تولد عوائد أفضل مع إلقاء اللوم على أطراف أخرى في حال ساءت الأمور.
ذكر جوشوا آيزنمان، الأستاذ في جامعة نوتردام المختص بتدريس العلاقات بين الصين وأفريقيا: "لقد ولت أيام الإقراض الكبير. ما سيُقدم بعد ذلك لن يكون بنفس الحجم ولن يكون مفرطاً بل سيكون أكثر ربحية".
وفق مركز سياسات التنمية العالمية في جامعة بوسطن، قفزت القروض التقليدية التي تقدمها بنوك الصين الحكومية إلى أفريقيا من 98.7 مليون دولار إبان سنة 2000 إلى مستوى ذروة سجل 28.8 مليار دولار خلال 2016، ما جعلها أكبر دائن باتفاق ثنائي الأطراف في العالم للقارة السمراء. انخفضت هذه الأرقام في السنوات التالية ثم هبطت بشكل كبير خلال الوباء قبل أن ترتفع إلى 4.6 مليار دولار العام الماضي.
نهج جديد
طوال هذه الفترة، قدمت بنوك بكين التجارية أيضاً قروضاً، لكن يُتوقع أن يميل الاتجاه بصورة أكبر نحو هذه القروض المدرة للأرباح خلال الأعوام المقبلة. تشمل بعض المشروعات التي تمثل النهج الجديد للصين منجم حديد بقيمة 20 مليار دولار وخط سكة حديد في غينيا، وخط أنابيب لنقل النفط بقيمة 5 مليارات دولار في أوغندا وتنزانيا، وقرضاً نقدياً مقابل نفط بقيمة 400 مليون دولار في النيجر الذي يقول النظام العسكري الحاكم إنه يحتاجه لإدارة البلاد.
أعلنت وزارة الخارجية الزامبية الأسبوع الماضي أن الرئيس هاكيندي هيشيليما سيتوجه إلى بكين لحضور توقيع صفقة استثمارية لإحياء خط سكة حديد تازارا بطول 1160 ميلاً (1870 كم)، والذي بُني في الأساس خلال حقبة السبعينيات من القرن الماضي في إطار أول مشروع تقديم مساعدات كبير للصين في أفريقيا، والذي يربط بين تنزانيا وزامبيا. كشف مسؤولون من البلدين عن معلومات قليلة حول طريقة هيكلة صفقة تازارا البالغة مليار دولار، لكن يتوقع أن تعتمد على نموذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص بدلاً من الديون العامة من أحد البنوك الحكومية الصينية.
هرعت الحكومات الأفريقية إلى الصين خلال العقد الأول من القرن الـ21، ويعزى ذلك جزئياً لأنه لم تتوفر سوى خيارات قليلة للحصول على تمويل لهذا النوع من مشروعات البنية التحتية الكبرى التي كانت في أمس الحاجة إليها. شعرواً أيضاً بالامتنان لطريقة تقديم قروض الصين دون اشتراطات تتعلق بالبيئة وحقوق الإنسان وغيرها التي تفرضها عادة منظمات على غرار البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
لكن الديون المتنامية سرعان ما بدأت تشكل عبئاً على ميزانيات الدول، ولم تصل العديد من المشاريع التي يمولها الصينيون إلى المستوى المتوقع، وهو العملية التي تفاقمت جراء وباء كورونا. عندما تخلفت زامبيا عن سداد ديونها خلال 2020، وضعت الأزمة من جديد دور الصين في تمويل البلدان الأفريقية قيد التدقيق. أعقبتها غانا، بينما ما يزال أكثر من 10 بلدان أفريقية أخرى عرضة لخطر جسيم جراء أزمة الديون. تُعتبر أنغولا أكبر دولة مدينة للصين بمبلغ وصل حالياً إلى 17 مليار دولار تقريباً، أي أكثر من ثلث إجمالي ديونها الخارجية.
حققت بعض المشروعات نجاحاً مشهوداً. يأتي من بينها محطة "كافوي غورج لوير" للطاقة الكهرومائية في زامبيا، التي تبلغ قيمتها ملياري دولار، والتي تم تمويلها بطريقة كبيرة من قبل بنك التصدير والاستيراد الصيني وبنك "إندستريال آند كوميرشال بنك أوف تشاينا". في مثال آخر، تأتي توسعة مشروع هوانغ للطاقة الكهرومائية في زيمبابوي بقيمة 1.5 مليار دولار والتي ساعدت في تخفيف انقطاعات التيار الكهربائي التي تستمر يوماً تقريباً في البلاد.
لكن خبراء الاقتصاد يتفقون بشدة على أنه مع التمويل الصيني، فإن العديد من الدول الأفريقية تجاوزت حدودها المسموحة. بدت بعض المشروعات، مثل مشروع خط السكك حديد خفيف داخل العاصمة النيجيرية أبوجا، بقيمة 823 مليون دولار- مهجورة أو تعمل بصعوبة. تنفق نيجيريا 50 مليون دولار سنوياً لسداد قروضها الخاصة بهذا المشروع. خلال زيارة لمرافق خط السكك الحديد السنة الماضية، كانت توجد عربات قطار مغلقة، وكانت المحطات مهجورة تماماً.
هيكلة الديون
بعد تخلف زامبيا عن سداد ديونها، أوشكت صفقة إعادة هيكلة نحو 3 مليارات دولار من الديون على الفشل، حيث عانى نادي باريس والصين من الصعوبة في التوصل لاتفاق مع مديري الصناديق على صفقة من شأنها أن توزع الخسائر بالتساوي. تتواصل المحادثات بشأن 3.4 مليار دولار أخرى من الديون، بقيادة بنك "تشاينا ديفلوبمنت بنك" و"إندستريال آند كوميرشال بنك أوف تشاينا".
ذكر هوانغ يوفان، باحث في مبادرة بحوث الصين وأفريقيا في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة "جونز هوبكنز": "تتعلم الصين الدروس من الأخطاء. وتدرك أن طريقة إقراضها السابقة لم تعد تصلح. كما تدرك أن هذه الحكومات يمكن أن تتخلف عن السداد وأنها عرضة للمخاطر بصورة كبيرة".
لا يعني هذا الأمر أن بكين ستتخلى عن خططها.
تسمح استراتيجية الصين الجديدة التي تركز على الشراكات بين القطاعين العام والخاص للحكومات الأفريقية التي تعاني من نقص السيولة المالية بالاستمرار في الاقتراض دون مفاقمة ديونها السيادية المعلنة رسمياً.
يُعد مشروع التعدين في سيماندو للحديد الخام في غينيا، الذي تبلغ قيمته 20 مليار دولار، مثالاً آخر على النموذج الجديد. تعتبر شركة تصنيع الصلب الأكبر في العالم، "تشاينا باوو ستيل غروب، وشركة إنتاج الألمنيوم "ألمنيوم كورب. أوف تشاينا"، من كبار المستثمرين، إلى جانب مجموعة "ريو تينتو غروب" الأسترالية. تسيطر الشركات الحكومية الصينية على أكثر من 40% من الأسهم في كلا التحالفين اللذين يطوران المجمع، بينما تحتفظ حكومة غينيا بحصة قدرها 15%.
فوائض الإنتاج
يهدف شركاء مشروع سيماندو إلى إنتاج 120 مليون طن من خام الحديد عالي الجودة سنوياً خلال المرحلة الأولى، وهو حجم يمكن أن يفاقم من الفوائض في السوق ويمنح الصين أكبر مستهلك للإنتاج من المشروع نفوذاً أوسع في عملية تحديد السعير.
في وسط أفريقيا، أعلنت جمهورية الكونغو الديمقراطية عن اتفاقية مع الصين لبناء بنية تحتية بقيمة 7 مليارات دولار مع حلول 2040، مدعومة بعائدات مشروع مشترك لتعدين الكوبالت والنحاس يُعرف باسم "سيكومينس" (Sicomines). وتُعد الصفقة تعديلاً لاتفاقية الموارد مقابل البنية التحتية التي تعود لـ2008، الممولة من بنك التصدير والاستيراد الصيني.
تم إعفاء "سيكومينس" من جميع الضرائب تقريباً وبدأت في إنتاج قيمة مليارات الدولارات من المعدن سنوياً. لكن على مدى 14 عاماً، لم يسلم بنك التصدير والاستيراد الصيني إلا جزءاً من تمويل البنية التحتية الذي وعد به، واشتكى مسؤولون كونغوليون من المغالاة في قيم فواتير التكلفة من قبل المقاولين الصينيين والمسؤولين المحليين حيث كانت عملية سائدة.
يستمر العمل بإعفاءات الضرائب بموجب الاتفاق الجديد، وقد ربط الشركاء الصينيون مدفوعات البنية التحتية بسعر النحاس. إذا هبط السعر عن 8 آلاف دولار للطن، أي أقل من المتوسط خلال الأعوام الخمسة الماضية، تقل المدفوعات. تتوقف المدفوعات تماماً إذا هبط السعر عن 5 آلاف دولار.
أساليب غاضمة
في نهاية الأمر، فإن طريقة هيكلة العديد من هذه الاتفاقات الجديدة تنطوي على خطر تحميل الحكومات الأفريقية المستقبلية مليارات الدولارات من الديون الأقل شفافية، وفق براد باركس، المدير التنفيذي لـ"إيد داتا" (AidData)، وهي مؤسسة بحثية في كلية "ويليام وماري".
قال باركس: "ما يفعلونه هو استخدام الكثير من الأساليب المحاسبية المبتكرة لتجاوز قيود الاقتراض ولكن من خلال آليات أكثر غموضاً".
الاستعداد لاستخدام أساليب إبداعية أكثر في تمويل المشاريع "أمر جيد" لأنه يسمح للدول ببناء البنية التحتية الحيوية، وفق هانا رايدر، من مؤسسة "ديفيلوبمنت ريميجينيد" (Development Reimagined)، وهي مؤسسة بحثية تركز على الصين وأفريقيا ولها مكاتب في نيروبي وبكين ولندن.
مثل هذه الشراكات يمكن أن تستمر في إثارة المشكلات. يحذر إريك لويتير، ممثل صندوق النقد الدولي في زامبيا، من "وهم بلوغ وضع مالي جيد" إذا كانت هناك بنود مثل وضع ضمانات لحد أدنى من الإيرادات التي تفيد الدائنين بغض النظر عن نجاح مشروع من عدمه.
علق لويتير على الشراكات بين القطاعين العام والخاص بقوله: "كافة مشروعات البنية التحتية تنطوي بطبيعتها على مخاطر، بما فيها شراكات القطاعين العام والخاص، لا سيما مع إدارتها بطريقة غير صحيحة حيث يمكن أن ينجم عنها مخاطر مالية جسيمة".
يعتقد المسؤولون الأميركيون أن البنوك الحكومية الصينية تجاوزت حدود الإقراض المسموح بها ويساروهم القلق إزاء غموض الترتيبات الجديدة، وفق أشخاص مطلعين على شؤون السياسة الأميركية.
تحتفظ بكين بوجهة نظر مغايرة. أوضحت وزارة الخارجية الصينية في بيان: "إن استنتاجات وجود غموض وتكاليف عالية ليست إلا تكهنات. ويتوافق التعاون المالي بين الصين وأفريقيا دائماً مع القواعد الدولية المعمول بها ومبدأ الانفتاح والشفافية والقوانين واللوائح المحلية".
تنافس استثماري
سدت دول مثل الإمارات العربية المتحدة والسعودية وقطر جزئياً فراغاً ناجماً عن تراجع التمويل الصيني خلال السنوات الأخيرة. استضافت الولايات المتحدة الأميركية أيضاً قمماً خاصة بها لزعماء أفريقيا، عقد آخرها آواخر 2022 في واشنطن. أبرمت شركات من الولايات المتحدة الأميركية وأفريقيا صفقات بقيمة 15 مليار دولار في ذلك الوقت، تشمل استثمارات في مجالات الأمن السيبراني والطاقة النظيفة، فضلاً عن وعود بتوسيع التجارة.
يقول المسؤولون الأميركيون إن صفقاتهم- مثل الدعم التمويلي لمشروع سكك حديد لوبيتو بقيمة 2.3 مليار دولار، والذي يربط بين الكونغو وزامبيا وأنغولا، ستقلص استدانة الدول الأفريقية. لكن حتى المسؤولين الأميركيين يعترفون أنه عندما يتعلق الأمر بالاستثمارات ضخمة، فإن بكين تأتي ضمن خيارات محدودة أمام القادة الأفارقة.
بين آموس هوكشتاين، كبير مستشاري البيت الأبيض للطاقة والاستثمار: "أينما ذهبت، يخبرني زعماء الدول أنهم لا يفضلون اختيار مسار التعاون مع الصين المقترن بزيادة الديون لكن إذا كان عليهم الاختيار بين هذا الاستثمار من عدمه، فسيختارون هذا الاستثمار دائماً".