بلومبرغ
برغم أنَّ الاقتصاد العالمي يسير في طريقه هذا العام نحو أسرع معدَّل نمو له منذ أكثر من نصف قرن، إلا أنَّ الاختلافات وأوجه القصور قد تمنعه من بلوغ مستويات
ما قبل الوباء في أي وقت قريب.
وتتولى الولايات المتحدة زمام القيادة في الاجتماع الافتراضي عبر الإنترنت نصف السنوي لصندوق النقد الدولي هذا الأسبوع، إذ تضخ تريليونات الدولارات لتحفيز الميزانية، وتستأنف دورها كوصي على الاقتصاد العالمي بعد إطاحة الرئيس جو بايدن برئيس " أمريكا أولاً " دونالد ترمب. كما جاء يوم الجمعة بأخبار تتعلَّق بالشهر الأكبر على صعيد معدَّل التوظيف منذ شهر أغسطس الماضي.
وتلعب الصين دورها أيضاً من خلال البناء على نجاحها في مكافحة فيروس كورونا العام الماضي حتى عندما بدأت في التراجع عن بعض مساعداتها الاقتصادية.
ومع ذلك، على عكس ما حدث في أعقاب الأزمة المالية لعام 2008 ، يبدو الانتعاش غير متوازن، ويرجع ذلك جزئياً إلى اختلاف عملية طرح اللقاحات، والدعم المالي عبر الحدود.
ويأتي من بين البلدان المتراجعة، معظم الأسواق الناشئة ومنطقة اليورو، فقد وسَّعت فرنسا وإيطاليا القيود على النشاط لاحتواء تفشي فيروس كورونا.
وقالت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا، الأسبوع الماضي:
" في حين تحسَّنت التوقُّعات بشكل عام، تتباين الآفاق بشكل خطير، اللقاحات ليست متاحة بعد للجميع وفي كل مكان، ولا يزال الكثير من الناس يعانون من فقدان الوظائف وزيادة الفقر، والعديد من البلدان تتخلَّف عن الركب ".
تفاوت شديد
النتيجة أنَّه قد يستغرق الأمر سنوات حتى تنضمَّ مناطق شاسعة من العالم إلى الولايات المتحدة والصين إلى التعافي التام من الجائحة.
وبحلول عام 2024، سيظل الإنتاج العالمي أقل بنسبة 3 % مما كان متوقَّعاً قبل تفشي الوباء، وستعاني البلدان التي تعتمد على السياحة والخدمات أكثر من غيرها، وفقاً لصندوق النقد الدولي.
ورصدت هذا التفاوت مجموعة جديدة من التقارير الحالية من قبل " بلومبرغ أكونوميكس " التي تظهر نمواً عالمياً بنحو 1.3 % على أساس ربع سنوي في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2021، ولكن في حين أنَّ الولايات المتحدة تنتعش، فإنَّ فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، والمملكة المتحدة، واليابان تنكمش، وفي الأسواق الناشئة، تتفوَّق الصين على كلٍّ من البرازيل، وروسيا، والهند.
و توقَّعت " بلومبرغ إيكونوميكس " نمواً للعام بأكمله بنسبة 6.9 %، وهو الأسرع في المستويات التي يعود تاريخها إلى الستينيات من القرن الماضي.
ويقف وراء هذه النظرة المزدهرة تقلُّص تهديد الفيروس، وتوسيع برامج التحفيز الاقتصادي الأمريكية، وتريليونات الدولارات في المدخرات الحبيسة.
النمو أم الاحتواء؟
وسيعتمد الكثير على مدى سرعة البلدان في تطعيم سكانها مع خطر أنَّه كلما استغرق الأمر وقتاً أطول، زادت فرصة أن يشكِّل بقاء الفيروس تهديداً دولياً، خاصة إذا ظهرت أنواع متحوِّرة جديدة منه.
ويكشف برنامج " Vaccine Tracker " لتتبُّع عمليات التطعيم عالمياً التابع لوكالة " بلومبرغ " أنَّه في حين أدارت الولايات المتحدة عملية تطعيم تعادل ما يقرب من ربع سكانها، فإنَّ الاتحاد الأوروبي لم يصل بعد إلى 10 %، والمعدَّلات في المكسيك، وروسيا، والبرازيل أقل من 6 %.
و قال منصور محي الدين كبير خبراء الاقتصاد في بنك " سنغافورة": إنَّ" الدرس المستفاد هنا هو أنَّه لا توجد مقايضة بين النمو والاحتواء للفيروس".
وقال ناثان شيتس، المسؤول السابق في مجلس الاحتياطي الفيدرالي، إنَّه يتوقَّع أن تستخدم الولايات المتحدة الاجتماعات الافتراضية هذا الأسبوع لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للقول بأنَّ الوقت الحالي ليس هو الوقت المناسب للدول للتراجع عن مساعدة اقتصاداتها.
موقف دفاعي
وسيجري توجيه هذه الرسالة في الغالب إلى أوروبا، وخاصة ألمانيا، بتاريخها الطويل من التشدد المالي. ولن يبدأ برنامج صندوق الإنعاش المشترك للاتحاد الأوروبي البالغ قيمته 750 مليار يورو (885 مليار دولار) حتى النصف الثاني من العام.
وأوضح " شيتس " أنَّ الولايات المتحدة ستعمل على تحقيق أمرين من خلال طرح قضيتها، وهما تعزيز الاقتصاد المحلي، ودعم وفد القائدة المحترمة دولياً في وزارة الخزانة جانيت يلين، وهي ليست غريبة على اجتماعات صندوق النقد الدولي منذ أن كانت رئيسة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.
لكنَّ أكبر اقتصاد في العالم قد يجد نفسه في موقف دفاعي عندما يتعلَّق الأمر بتوزيع اللقاحات بعد تكديس الإمدادات الضخمة لنفسه. وأشار شيتس، الذي يشغل الآن منصب رئيس البحوث الاقتصادية العالمية في مؤسسة " بي جي أي إم فيكسد إنكوم " ( PGIM Fixed Income) إلى أنَّه سيجري الاستماع إلى دعوة صارخة تنبثق من خلال هذه الاجتماعات لمزيد من المساواة في الحصول على اللقاحات ".
سلاح ذو حدين
وعلى الرغم من أنَّ الاقتصاد الأمريكي المزدهر سيعمل بلا شكٍّ كمحرِّك لبقية العالم من خلال امتصاص الواردات ، فقد يكون هناك أيضاً بعض التذمر بشأن تكاليف الاقتراض المرتفعة في السوق التي يجلبها النمو السريع، خاصة من الاقتصادات التي ليست في حالة جيدة.
و قال كبير خبراء الاقتصاد السابق في صندوق النقد الدولي، موري أوبستفيلد، وهو الآن زميل أول في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي في واشنطن: " إنَّ حوافز " بايدن" سيف ذو حدين، وذلك لأنَّ ارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل في الولايات المتحدة يؤدي إلى تشديد الأوضاع المالية العالمية، وهذا له آثار على القدرة على تحمُّل الديون بالنسبة للبلدان التي تعمَّقت في الديون لمحاربة الوباء ".
و قال كبير خبراء الاقتصاد في " جي بي مورغان" بروس كاسمان، إنَّه لم يرَ مثل هذه الفجوة الواسعة خلال 20 إلى 25 عاماً في الأداء المتفوِّق المتوقَّع للولايات المتحدة، والدول المتقدمة الأخرى عند مقارنته بالأسواق الناشئة.
ويعود ذلك جزئياً إلى الاختلافات في توزيع اللقاح، لكنَّه يرجع أيضاً إلى خيارات السياسة الاقتصادية التي تتخذها مختلف البلدان.
وبدأت البنوك المركزية في الأسواق الناشئة، بعد أن خفَّضت أسعار الفائدة في الغالب والعمل على برامج شراء الأصول العام الماضي، في الاشتراك مع بعض منها على صعيد رفع أسعار الفائدة، إما بسبب تسارع التضخم أو لمنع تدفُّق رأس المال للخارج.
ورفعت كلٌّ من تركيا، وروسيا، والبرازيل تكاليف الاقتراض الشهر الماضي، في حين يقول بنك الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي، إنَّهما لن يفعلا ذلك لفترة طويلة حتى الآن.
موقف الأسواق الناشئة
ويعتقد روب سوبارامان، رئيس أبحاث الأسواق العالمية في مؤسسة "نومورا هولدينغز" في سنغافورة أنَّ البرازيل، وكولومبيا، والمجر، والهند، والمكسيك، وبولندا، والفلبين، وجنوب إفريقيا كلها تخاطر بإفراط في سياسات مالية فضفاضة.
وشدَّد سوبارامان على أنَّه مع تجربة البنوك المركزية الرئيسية في الأسواق المتقدِّمة ومدى حدتها في إدارة الاقتصادات قبل أن يصبح التضخم مشكلة، ستحتاج البنوك المركزية في الأسواق الناشئة إلى أن تكون أكثر حرصاً على عدم التخلُّف عن أقرانها، ومن المرجَّح أن تحتاج إلى أن تقود نظراء السوق المتقدِّمين في دورة رفع الأسعار التالية بدلاً من اتباعهم.
وفي مقطع فيديو جرى عرضه على العملاء في الأول من شهر أبريل الجاري لخَّص كاسمان التوقُّعات الاقتصادية العالمية بهذه الطريقة قائلاً: " ظروف من النوع المزدهر وسط تباينات واسعة جداً ".