أردوغان يستقطب المستثمرين الأجانب لكن الأتراك يدفعون الثمن

التضخم يسجل أعلى مستوياته في الأعوام الأخيرة بعد تخلي الرئيس عن نهجه الاقتصادي غير المعتاد

time reading iconدقائق القراءة - 15
عدد من الأشخاص يقفون قبالة أحد شواطئ إسطنبول، تركيا - المصدر: بلومبرغ
عدد من الأشخاص يقفون قبالة أحد شواطئ إسطنبول، تركيا - المصدر: بلومبرغ
المصدر:بلومبرغ

عادةً لا يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى تنتقل المحادثات بين المهنيين في إسطنبول أو أنقرة نحو المطاعم ومحلات البقالة، لكن المواطنين لا يتحدثون كثيراً في هذه الأيام عن عروض الطعام، بل عن الأسعار فقط.

عانت تركيا من ارتفاع معدلات التضخم إلى أعلى مستوياتها حول العالم في الأعوام الأخيرة، حيث تخلى الرئيس رجب طيب أردوغان عن نهجه الاقتصادي الذي يستهدف تحقيق النمو بأي ثمن. وبعد أكثر من عام على تعزيز قبضته على السلطة بتحقيق فوز آخر في الانتخابات الأخيرة، يساعد تحول السياسة الآن في جذب بعض المستثمرين الأجانب الذين فروا عندما انهارت الليرة التركية.

لكن أي قصة تحول كبيرة في الأسواق الناشئة لها حتماً وجه آخر. فبالرغم من وعود المسؤولين بأن الأسوأ قد انتهى، تعتقد العديد من الأسر التركية أن التضخم سيتسارع أكثر، بينما يعانون من ارتفاع تكاليف الاقتراض.

نجح أردوغان وحكوماته المتعاقبة في انتشال ملايين الأتراك من الفقر إلى الطبقة المتوسطة على مدى أكثر من عقدين. لكن الخطر يكمن الآن في أن المواطنين الذين استفادوا من طفرة الائتمان، ينتهي بهم المطاف إلى مواجهة ضغوط كبيرة إلى حد يجعل الاقتصاد البالغ حجمه تريليون دولار، يتلقى ضربة قوية بينما يواجه مرحلة حرجة.

ضحايا الأزمة الاقتصادية

تسارع التضخم إلى نحو 76% في مايو مقارنة بالعام السابق. ويتوقع البنك المركزي التركي أن تصل وتيرة ارتفاع الأسعار إلى نصف هذه النسبة بحلول نهاية العام، لكن الأتراك لا يشاركونه هذا التفاؤل. ارتفعت أسعار المواد الغذائية بأكثر من 50%، على أساس سنوي، منذ بداية 2022.

تُعد إليف بولوت واحدة من ملايين الأتراك الذين سُمح لهم بالتقاعد المبكر كهدية قبل الانتخابات لتعزيز شعبية أردوغان. وتعمل السيدة ذات الـ54 عاماً كسكرتيرة في شركة ديكور لزيادة دخلها الشهري، وهي تعتبر نفسها الآن "ضحية الأزمة الاقتصادية"، فهي تعمل 10 ساعات يومياً لتجني ما يزيد قليلاً عن الحد الأدنى للأجور، وتحاول مواكبة ارتفاع الأسعار.

قالت بولوت، التي تعيش في العاصمة أنقرة: "نحن من اضطررنا لتحمل العواقب"، مضيفة: "لا أصدق الأكاذيب المتعلقة بالتحول الاقتصادي المزعوم، ولا أشعر به على الإطلاق، لكن ربما يشعر به المستثمرون الأجانب".

يُعد تشديد السياسات النقدية والمالية ضرورياً للحفاظ على ارتفاع الأسهم والسندات التركية. وحقق مؤشر الأسهم القياسي عائداً مقوماً بالدولار، يزيد عن 40% منذ فوز أردوغان بجولة الإعادة في انتخابات الرئاسة في مايو الماضي، حيث سجل واحداً من أفضل الأداءات في العالم. وشهدت السندات التركية المقومة بالليرة تدفقات أجنبية قياسية بلغت 6.5 مليار دولار الشهر الماضي.

المستثمرون الفئة الأكثر استفادة

كذلك، أصبح الاقتراض بالدولار والاستثمار بالعملة التركية خطوة مفضلة للمستثمرين الأجانب، وكانت هذه الصفقات عبارة عن تجارة الفائدة الأكثر ربحية في الأسواق الناشئة الشهر الماضي.

تشير تقديرات "بلومبرغ إيكونوميكس" إلى أن الدولة شهدت تدفقات داخلة تقارب الـ20 مليار دولار في تجارة الفائدة منذ نهاية مارس، حيث يقترض المستثمرون من الدول ذات أسعار فائدة منخفضة ويستثمرون في دول أخرى تكون فيها مرتفعة.

قال ديفيد أوسترويل، نائب مدير المحفظة للأسواق الناشئة بشركة "فان إيك أسوشيتس" (Van Eck Associates)، إن "المستثمرين أكثر اقتناعاً من المواطن العادي في البلاد، الذي يواجه عادة عبء التضخم، وهو أمر طبيعي"، وأضاف أن "الأمر يستغرق وقتاً أطول بكثير حتى يستعيد الناس الثقة في بلدهم، كما أن التضخم يبدو أشبه بقضية سياسية الآن".

أشار صندوق النقد الدولي العام الماضي إلى أن نحو 30% من السكان خرجوا من دائرة الفقر منذ أوائل عقد 2000.

وحتى يحافظ على تقدم الاقتصاد، تخلى أردوغان، ذو الـ70 عاماً، عن نهجه التقليدي الذي اتبعه لخمسة أعوام، والذي تبنى خلاله سياسة نقدية متساهلة عززت النمو من خلال توفير الأموال الرخيصة.

تكاليف الاقتراض

بالرغم من ارتفاع التضخم وتهاوي قيمة العملة إلى مستويات قياسية، استفادت الطبقات المتوسطة التركية من تكاليف الاقتراض المنخفضة لشراء العقارات والسيارات أو تجميع العملة الأجنبية. ولم يسدد العديد منهم هذه القروض بعد، بينما أصبح الحصول على قروض جديدة الآن أكثر تكلفة بكثير.

وعيّن الرئيس أردوغان فريقاً من المسؤولين أكثر دراية بالسوق بعد فوزه في الانتخابات العام الماضي، وسط تحذيرات بأن البلاد كانت على شفا أزمة في ميزان المدفوعات. واختار أيضاً الاقتصادي السابق في "ميريل لينش" (Merrill Lynch) وصديقه المقرب محمد شيمشك كوزير للمالية لوضع خطة إصلاح اقتصادي.

جرى تشديد قواعد الإقراض لتقييد طفرة الائتمان. ورفع البنك المركزي سعر الفائدة الرئيسي إلى 50% من 8.5%، كما تضاعفت تكاليف القروض الاستهلاكية إلى 72% منذ مايو الماضي. وارتفعت أسعار الفائدة على بطاقات الائتمان، التي يعتمد عليها الأتراك بشكل كبير، أيضاً، ونتيجة لذلك، بدأت القروض المتعثرة في الارتفاع.

يحاول مراد كوسه، مساعد مكتب في جامعة حكومية في أنقرة، عدم تحميل بطاقته الائتمانية مزيداً من الأعباء نظراً لارتفاع تكاليف الاقتراض، بينما يسدد أيضاً رهناً عقارياً حصل عليه في عهد الأموال الرخيصة. وكان التغيير الأكبر هو إخراج ابنته من الجامعة نظراً لعدم قدرته على تحمل رسوم دراستها.

قال كوسه، البالغ من العمر 46 عاماً: "لو لم نقم بشراء المنزل، لمكثنا على الأرجح في الشوارع الآن". وتابع: "أسعار المواد الغذائية هي الأسوأ، فنحن لا يمكننا تناول اللحوم الحمراء إلا مرة أو مرتين في الشهر".

تغير عادات الإنفاق

لا يشعر الأتراك وحدهم بتأثير انخفاض الدخل المتاح، بل تتغير أيضاً عادات الإنفاق في الكثير من الدول، بدءاً من أقرانهم في الأسواق الناشئة مثل مصر إلى الدول الأكثر تقدماً في أوروبا، وذلك بسبب ارتفاع التضخم وأسعار الفائدة، مما يترتب عليه عواقب سياسية.

يستفيد المستثمرون الأجانب من التحول إلى السياسات الاقتصادية التقليدية المقترنة بأحد أعلى أسعار الفائدة الاسمية في العالم، في ظل عدم وجود انتخابات مهمة متوقعة خلال الأعوام الأربعة المقبلة.

وأعلنت وزارة المالية عن سلسلة من تخفيضات الإنفاق، وتدرس الآن اتخاذ تدابير ضريبية جديدة للمساعدة في كبح التضخم. وقال محافظ البنك المركزي فاتح كاراهان إن استقرار الأسعار سيسهم في النهاية في استعادة الرفاه الاجتماعي.

مع ذلك، قال ولفانغو بيكولي، الرئيس المشارك لشركة الاستشارات "تينيو" (Teneo)، إن هناك خطراً من نفاد صبر أردوغان بشأن التأثير الاجتماعي للتحول في السياسات الاقتصادية، وهذا قد يدفع البنك المركزي إلى خفض الفائدة قبل الأوان، لتجنب رد فعل سياسي عكسي.

وأشار أردوغان إلى أن التوقعات ستتحسن في وقت لاحق من العام، مع اتخاذ البلاد "خطوات" بشأن أسعار الفائدة. ونقلت صحيفة "صباح" التركية عن أردوغان قوله في نهاية الأسبوع الماضي: "سننتظر حتى الربع الرابع" لرؤية تراجع كبير في معدل التضخم المرتفع.

تدابير تخفيف أعباء المعيشة

هناك عامل آخر مهم وهو ما تفعله الحكومة للمساعدة في تخفيف ارتفاع تكاليف المعيشة بعد زيادة الحد الأدنى للأجور بنسبة 49% في بداية العام. جدير بالذكر أن أكثر من نصف القوى العاملة في تركيا يحصلون على الحد الأدنى للأجور أو ما يزيد عنه قليلاً. وتتجه الأنظار نحو ما إذا كان الوزراء سيقرون زيادة أخرى في يوليو، تماشياً مع ما جرى في الأعوام السابقة.

ويقول المستثمرون إن عدم اتخاذ أي خطوات سيكون علامة أخرى على الرغبة في كبح التضخم. وفي أبريل، استبعد وزير العمل فيدات إيشيخان رفع الأجور، رغم أن البنوك، بما فيها "غولدمان ساكس غروب"، لا تزال تعتبر ذلك مخاطرة.

وقال محمد توتارلي، صاحب الـ28 عاماً والذي يساعد عائلته في إدارة مصنعهم الخاص بالنقانق الحارة ولحم الخنزير المقدد: "إذا رفعت الحكومة الحد الأدنى للأجور، فإن المواطنين سيكون بإمكانهم زيادة الإنفاق قليلاً وتعزيز النشاط الاقتصادي، لكن هذا لن يستمر سوى بضعة أشهر".

تصنيفات

قصص قد تهمك