مع كل فترة رئاسية جديدة في الولايات المتحدة، تطفو إلى السطح الحاجة لفك ارتباط الولايات المتحدة بالشرق الأوسط، سيما مع تزايد التهديدات في بقاع أخرى على المسرح العالمي (من منظور واشنطن). وعلى الرغم من ذلك، تختلف التطورات في المنطقة كثيراً عن السياسات الأمريكية تجاه باقي المناطق حول العالم، خلال الرئاسات الأخيرة لبراك أوباما ودونالد ترمب والآن جو بايدن.
وتسعى إدارة بايدن اليوم إلى استقرار سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط (إن لم يكن لتحقيق الاستقرار في المنطقة نفسها)، وذلك كي تتمكن من التفرغ للتحدي الصيني المتصاعد، ومن بين كل الملفات، تواجه إدارة بايدن تحديات أكثر تعقيداً في ملفات تشمل أفغانستان وإيران والسعودية على وجه التحديد.
الإدارات السابقة في واشنطن، نادت بتحويل تركيز الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط لصالح آسيا والمحيط الهادئ، لكنها أولته قدراً كبيراً من الاهتمام.
وقد لا ينصب تركيز بايدن على الشرق الأوسط كما فعل أوباما وترمب أيضاً.
المستقبل.. الآن
تشارك إدارة بايدن الإدارات السابقة الرأي، لكنها تبدو أكثر اهتماماً بهذا الخيار القاضي بالابتعاد عن الشرق الأوسط، بالمقارنة مع الإدارات السابقة. فما كانت الإدارات تعتبره تحديات المستقبل، أصبحت قضايا راهنة الآن يتوجب التصدي لها.
نجحت إدارة أوباما من خلال "التركيز" على معالجة قضايا هامة في آسيا ولكنها كانت بعيدة عن الاتجاه العدائي للصين. أما الآن في العام 2021، فهناك خطر حقيقي يتمثل في إمكانية نشوب حرب في تايوان ما قد يجعل العقد المقبل حاسماً للتنافس بين الولايات المتحدة والصين.
تسعى إدارة بايدن لاستقرار سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط كي تتمكن من التفرغ للتحدي الصيني المتصاعد
ومنذ اللحظة التي تولى فيها منصبه، أشار بايدن إلى أن الشرق الأوسط لا يأتي في صدارة أولوياته، ولم يتصل بقادة المنطقة إلا بعد التحدث إلى نظرائهم في آسيا وأوروبا. ويبدو أن هدف بايدن الاستراتيجي في المنطقة يتركز في الحد من الضرر الذي يمكن أن يلحق بالمصالح الأمريكية مع الحد من الوقت والجهد الذي تبذله الولايات المتحدة هناك.
قد يكون من الصعب التوفيق بين هذه الأولويات. بعد ما تعرضت له إيران من ترمب وممارسته "أقصى ضغط" ليأتي دور إيران التي تضغط الآن بأقصى درجة ممكنة من خلال الهجمات بالوكالة على القواعد الأمريكية في العراق والتقدم التدريجي في برنامجها النووي، لأنها تسعى الى تعزيز نفوذ طهران الدبلوماسي قبل إحياء محتمل لاتفاق 2015 النووي.
وفي الوقت نفسه، فإن عملية السلام الأفغانية عالقة بين طالبان التي تعتقد أنها على وشك النصر والحكومة الأفغانية التي لديها كل الأسباب لتخريب أي اتفاق محتمل حتى لا تغادر القوات الأمريكية أبداً.
وفي السعودية، على الإدارة أن ترسم الحدود لطريقة التعامل مع ولي العهد محمد بن سلمان، الذي، قد يكون مصدر الحكم في البلد لخمسين عاماً مقبلة.
كرات من نار
على أي حال، قد تم توريث الفوضى لإدارة بايدن والتي يجب عليها البحث عن حلول مبتكرة لتلك الملفات.
بانسحاب ترمب من الاتفاق النووي مع إيران، يكون بايدن قد تسلم منه قنبلة موقوتة حيث تسعى إيران لانتهاز فرصة اللحظة الراهنة، واكتساب أي فرصة قد تلوح في الأفق.
ولكن بايدن قام بشن غارات جوية على القواعد التي تتمركز فيها الميليشيات العراقية المدعومة من إيران في سوريا، في رسالة تؤكد استعداده للرد على طهران حتى أثناء التفاوض معها. وهو ما يمثل تحولا مهما بالمخالفة لعهد أوباما الذي أدى سعيه القوي للتوصل إلى اتفاق نووي إلى عجز واشنطن عن وقف محاولات إيران لبسط نفوذها الإقليمي من اليمن إلى مختلف بلاد الشام.
أما في أفغانستان، فورث بايدن قضية ملتهبة. حيث لم يكن حجم القوات الأمريكية هناك كافياً لإنجاز الكثير، في الوقت الذي يلوح في الأفق الموعد النهائي في الأول من مايو لسحب تلك القوات بموجب اتفاق سلام لا تحترمه طالبان.
بعد تعرضها "لأقصى ضغط" من قِبل ترمب، تضغط إيران الآن بأقصى درجة ممكنة من خلال الهجمات بالوكالة على القواعد الأمريكية بالعراق والتقدم التدريجي ببرنامجها النووي
وهنا يقوم بايدن بمغامرة دبلوماسية كبيرة من خلال محاولة لم شمل الأطراف الداخلية والخارجية المؤثرة على أمل تشكيل حكومة مؤقتة وإنهاء الحرب.
قد يكون ذلك تصرفا ذكيا على المدى القصير، حيث يوفر غطاءً سياسياً ودبلوماسياً لاستمرار احتفاظ محتمل بالقوات الأمريكية في أفغانستان بعد الأول من مايو، ولكنه قد يتسبب في تعزيز الإحباط لدى طالبان، وهذا بدوره قد يؤدي إلى تصعيد الحرب الأفغانية بشكل كبير أثناء بذل الجهود لإقرار السلام.
تمّ توريث الفوضى لإدارة بايدن والتي يجب عليها البحث عن حلول مبتكرة لملفات الشرق الأوسط
وفي السعودية، يعتبر بايدن أنه يتعامل مع قيادة لديها توجهات تقدمية في داخل البلاد (لجهة تعزيز الإصلاحات) ممزوجة مع سياسة ترفضها واشنطن وتعتبرها عدوانية في الداخل والخارج - بدافع من نظرة ترمب الذي لم يرَ شيئاً ذا سوء تجاه ولي العهد - وعليه يسعى بايدن إلى تحقيق التوازن من خلال معاقبة مسؤولين سعوديين متورطين في قتل جمال خاشقجي من جهة، ووقف دعم العمليات الهجومية في اليمن، مع التأكيد على دعم أمن المملكة في نفس الوقت، وتجنب بايدن الوصول إلى نقطة صدام لا يمكن إصلاحه في العلاقة مع ولي العهد السعودي نفسه.
المأمول والواقع
تبدو سياسة بايدن معقولة. ولكن كل تلك القضايا تؤكد مدى صعوبة إعادة التوجه الاستراتيجي الذي يتصور الرئيس الأمريكي إمكانية تحقيقه.
وتؤكد سياسة المعاملة بالمثل مع إيران في العراق وسوريا أن هناك استمرارا للصدام والمنافسة على النفوذ الإقليمي، سيكون عنيفا أحياناً، ، بغض النظر عن مصير الاتفاق النووي.
وما لم تخرج الولايات المتحدة من جعبتها حلاً دبلوماسياً في أفغانستان، سيكون من الصعب التهرب من الخيار الأساسي الذي واجهته دائماً هناك والبقاء لأجل غير مسمى بتكلفة لن تكون بسيطة في الأرواح والموارد، أو المغادرة والتعرض لخطر مؤكد لزيادة التهديدات الإرهابية. وفي أسوأ السيناريوهات، تجد الولايات المتحدة نفسها من جديد في وضعٍ تحث فيه حكومة كابول على قبول تسوية من شأنها أن تؤدي، عاجلاً أم آجلاً إلى سيطرة طالبان.
وفي الوقت الذي تشجع الولايات المتحدة السعودية على اتباع مزيد من الحوكمة المسؤولة، يبقى نفوذها محدوداً في ظل رغبتها الواضحة في تقليص دورها في المنطقة في الوقت الذي أصبحت التهديدات تحيط بالأمن السعودي واضحة تماماً. علاوة على ذلك، فإن ترابط تلك القضايا ببعضها البعض يجعل الأمور أكثر فوضوية. على سبيل المثال، إذا لم يقم بايدن بالرد على تصاعد النفوذ الإقليمي الإيراني، من المحتمل أن يتزايد الشعور بعدم الأمان لدى محمد بن سلمان وينعكس ذلك على سياساته.
صفقات أم حلول؟
إن تجاهل كل تلك المشاكل يحمل المزيد من التعقيدات. فالشرق الأوسط لم يعد مجرد ساحة للإلهاء عن المنافسة بين القوى العظمى، لكنه أصبح ساحة تتواجد فيها تلك القوى بشكل متزايد في ظل تصاعد دور روسيا والصين في المنطقة، ما يجعل حسابات التراجع الأمريكي أكثر تعقيداً.
ولا يمثل التدخل إهانة لبايدن. حيث إن المشكلة الأساسية التي تواجهها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط هي أن التراجع النسبي في الأهمية العالمية للمنطقة لم يمح المصالح الاقتصادية والأمنية الإقليمية لواشنطن. كما أنه لم يغير حقيقة أن أزمة الاستقرار الإقليمي التي لا تنتهي تتطلب درجة عالية نسبياً من التدخل الأمريكي اليومي.
كل تلك الديناميكيات تجعل سعي الولايات المتحدة لإيجاد طرق لتأمين مصالحها بأقل استخدام ممكن لمواردها أمراً مناسباً. حيث التركيز على مواجهات خفيفة لمكافحة الإرهاب وصولا إلى صفقات - مثل الاتفاقية النووية الإيرانية أو تسوية الصراع في اليمن - تقلل من احتمالية تفجر الأزمات. ولكنها تجعل من الصعب ترتيب الشؤون الإقليمية بطريقة تسمح لواشنطن بإعادة توجه تركيزها بالكامل نحو القضايا الأخرى.
كانت هذه هي المعضلة المرتبطة باستراتيجية الإدارات الثلاث السابقة مع الشرق الأوسط. وبقدر ما يريد بايدن التوصل إلى استراتيجية أمريكية جديدة تجاه المنطقة، ستتمثل المعضلة أيضاً في الصعوبة البالغة في الهروب من المنطقة.