بلومبرغ
عج الفندق الأشهر في جنوب مصر بالنشاط مرة أخرى، حيث استضاف في مساء صيفي ملتهب العام الماضي شخصيات طموحة تتطلع إلى تشكيل العالم. فمنذ افتتاحه قبل أكثر من قرن، استقبل فندق "أولد كاتاراكت" في أسوان، الواقع على نتوء صخري على ضفة نهر النيل الشرقية، شخصيات بارزة من أمثال ونستون تشرشل وجيمي كارتر والقيصر نيكولاس الثاني. وكان مصدر إلهام لواحد من أشهر أعمال الكاتبة أغاثا كريستي في مجال الرواية البوليسية "ديث أون نايل" (Death on the Nile). وتتجاوز الإقامة في جناحها السابق 8000 دولار في الليلة حالياً.
"صفقات القرن!"
كان الضيوف أكثر حذراً. فقد وصل أكثر من 12 مسؤولاً رفيعي المستوى من الإمارات يرتدون الثياب البيضاء لتناول عشاء خاص، سبقتهم مفرزة أمنية حصّنت المطعم، وفق أربعة أشخاص كانوا هناك وطلبوا عدم الكشف عن هوياتهم ليتسنى لهم الحديث عن تجمع خاص.
وركَب القائمون على الفندق وحدات تكييف في الشرفة، حتى يتمكن رواد المطعم من الاستمتاع بمنظر النيل خلال الليل، وهم يتناولون اللحم المشوي ويحتسون الشاي. وغادروا بعد نحو ساعتين.
اقرأ أيضاً: "ADQ" و"أدنيك" تستحوذان على 40% من أعمال ضيافة "طلعت مصطفى"
بعد أشهر، وتحديداً في يناير، أصبح الغرض من الزيارة واضحاً. فقد اشترى صندوق الثروة السيادي في أبوظبي"القابضة" (ADQ) حصة 40.5% مقابل 882.5 مليون دولار في شركة مصرية، وهذه اشترت بدورها حصصاً حكومية في سبعة فنادق تُعد درر تاج قطاع الضيافة في مصر، منها "أولد كاتاراكت" في أسوان، و"وينتر بالاس" في الأقصر، و"مينا هاوس" في القاهرة، و"سيسيل" في الإسكندرية. وأصبحت الإمارات، بشكل غير مباشر، مالكة لجزء من التراث السياحي في مصر.
وفيما تخرج مصر من أسوأ أزماتها الاقتصادية منذ عقود، تعرض البلاد أصولها الثمينة للبيع، وتبدي القوى الصاعدة في منطقة الخليج استعداداً فورياً للشراء. وخلال الأشهر التسعة الماضية، رُصدت زيارات لشخصيات رفيعة المستوى من السعودية وقطر، وكذلك الإمارات، في أماكن متفرقة على نهر النيل وعلى سواحل البحرين الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. وبدعم من عائدات النفط والغاز الوفيرة، راحت الوفود تستكشف ما يمكن وصفه بصفقات القرن.
أكبر صفقة بتاريخ مصر
في 23 فبراير، أعلنت "القابضة" (ADQ) أيضاً عن استثمار حجمه 35 مليار دولار في مصر، يتضمن حقوق التنمية لمنطقة رأس الحكمة، وهي أرض ساحلية على البحر المتوسط تقارب مساحتها ثلاثة أضعاف مساحة مدينة مانهاتن.
وكانت هذه أكبر صفقة في تاريخ مصر، وبدأت القاهرة في استلام الأموال خلال أيام، ما ساهم في إنقاذ الاقتصاد، على الأرجح. كما أعطت الصفقة مصر قوة كافية لتخفيض قيمة عملتها، وهي خطوة طال انتظارها، وهي مؤلمة وتكتسي حساسية سياسية. لكن ينظر إليها على أنها عامل حاسم في استعادة ثقة المستثمرين وجذب المزيد من الأموال. وتبع ذلك قرض قيمته 8 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي وتمويل من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي.
اقرأ أيضاً: الإمارات تستثمر 35 مليار دولار لتطوير مدينة رأس الحكمة في مصر
تمثّلت الغاية الرئيسية للإمارات في المدى القصير في دعم اقتصاد دولة يُنظر إليها على أنها "أكبر من أن تفشل". وكانت المخاوف الأساسية تتعلق بعودة الاضطرابات الجماعية التي عصفت بالشرق الأوسط خلال فترة الاحتجاجات قبل أكثر من عقد، وإعادة تمكين الإسلام السياسي، مما يهدد الأنظمة المتماسكة، وفقاً لأشخاص شاركوا في القرار وطلبوا عدم الكشف عن هوياتهم ليتسنى لهم الحديث عن مناقشات خاصة وحساسة. وبهذا المعنى، كان المنطق مشابهاً لتعهدات إماراتية سابقة مثل تلك التي أعقبت الإطاحة بحكومة الإخوان المسلمين من قبل الرئيس عبد الفتاح السيسي حين كان قائداً للجيش عام 2013.
ويمثل اتفاق رأس الحكمة مستوى آخر تماماً من الضخامة. فالإمارات تضخ أموالاً تعادل 7% من ناتجها المحلي الإجمالي. ويقول زياد بهاء الدين، نائب رئيس الوزراء المصري السابق والرئيس السابق لهيئة الاستثمار المصرية، إن هذا الالتزام يظهر "موقفاً جديداً ينظر إلى العائد من مثل هذه التدخلات الاقتصادية، ويحاول التوصل إلى صيغة مربحة للجانبين".
الدعم بالاستثمار لا بالمنح
وعدت دول خليجية مصر بدعم مالي ضخم بعد مرور أسابيع قليلة على الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022 الذي دفع اقتصادها المثقل بالديون إلى أزمة كانت في طور التكوين منذ فترة طويلة.
ولتجنب الكارثة، أودعت دول خليجية مليارات الدولارات في البنك المركزي المصري. كما استحوذت "ADQ" على أسهم بملياري دولار في أكبر بنك مدرج بمصر وشركات أسمدة وخدمات لوجستية.
واستثمر صندوق الاستثمارات العامة السعودي 1.3 مليار دولار في بعض هذه الشركات. وظهر توفق خليجي جديد، وهو أن أيام العطايا والهبات والمنح قد ولّت. فالرياض وأبوظبي تريدان عائداً على الأموال التي يتم ضخها. وقد حوّل ذلك تركيز خطة مصر الأوسع، إلى التخلي عن مجموعة كبيرة من الأصول المملوكة للحكومة، وهي إرث من الدور الشامل الذي تلعبه الدولة منذ فترة طويلة في الحياة الاقتصادية.
اقرأ أيضاً: الاستثمارات الخليجية تنقذ مصر من براثن أزمة اقتصادية
وفي فبراير 2023، أدرجت السلطات أكثر من 30 شركة يمكن للمستثمرين المنافسة عليها لشراء حصص في قطاعات تشمل التمويل، والنفط، والعقارات، والموانئ. ولم تكن قائمة الشركات تلك نهائية بأي حال من الأحوال، إذ دأبت وسائل إعلام محلية على ذكر إضافات محتملة.
واعتباراً من مارس، كانت الإمارات الدولة العربية الوحيدة التي تعزز استثماراتها باستمرار. وكانت أكبر مساهم في اثنتين من أكبر ثلاث شركات مدرجة في مصر، "البنك التجاري الدولي" و"الشرقية للدخان". ولدى الإمارات علاقة وثيقة مع شركة ثالثة وهي "مجموعة طلعت مصطفى" للتطوير العقاري، التي ستساهم في تطوير رأس الحكمة، وتمتلك وحدتها للضيافة حالياً الحصص في الفنادق المذكورة سابقاً، مستعينة بالأموال التي حصلت عليها من "ADQ".
تنافس سعودي إماراتي
تتنافس السعودية والإمارات على ريادة الاستثمارات في المنطقة؛ ففي حين أدت مخاوف بشأن تقييم "المصرف المتحد" (United Bank)، ومقره في القاهرة، إلى انسحاب المملكة من محادثات الاستحواذ عليه العام الماضي. وتعود هذه المخاوف إلى حالة عدم اليقين إزاء مسار الجنيه المصري المتعثر. لكن بعد صفقة رأس الحكمة، عادت السعودية تنظر من جديد في خطتها الخاصة لتطوير منطقة ساحلية متميزة قرب منتجع شرم الشيخ في شبه جزيرة سيناء المصرية، حسبما ذكرت بلومبرغ في مارس.
اقرأ أيضاً: "عجلان" السعودية تعتزم استثمار 1.5 مليار دولار في "رأس جميلة" بمصر
ومن جانبه، أجرى صندوق الثروة السيادي القطري محادثات للاستحواذ على حصة الحكومة المصرية في شركة "فودافون مصر" للاتصالات المتنقلة، وهي أصل ثمين في أكبر الدول العربية من حيث عدد السكان، والذين يقارب عددهم 105 ملايين.
تعتبر السياحة هدفاً واضاً للاستثمار، نظراً للتراث الثقافي الهائل لمصر، وفقاً لمونيكا مالك كبيرة الاقتصاديين في "بنك أبوظبي التجاري". وأعلنت الحكومة المصرية خططاً لزيادة أعداد السياح إلى 30 مليوناً سنوياً بحلول نهاية العقد، مقارنة برقم قياسيي بلغ 14.9 مليون العام الماضي. وترى مالك أن الأصول السياحية في مصر "تحتاج حقاً إلى ضخ رأسمال ضخم لإعادتها إلى معايير السفر الراقية. ويمكن لدول الخليج أن توفر استثمارات ضخمة وقدرة مثبتة تنفيذ المشروعات".
الساحل الشمالي مصدر جذب استثماري
يتسم ساحل مصر الشمالي بالفخامة، وهو امتداد لشاطئ البحر الذهبي في غرب الإسكندرية باتجاه الحدود الليبية. وكانت المنطقة مفضلة منذ فترة طويلة للأثرياء المصريين الذين يقضون الصيف في فيلات أو شقق في مجمعات سكنية مسوّرة. وعلى الرغم من مياهها الزرقاء الفاتنة التي لا نظير لها منطقة البحر المتوسط، فإنها لم تستقطب سوى القليل من السياح الغربيين.
اقرأ أيضاً: محمد العبار لـ"الشرق": "إعمار مصر" تُطلق مشروعاً جديداً باستثمارات 3 مليارات دولار
لقد جذبت سلسلة من الأبراج السكنية المطلة على البحر أنظار المستثمرين الخليجيين. ومن بين المهتمين، محمد العبار، مؤسس شركة "إعمار العقارية"، وفق ثلاثة أشخاص مطلعين على الأمر طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم ليتسنى لهم مناقشة أمور خاصة. وقال أحدهم إن البيع المقترح لعدد قليل من الأبراج التي تملكها الحكومة يمكن أن يدر ما يصل إلى ملياري دولار لمصر. وعلى بعد نحو 160 كيلومتراً إلى الغرب، سيبدأ العمل في مشروع رأس الحكمة العملاق في 2025. ويتمثل الهدف من المشروع في إقامة مجتمع نشط على مدار العام مثل الجونة، وهي مدينة تقع على ساحل البحر الأحمر في مصر، والتي تشتهر بمهرجاناتها الثقافية وحياتها الليلية. ويشير إعلان "ADQ" في فبراير إلى استثمارات تبلغ 150 مليار دولار في المنطقة.
خصخصة شركات الجيش؟
وإلى جانب نهر النيل، فإن أحد الخيوط التي تربط جميع تلك المواقع المتنوعة في مصر هو شبكة من الطرق ومحطات وقود "وطنية" للبترول. وهذه العلامة التجارية أيضاً معروضة للبيع جزئياً، في ما يمكن أن يكون نقطة تحول، نظراً إلى أنها أول عملية خصخصة لشركة مملوكة للجيش المصري القوي. وفي مراحل مختلفة، أبدت كل من شركة "بترومين" (Petromin Corp) السعودية وشركة
"بترول أبوظبي الوطنية" (أدنوك) اهتماماً بشراء الشركة، ما من شأنه توسيع إمبراطوريات توزيع الوقود الخاصة بهما. وأشارت السلطات المصرية إلى أن حصصاً في شركات أخرى مملوكة للجيش قد تكون أيضاً متاحة للبيع، وهي خطوة من شأنها تلبية مطالب صندوق النقد والبنك الدوليين لتقليل ملكية الدولة للشركات. يعود معظم هذه السيطرة إلى سياسات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في فترة الستينيات، حيث أصبحت مصر تحت حكمه السلطوي رائدة في العالم العربي. لكن اليد العليا أصبحت لدول الخليج الآن، على الاقل مالياً.
اقرأ أيضاً: مصر تعرض ما يفوق 10% من "وطنية" و"صافي" على مستثمر استراتيجي
ومن الصعب تقدير رد الفعل الحقيقي الشعبي في مصر على بيع أصول الدولة التي يحكمها السيسي بقوة لا تتسامح كثيراً مع الاعتراضات
ويشكك محللون مثل ميريت مبروك، وهي زميلة بارزة في معهد الشرق الأوسط ومقره في واشنطن، في أن يؤثر الاستثمار الخليجي بدرجة كبيرة في عملية صنع القرار في القاهرة، بما في ذلك على قضايا رئيسية مثل الحربين في غزة والسودان.
ومؤخراً، كان الزوار الأجانب يدفعون ما يعادل 50 دولاراً لتناول كوب شاي إنجليزي في فندق "أولد كاتاراكت" الذي أصبح الآن تابعاً لـ"سوفيتيل". وهناك توجد صورة تعود لعام 1990 معلقة على الجدار وقد كتب عليها بخط اليد باللغة العربية رسالة من مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، يشكر فيها إدارة الفندق على الإقامة الممتعة. واليوم تمتلك الحكومة التي يديرها نجله الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، الرئيس الحالي للدولة، حصة فيه.