إن حجم التغيير الذي يمكن أن يفعله 35 مليار دولار مذهل بحق. ففي بداية هذا العام، كانت مصر -التي يبلغ عدد سكانها 105 ملايين نسمة ولديها موقع استراتيجي على مفترق طرق الثقافة والتجارة حول العالم- تبدو وكأنها تترنح على حافة الهاوية.
حينها، ارتفعت أسعار الفائدة في البلاد إلى 27.25% مقارنة بـ8.25% فقط قبل عامين. وتخارجت الأموال الساخنة -التي سدت العجز التجاري المستمر للدولة لفترة وجيزة- ما أدى إلى تراجع احتياطيات البنك المركزي من النقد الأجنبي.
لكن الأمور أصبحت أفضل بكثير فجأة بعدما تعزز التفاؤل والثقة بين المستثمرين بفضل صفقة بقيمة 35 مليار دولار، والتي ستشيد بموجبها الإمارات مشروع تطوير عقاري ضخم على ساحل البحر الأبيض المتوسط، كما أفادت "بلومبرغ نيوز" هذا الأسبوع.
وهذه الأموال منحت الجهات المانحة الأخرى الثقة للانضمام لموجة الدعم المالي المقدم لمصر في الأيام الأخيرة، حيث تعهد صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بتقديم مبلغ إجمالي قدره 14 مليار دولار للدولة، فيما سيقدم الاتحاد الأوروبي حوالي 8 مليارات دولار على شكل مساعدات وقروض ومنح.
السبب الجذري لمشكلات مصر
مع ذلك، كل هذه الأموال لن تعالج السبب الجذري للمشكلة. فمثل العديد من الاقتصادات الناشئة الكبرى الأخرى ذات العملات غير المستقرة، تعاني مصر من عجز خطير في الطاقة، ما يعيق قدرتها على النمو. وإذا لم تُعزز الدولة استثماراتها على مشاريع الطاقة المتجددة مثل جيرانها، فلن يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى تستنزف الأموال التي ضُخت مؤخراً في نظامها المصرفي.
أصبحت المنتجات البترولية أكبر فئة تستوردها مصر، متجاوزة الحبوب، حيث مثلت أكثر من 17% من الفاتورة الإجمالية للواردات خلال عام 2022. ورغم ارتفاع أسعار الغاز الذي تستخرجه الدولة من الحقول البحرية في البحر الأبيض المتوسط، إلا أن ذلك بالكاد كان كافياً لتحويلها إلى مُصدر صافٍ للمواد الهيدروكربونية. فمن بين 6.2 مليار قدم مكعب من الغاز أنتجتها الدولة العام الماضي، استهلكت 5.9 مليار قدم مكعب محلياً، وأكثر من نصفها خُصص لإنتاج الكهرباء التي تتلقى دعماً حكومياً كبيراً.
ومن المتوقع ارتفاع الاستهلاك المحلي للكهرباء نظراً للطلب المتزايد الناتج عن الزيادة السكانية ودرجات الحرارة المرتفعة في الصيف، رغم بوادر تراجع الإنتاج في حقل ظُهر الذي دعم طفرة إنتاج الغاز في مصر.
ارتفاع استهلاك الغاز في مصر
يهدد الاستهلاك المحلي المتزايد للغاز بالقضاء على قطاع التصدير الوحيد الذي تمكنت البلاد من الاعتماد عليه خلال الأعوام الأخيرة. فعلى الرغم من السباق العالمي لتأمين إمدادات الغاز الطبيعي المسال، بلغت الشحنات الصادرة من مصر 413906 أطنان مترية فقط خلال الربع الحالي، وفقاً لبيانات تتبع السفن التي جمعتها "بلومبرغ"، بانخفاض حوالي 93% مقارنة بمتوسط الربع خلال الأعوام الثلاثة السابقة.
وكانت حرب غزة سبباً رئيسياً في تفاقم الأزمات بشكل أكبر، حيث كانت مصر تعتمد على واردات خطوط الأنابيب القادمة من إسرائيل لإعادة تعبئة محطات تصدير الغاز وسط انخفاض الإنتاج المحلي، لكن الصراع أدى إلى تراجع هذه الواردات إلى الصفر.
يذكرنا هذا الوضع بمعاناة باكستان التي استمرت لعقود، فهي دولة أخرى فقيرة ومكتظة بالسكان، وسرعان ما استنزفت احتياطياتها المحلية الضئيلة من الغاز، التي أثبتت أيضاً أنها غير كافية لدعم التنمية الاقتصادية في البلاد.
ففي كل مرة كان الاقتصاد الباكستاني يبدأ في التحرك بشكل أسرع؛ كان الطلب على الكهرباء المستوردة يرتفع، وهذا يستنزف بدوره احتياطيات النقد الأجنبي ويثير أزمة في ميزان المدفوعات، مما يعيد البلاد إلى نقطة الصفر من جديد.
لكن الاستثمار في قطاع الطاقة النظيفة في مصر يمكن أن يحدث تغييراً كبيراً، من خلال توفير مصدر محلي دائم للكهرباء، إذ توفر الصحارى الشاسعة والسواحل الطويلة العاصفة إمكانات هائلة للطاقة الشمسية وطاقة الرياح التي لم تُستغل بعد بشكل كبير.
وهناك العديد من المشاريع التحويلية المقترحة لتغيير هذا الوضع، بدءاً من مزارع طاقة الرياح بقدرة 10 غيغاواط وكابلات الكهرباء تحت البحر التي تصل إلى اليونان وإيطاليا، ووصولاً إلى مشاريع الهيدروجين الأخضر المحتملة بقيمة 40 مليار دولار التي كُشف عنها النقاب في اجتماع أُجري خلال الشهر الماضي.
لكن المشكلة تكمن في التنفيذ، حيث جاء 11% فقط من الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة خلال 2022، وهذا أقل بكثير من هدف الحكومة البالغ 20%، فيما شكلت طاقة الرياح والطاقة الشمسية 4.5% فقط من الإجمالي. ومن بين 7 غيغاواط من طاقة الرياح التي وعدت الحكومة بربطها بحلول 2022، لم يكتمل سوى ما يقل عن 2 غيغاواط.
هل ستتحسن الأمور؟
لا تبدو الأمور على وشك التحسن، حيث ستأتي 15% فقط من مشاريع توليد الطاقة المخطط لها بين 2021 و2025 من طاقة الرياح والطاقة الشمسية، مقارنة بـ62% للمغرب، و39% لتونس، و36% للجزائر، وفقاً للوكالة الدولية للطاقة المتجددة.
وفي ظل فرض رسوم على مطوري الطاقة المتجددة بطريقة فوضوية، يبدو أنه من المستبعد أن تقترب البلاد من هدفها لعام 2030 المتمثل في حصة قدرها 42% من مصادر الطاقة المتجددة، ناهيك عن الهدف المحدث إلى 60%.
إن افتقار القاهرة إلى رؤية واضحة بشأن مصادر الطاقة المتجددة لا يضر بالمناخ فحسب، بل يؤثر سلباً أيضاً على الشعب المصري الذي يحتاج بشدة إلى الخروج من الأزمات الاقتصادية المتكررة. كما يجب تصدير أي كميات غاز متبقية في آبارها لتعزيز احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي، بدلاً من بيعه للمستهلكين المحليين بأسعار مدعومة، خاصة وسط توفر بدائل أرخص وأنظف.
عراقيل أمام استثمارات الطاقة المتجددة
بالتأكيد، سيكون من الحماقة الاستهانة بالحواجز التي تحول دون إجراء استثمار كبير في بلد تعاني من ضعف عملتها، واقتصاد تلعب المؤسسة العسكرية دوراً كبيراً فيه، وموقع مصر في وسط منطقة مزقتها الحرب.
مع ذلك، فإن جمع الأموال النقدية ليس المشكلة الرئيسية في هذه الحالة، فمبلغ الـ35 مليار دولار الذي قدمته الإمارات العربية المتحدة يعد التزاماً حقيقياً، كما هو الحال مع جزء كبير من الـ22 مليار دولار التي تعهد بها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي حتى الآن.
لكن المشكلة الحقيقية تكمن في المعوقات التي تواجه إنشاء محطة الضبعة النووية المقترحة، الواقعة بالقرب من مشروع التطوير العقاري للإمارات على ساحل البحر الأبيض المتوسط. حيث بدأ مشروع توليد الطاقة الذي تشيده روسيا بتكلفة 30 مليار دولار في يناير بإعلان مشترك عبر اجتماع افتراضي بين الرئيسين فلاديمير بوتين وعبد الفتاح السيسي، لكن بعد 40 عاماً من المقترحات الفاشلة، لا أحد يستطيع تخمين موعد انتهاء المشروع أو ما إذا كان سيكتمل بالفعل.
أحد المزايا الرئيسية للطاقة المتجددة أيضاً هي قدرتها على النمو عبر مشاريع إضافية تتطلب الملايين وليس المليارات من الاستثمارات الأولية. لكن مصر اعتادت على الإعلان عن مشاريع عملاقة وجريئة تنطوي على إمكانات وطنية مثل قناة السويس أو محطة الضبعة للطاقة النووية، أو عاصمتها الإدارية الجديدة خارج القاهرة، ومن ثم تهدر الفرصة وسط اللوائح التقييدية التي تؤدي إلى نتائج عكسية، فضلاً عن الفساد ونقص السيولة النقدية. ومن المفارقة أن ما قد تحتاجه مصر والعالم هذه المرة هو قليل من الطموح.