بلومبرغ
عادة ما يكون شهر رمضان المبارك وقتاً للصيام طوال النهار والوليمة في الليل بالنسبة لفادي سجدية، وهو عامل بناء من مدينة رام الله بالضفة الغربية. لكنه أصبح عاطلاً عن العمل الآن مثل 150 ألف فلسطيني آخرين، كانوا يعملون في إسرائيل حتى يوم الهجوم الذي شنته حماس على جنوب إسرائيل في أكتوبر.
قال سجدية، البالغ من العمر 37 عاماً: "أنا المعيل الوحيد لأسرتي.. نحن لا نشتري سوى الضروريات الآن".
توقفت مواقع البناء في جميع أنحاء إسرائيل عن العمل مع استمرار حظر دخول العمال الفلسطينيين وغياب أي نهاية محتملة في الأفق لذلك الحظر. حوّل ذلك الوضع قطاع البناء الرائد إلى مركز للأزمة الاقتصادية، مما يقدم لمحة عما ينتظر الجانبين إذا أدت الحرب في غزة إلى تمزيق علاقاتهما الهشة على نحو دائم.
يهدد الانفصال المؤلم بين الاقتصادين سُبل العيش في الأراضي الفلسطينية، ويترك شركات البناء الإسرائيلية تتدافع لاستقطاب عمالة من الخارج، وهو تحول في القوى العاملة تُظهر توقعات الصناعة أنه سيستغرق عاماً، على أفضل تقدير، حتى يكتمل. علماً بأن أكثر من ثلثي الفلسطينيين العاملين في إسرائيل قبل الحرب كانوا يعملون في قطاع البناء.
اقتصاد إسرائيل ينكمش 20% تقريباً بعد حرب غزة
بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر الذي أثار الحرب في غزة، فرضت السلطات الإسرائيلية إغلاقاً كاملاً للحدود مع الضفة الغربية بسبب مخاوف أمنية. ومنذ ذلك الحين، رفعت الحكومة نسبة العمال الأجانب المسموح لهم بدخول إسرائيل ثلاثة أضعاف لتصل إلى 65 ألف عامل، معظمهم من الهند وسريلانكا. لكن حتى الآن، لم يصل سوى 850 عاملاً.
معاناة واضحة
من هنا، تظهر المعاناة بوضوح على الجانبين، إذ تقدر وزارة المالية الإسرائيلية أن غياب العمال الفلسطينيين في قطاعات البناء والزراعة والصناعة يُكبد الإنتاج خسارة قدرها 3 مليارات شيكل (840 مليون دولار) شهرياً.
كانت الصدمات الاقتصادية الناجمة عن الحرب أشد ضرراً في الأراضي الفلسطينية، مع ظهور أزمة إنسانية في غزة. فالقتال لا يزال محتدماً هناك، كما تعهدت حكومة إسرائيل بمواصلة حملتها ضد حماس، التي صنفتها الولايات المتحدة منظمة إرهابية، من خلال إرسال قوات إلى مدينة رفح الجنوبية رغم المعارضة العالمية المتزايدة لهذه الخطة.
في الوقت نفسه، ارتفعت معدلات البطالة في الضفة الغربية، حيث يعمل 17 ألف فلسطيني في المستوطنات اليهودية، بأكثر من الضعف لتتجاوز 30%.
حرب غزة تزيد إنفاق إسرائيل الدفاعي 8 مليارات دولار في 2024
قبل الحرب، كان خُمس عمال الضفة الغربية يعملون في إسرائيل أو مستوطناتها، حيث كانوا يكسبون أكثر من ضعف متوسط الأجر المحلي، وفقاً للأمم المتحدة. وبلغ إجمالي دخلهم نحو 4 مليارات دولار سنوياً، أي ما يعادل ربع الناتج المحلي الإجمالي.
تصاعد التوترات
أثارت صدمة الهجوم الذي شنته حماس في أكتوبر، والذي أسفر عن مقتل 1200 شخص واختطاف 250 آخرين، شكوكاً بين بعض يهود إسرائيل بأن فلسطينيين آخرين ربما يستعدون لشن هجمات أخرى. كما أدت الهجمات الجوية والبرية الانتقامية لإسرائيل في غزة إلى مقتل أكثر من 31 ألف شخص، وفقاً لوزارة الصحة التي تديرها حماس.
كذلك، تصاعدت التوترات في الضفة الغربية التي تحكمها السلطة الفلسطينية، لكنها لا تزال تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي بشكل كبير. واعتقلت القوات الإسرائيلية مئات الفلسطينيين بعد ما وصفتها بـ"هجمات على مدنيين وجنود إسرائيليين"، فيما ارتفع مستوى عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين.
تصاعدت معدلات توظيف العمال الفلسطينيين من الضفة الغربية تدريجياً خلال العقدين الماضيين، ويرجع ذلك جزئياً إلى الطلب على العمال ذوي الأجور المنخفضة في إسرائيل التي أصبحت الآن واحدة من أغنى دول العالم. وحتى أكتوبر الماضي، كان هناك نحو 156 ألف فلسطيني يعملون في إسرائيل.
التصعيد مع "حماس" يختبر مرونة اقتصاد إسرائيل لأقصى حد
كانت الحدود مع إسرائيل مغلقة منذ 2005 أمام العمالة من غزة. ولم يُسمح سوى لعدد محدود من العمال، نحو 20 ألف عامل كحد أقصى، بدخول إسرائيل في الأعوام الأخيرة.
المسار المقبل
تتخطى مشاكل منع العمالة الفلسطينية من دخول إسرائيل حدود الاقتصاد بكثير. فربما يتعرض التعاون بين قوات الأمن الإسرائيلية والفلسطينية للخطر إذا لم يتم التوصل إلى حل.
ويدعو البعض في اليمين الإسرائيلي السلطات إلى اغتنام الفرصة وقطع العلاقات. وقال اتحاد العمال الوطني، وهو اتحاد عمالي صغير يضم 100 ألف عامل: "يجب على إسرائيل وقف توظيف الفلسطينيين وجلب عمال مهرة من دول أخرى".
هذه ليست وجهة نظر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، التي تحرص على الدفاع عن فكرة استمرارية توظيف الفلسطينيين حتى أثناء تصاعد التوترات بالرغم من ظروف الحرب الحالية.
توصي المؤسسة الأمنية الآن بعودة تدريجية وحذرة للفلسطينيين، وهو ما يعود، جزئياً، لتحقيق الاستقرار في الضفة الغربية. وحتى الآن، يبدو أن الحكومة اليمينية لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تحظى بدعم العامة بينما تمنع دخول العمال.
قبل 7 أكتوبر، كان الفلسطينيون يشكلون واحداً من كل ثلاثة عمال بناء في إسرائيل. فكانوا يهيمنون على المراحل الأولى من أعمال البناء، مما يعني أنه لا يمكن المضي قدماً بدونهم، لكن نحو 40% من مواقع البناء أغلقت الآن، واستؤنف العمل في الباقي بشكل جزئي فقط.
تضرر قطاعات أخرى في إسرائيل
يعد الوضع مشابهاً في قطاع البنية التحتية في إسرائيل، الذي لم يعد يستطيع الاعتماد على نحو 10 آلاف عامل فلسطيني كان يوظفهم قبل الحرب، بل تزداد الحاجة الملحة للعمال لأن مواقع متعددة تتطلب إصلاحات بعد قصفها بصواريخ من غزة وحزب الله في لبنان.
حرب غزة واضطرابات البحر الأحمر تضعف آفاق نمو الاقتصادات العربية
وعلى الرغم من أن قطاع البناء يمثل 6% إلى 7% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، فإنه يستحوذ على نصف الانخفاض شبه القياسي في معدل النمو خلال الربع الأخير من 2023.
وقال آدي بريندر، رئيس الأبحاث في البنك المركزي الإسرائيلي، إن "غياب العمال الفلسطينيين عن القطاعات الاقتصادية قد يكلف إسرائيل ما بين 1.5% و2% من ناتجها المحلي الإجمالي في العام المقبل أو ما بعد ذلك". وأوضح أن تراجع مشاريع البناء يأتي ضمن عدد قليل من العوامل التي قد تعيق الانتعاش الأوسع.
تداعيات غير مباشرة
شهد اقتصاد إسرائيل، الذي نما خلال العقدين الماضيين - حيث تجاوز نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي نظيره في المملكة المتحدة وفرنسا، بفضل قطاع التكنولوجيا الفائقة المزدهر - توسعاً سريعاً في الطرق والإسكان. والآن بعد أن أصبحت هذه الصناعات في حالة توقف تام تقريباً، فإن التداعيات غير المباشرة ستكون واسعة النطاق.
أبلغ أكثر من ثلثي المصانع المحلية التي تزود قطاع البناء، عن انخفاض يزيد عن 50% في المبيعات خلال يناير. وحذر رئيس جمعية المصنعين الإسرائيليين، رون تومر، من إغلاق المصانع وتسريح العمالة و"الاعتماد على الواردات من دول غير صديقة مثل تركيا والصين".
يشكل ارتفاع أسعار العقارات مصدر قلق آخر، وهذا يزيد بدوره الضغط على المستأجرين وأصحاب المنازل فيما تعد بالفعل واحدةً من أغلى أسواق العقارات في العالم.
"فيتش": توسع حرب غزة يزيد من التحديات الاقتصادية أمام مصر والأردن
يمكن أن تشكل العدوى الاقتصادية الناجمة عن معاناة قطاع البناء في النهاية خطراً على البنوك الكبرى. إذ شكل قطاعا البناء والعقارات 26% من القروض الإجمالية في أكبر خمسة بنوك في إسرائيل حتى سبتمبر 2023، وفقاً لوكالة "موديز إنفستورز سرفيسز".
اضطر أهارون جليلي، مالك شركة بناء عمرها 40 عاماً، إلى إغلاق موقع بناء يضم 100 وحدة سكنية، قائلاً: "ما زلت مضطراً لدفع فوائد ضخمة على القروض. قد أتمكن من النجاة، لكن البعض لا يستطيع التعامل مع هذا الوضع".
الندوب الاقتصادية
في الضفة الغربية، يتسبب الانفصال الاقتصادي في خسائر فادحة. فقد كانت المنطقة تخضع لإغلاق أمني منذ منتصف سبتمبر، وتزايدت الاضطرابات منذ بدء إسرائيل شن غارات جوية وحصار شبه كامل على غزة قبل خمسة أشهر.
انكمش الناتج المحلي الإجمالي السنوي الفلسطيني بنسبة 33% في الربع الأخير من 2023. ويقال إن ثُلث الشركات تواجه إغلاقاً كلياً أو جزئياً.
إسرائيل تبقي الفائدة بلا تغيير مع تزايد القلق من التضخم جراء اقتصاد الحرب
تتفاقم الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية، التي رفضت قبول الإيرادات الضريبية التي تجمعها إسرائيل نيابة عنها لأن السلطات الإسرائيلية تقتطع الأموال المخصصة لغزة، التي لا تزال تديرها حماس نظرياً. ونتيجة لذلك، يمكن للسلطة دفع 60% فقط من أجور موظفيها، وفقاً لتصريحات أدلى بها وزير الاقتصاد الفلسطيني خالد العسيلي لـ"بلومبرغ".
لا شك أن الشركات الإسرائيلية والأسر الفلسطينية ستكافح للتكيف مع الوضع إذا انزلقت الضفة الغربية في عزلة أعمق.
حتى الآن، ليس هناك دليل على عودة كبيرة للعمال إلى إسرائيل. وكما يعتقد إيلي كوهين، الرئيس التنفيذي لشركة "تيرموكير" (Termokir)، وهو مصنع يمد قطاع البناء بالمستلزمات، أن التغيير الحالي ربما حدث لكي يستمر.
وأضاف أن "هذه نقطة فاصلة حقيقية. فالأمور لن تعود إلى ما كانت عليه قريباً، وحتى إذا رُفعت بعض القيود، فالأمر سيكون محدوداً للغاية".