عادت اليابان وذهبت الصين. هذه العبارة كانت ستواجه رفضاً تاماً ودون تردد قبل أعوام قليلة فقط. فقد كانت الصين في سبيلها إلى فرض هيمنتها الاقتصادية بينما تترنح اليابان وتعاني من لعنة انكماش عدد السكان، وقد فشلت برامج التحفيز التي لا تنتهي في تحقيق أي نتائج ملموسة تُذكر.
تستعد هذه السردية لتصحيح طال انتظاره بعد أن ظهر البديل أخيراً، ولكن من سوء الحظ أن هذا البديل به بعض العيوب التي شابت الوضع القديم.
إن في مشاعر الود والحماس المعاصرة إزاء اليابان ما يستحق الاعتبار. فالأجور تتجه بقوة نحو الارتفاع، ومؤشر "نيكاي 225" للأسهم تجاوز مؤخراً تلك الذروة التي سجلها في أواخر الثمانينيات، عندما ساد الاعتقاد بأن لدى اليابان نوعاً من الخلطة السحرية يدفع أسهمها إلى الصعود، كما يستعد البنك المركزي لإنهاء آخر تجربة في العالم لأسعار الفائدة السالبة. بل إن المشكلة الديمغرافية الصعبة نفسها تبدو معقولة في خطرها مقارنة بسنغافورة وكوريا الجنوبية والصين. ومثل أي تجاوز كلاسيكي لحدود المعقول في السوق، لا يرغب أي عددٍ يذكر من الناس في ذكر مساوئ اليابان التي أصبحت رائعة من جديد.
تحديات اليابان وسقوط الصين
بلغت الرغبة في الأخبار الجيدة مستوى يقترب من الحماقة لدرجة وصف مسؤولي بنك اليابان بالتشدد لمجرد أنهم يرغبون في رفع تكاليف الاقتراض من أقل قليلاً من الصفر إلى نحو صفر. هذه الخطوة التي قد يقرها البنك قريباً في الأسبوع المقبل لها طابع رمزي قوي. كذلك فإنها بمنأى عن دورة رفع أسعار الفائدة التي شرع فيها بنك الاحتياطي الفيدرالي أو البنك المركزي الأوروبي. صحيح أن اليابان تغلبت على مشكلة الانكماش ويحوم معدل التضخم حالياً حول مستهدفه عند 2%. غير أن ذلك المستوى ضعيف إذا قورن بمعدل زيادة الأسعار في الولايات المتحدة، الذي تجاوز 9% في مرحلة معينة في عام 2022. وهو الموضوع الذي لم ينل حقه من وسائل الإعلام. إذ إن التحديات التي تواجه اليابان لم تنته، كما أن مستقبل البلاد لم يتدمر تماماً أثناء الفترة التي يُطلق عليها العقود الضائعة.
تتراكم الأزمات الاقتصادية في الصين منذ فترة، حيث كانت البلاد تعاني من تباطؤ اقتصادي طويل الأجل حتى قبل أن تؤدي جهودها للسيطرة على جائحة كوفيد إلى تدهور نادر الحدوث في إجمالي الناتج المحلي خلال الأشهر الأولى من عام 2020. غير أن السوق وقعت في غرام الصين التي تتميز بسمات فريدة وحققت ارتفاعاً تاريخياً في مستوى المعيشة لسكانها. وقد استغرقت هذه الرؤية وقتاً حتى تتغير. وعندما سقطت فكرة الصين التي لا تُقهر في العام الماضي، كان ذلك سقوطاً مدوياً.
الحديث العابر والرواية الصاخبة
ومن البيانات الإحصائية الأخيرة عن ألمانيا واليابان ما يكشف عن الحالة المعنوية السائدة. فعندما أعلنت طوكيو لأول مرة عن بيانات الناتج المحلي الإجمالي عن الربع الرابع من عام 2023، لم تكشف الأرقام عن دخول اليابان في ركود اقتصادي فحسب، وهو ما روجع بالنفي فيما بعد، وإنما كذلك كشفت عن أنها فقدت مركزها الثالث بين أكبر اقتصادات العالم لصالح ألمانيا. وفي كثير من التقارير الإخبارية لم يُذكر ذلك إلا بصورة فاترة وعابرة، ربما لأن أحداً لا يعجبه الشكل الحالي للقوة التجارية لأوروبا، وقد عانت ألمانيا ركوداً كبيراً في معدل النمو في الآونة الأخيرة.
قارن ذلك مع الضجة التي صاحبت تقدم الصين حتى تجاوزت اليابان في عام 2010 لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة. إذ اعتُبر هذا التحول تتويجاً لجهود جبارة تدفع الصين إلى الأمام بلا هوادة. وبالتأكيد، كان فقدان هذه المكانة مسألة وقت لا أكثر. ومع ذلك، كانت المشكلات تختمر تحت السطح. وفي تقرير إخباري لـ"بلومبرغ" حول خفوت نجم اليابان، حذّر الأستاذ بجامعة هارفارد كينيث روغوف، فيما يشبه النبوءة، من أزمة عقارية في الصين، التي يطاردها الانكماش.
مزاج المبالغة وتأثير الرواية
هل يبالغ المزاج الحالي في أوجه القصور في الصين ,ويفسح مجالاً مناسباً لما تجيد فعله؟ فمعدل النمو لم يزل مرجحاً أن يتجاوز مستوى 4% هذا العام، والصادرات ترتفع بوتيرة جيدة، والبلاد في طريقها لأن تصبح قوة في مجال التكنولوجيا النظيفة. ولكن هذا هو الجانب الجميل –والجانب السلبي– في السرديات. فهي تميل إلى المبالغة في تبسيط الأمور المعقدة، وتقلل من الفوارق الدقيقة إلى الحدود الدنيا، ويمكن أن تتجاوز فائدتها.
في كتابه "علم الاقتصاد السردي: كيف تنتشر الروايات وتؤدي إلى أحداث اقتصادية كبرى" (Narrative Economics: How Stories Go Viral and Drive Major Economic Events)، قال روبرت شيلر، الحائز على جائزة نوبل، إن بعض التحليلات الاقتصادية القوية تظهر "بشكل غامض وبدون سبب واضح". وأضاف أن من بينها فكرة أن أسعار الفائدة شديدة الانخفاض في الغرب بعد انهيار مصرف "ليمان براذرز هولدينغز" تنذر بأزمة ممتدة على غرار ما حدث في اليابان في التسعينيات.
كتب شيلر: "إن قصة (العقود الضائعة) في اليابان هي مجرد مثال وحيد، وملاحظة واحدة فقط، وبالتبعية، ليست لها أهمية إحصائية، لكنها انتشرت انتشاراً سريعاً على المستوى العالمي إلى درجة تكفي لإحياء سردية الكساد الكبير، وأثارت مخاوف جدية من حدوث (ركود عميق وطويل المدى)".
في مديح الشك
يمكن للأفكار أن تأتي وتذهب وتعود مرة أخرى. قد ينحسر الهوس باليابان إذا كانت النقطة المضيئة الحالية إشارة مضللة أخرى في حقيقتها. وربما كانت الصين تعاني من بدء الدورات الاقتصادية التي تؤثر في كل الاقتصادات الكبرى. فصناع السياسة في بكين ليسوا أول من يواجه انخفاضاً شديداً في معدل التضخم أو تبعات أزمة في قطاع الإسكان، ولن يكونوا آخر من يواجه ذلك. هل تتذكرون التصريحات المليئة بالثقة في مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بأن أيام هيمنة الدولار أصبحت معدودة؟ والآن ما تزال العملة الخضراء متربعة على عرشها في ارتياح.
لذا، دعونا نمتدح الشك، إذ يجري الآن تقديم الهند على نطاق واسع على أنها نقطة النشاط والحيوية الجديدة، وبديلة للصين باعتبارها القوة الاقتصادية القادمة. فما المشكلة التي قد تتعرض لها هذه الرواية؟ كررها عدداً كافياً من المرات وقد تتحقق. إلى أن تظهر الرواية التالية.