يريد فلاديمير بوتين أن يدفع العالم إلى التصديق أن وضع الاقتصاد الروسي على ما يرام، وأن لديه موارد مالية كافية لمواصلة الحرب في أوكرانيا إلى ما لا نهاية. إلا أنه مخادع، فالغزو يكلفه ثمناً باهظاً، وعلى الغرب استغلال نقطة الضعف هذه لأقصى درجة ممكنة.
قبل غزو أوكرانيا منذ عامين، وتحديداً في 24 فبراير 2022، عكف بوتين جاهداً على بناء تحصينات نقدية ومالية لروسيا، والتي تُعد عنصراً جوهرياً في إحكام قبضته على السلطة. فكان الدين السيادي الذي مثّل 16% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، من ضمن المعدلات الأقل في العالم. وخلال العام الثاني من الجائحة، حققت الحكومة فائضاً في الموازنة، على النقيض من العجز الهائل والمستمر في الولايات المتحدة وأوروبا. كما جمعت 175 مليار دولار في صندوق الرعاية الوطنية، واحتياطيات أجنبية بأكثر من 500 مليار دولار في بنكها المركزي. وكان لدى البنوك الكبرى في روسيا رأس مال كافٍ مقارنة بنظرائها عالمياً.
في الفترة الحالية، اتخذ بوتين مساراً مغايراً تماماً، من أجل تمويل الحرب ودعم الاقتصاد في نفس الوقت، خصوصاً بعد العقوبات الغربية. فارتفعت نسبة الإنفاق العسكري إلى الناتج المحلي الإجمالي من 3.6% في 2021 إلى ما يُقدر بنحو 7.1%، ما رفع إنتاج كل الأجهزة والمعدات من قذائف المدفعية إلى الحواسيب. وتحسنت أوضاع أشد العائلات فقراً بفضل رواتب الجنود وتعويضات الوفاة. ومكنت قروض مدعّمة بقيمة 130 مليار دولار، المواطنين الروس من الإنفاق ببذخ على الشقق الجديدة، ما أدى إلى طفرة في البناء والتشييد. ونتيجة لذلك، عاود الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي الارتفاع إلى 3.6% في العام الماضي، متحدّياً التوقعات بحدوث ركود ممتد.
تبدّل الأوضاع
مع ذلك، اتضحت حدود هذه "الكينزية العسكرية" (Military Keynesianism)، فاستهلاك الحرب للعمال اللائقين صحياً سبّب تراجعاً كبيراً في معدل البطالة، لينخفض إلى أدنى مستوياته عند 2.9%، ما يجبر الصناعات المدنية على زيادة أجور القوة العاملة النادرة. كما اضطر بنك روسيا المركزي إلى رفع سعر الفائدة الأساسي إلى 16%، للسيطرة على التضخم، ما يفاقم الضغوط على القطاع الخاص.
اقرأ أيضاً: الولايات المتحدة تخطط لفرض أكبر حزمة عقوبات على روسيا
لن يواصل الإنفاق العسكري دفع الناتج المحلي الإجمالي إلى النمو، فمجرد استمراره عند المستوى الحالي سيتطلب تقديم تضحيات كبرى في مجالات مهمة أخرى، مثل الإنفاق الاجتماعي، وصيانة البنية التحتية التي اشتدت الحاجة إليها. ومن دون التحفيز المرتبط بالحرب، لكان أداء الاقتصاد الروسي أقل إبهاراً على نحو كبير.
الضرر الأكبر على بوتين، أنه يهدم بسرعة الدفاعات التي بناها لتحصين الاقتصاد وحماية نفسه من الصدمات غير المتوقعة. فمعظم احتياطيات بنك روسيا المركزي مُجمدة في الغرب، وانخفضت الأصول السائلة لصندوق الرعاية الوطنية بمقدار النصف تقريباً منذ اندلاع الحرب، لتقارب 55 مليار دولار، وتسجل الحكومة عجز موازنة سنوياً بنحو 17 ملياراً، ولن تحقق قدرتها على الاقتراض إلا منفعة ضئيلة، ما دامت البنوك المحلية وحدها تمثل جهات الإقراض المتاحة، وهي نفس البنوك التي يتزايد تعرضها لخطر الخسائر، حيث أضرت أسعار الفائدة بالغة الارتفاع بالشركات المقترضة.
استغلال نقطة الضعف
يواجه الغرب تحدياته المالية الخاصة بالطبع. حيث يتعين على الحكومات في الولايات المتحدة وأوروبا، على حد سواء، السيطرة على عجز الموازنة ومشكلة زيادة الديون السيادية. سيتطلب ذلك قرارات صعبة، لكن الإنفاق المؤقت اللازم لدعم أوكرانيا أبعد بكثير عن أن يكون له تأثير كبير على ميزانياتها. فالموارد المالية العامة لأعضاء حلف شمال الأطلسي (ناتو) مجتمعين أكبر من مثيلتها في روسيا بما يزيد عن 20 مرة، ونسبة الإنفاق العسكري لأعضاء الاتحاد الأوروبي تقارب 2% من الناتج المحلي الإجمالي.
اقرأ أيضاً: بوتين يخصص وحدة للبحث عن أملاك الإمبراطورية الروسية في الخارج
ستنتهي الحرب بالمفاوضات على الأغلب. ويجب أن يكون هدف الغرب هو ضمان وجود دولة أوكرانية آمنة ومستقلة بأقصى درجة ممكنة، وردع الدول الأخرى عن الاستيلاء على الأراضي بشكل مشابه. ولتحقيق تلك الغاية، يجب على الدول الغربية استغلال نقطة الضعف الاقتصادية لبوتين لتحقيق الاستفادة القصوى، بما يشمل تشديد العقوبات وإمداد أوكرانيا بالأسلحة. ومع أخذ الإرادة السياسية في الحسبان، فالدول الغربية لديها موارد وافرة تمكّنها من الصمود أكثر من بوتين، وهي ميزة يجب استغلالها لوقف إراقة الدماء في أقرب وقت ممكن.