بلومبرغ
داخل مكتب بسيط بالطابق الثاني من المركز المالي النشط في دبي، تزداد مهام المصرفيين في بنك "مويلس آند كو" (Moelis & Co) يوماً إثر يوم، لدرجة أنه اضطر إلى إزالة بعض الجدران لإفساح المجال لمزيد من المكاتب، تماشياً مع مساعيه الطموحة للتوسع.
رغم بساطة المكان، إلا أن الرفوف مغطاة بشواهد تذكارية لصفقات وطروحات أولية تولاها البنك لصالح شركات شرق أوسطية على غرار عملاقة النفط السعودية "أرامكو" وشركة بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك).
ويهمس منافسو "مويلس" بأن البنك حوّل عملياته في الشرق الأوسط إلى أهم النماذج من حيث معدل العائد لكل موظف، وهو إنجاز ليس سهلاً في منطقة تُعتبر فيها تعرفة الخدمات المالية غير مرتفعة.
ما سبق يعكس فورة الصفقات التي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط، في وقت يعاني مصرفيون في أماكن أخرى من ندرة الأعمال. حيث جمعت الطروحات العامة الأولية في منطقة الخليج أكثر من 30 مليار دولار في العامين الماضيين. وعمل "مويلس"، وهو بنك صغير وفقاً لمعايير "وول ستريت"، على أكثر من نصف الطروحات الأولية لتلك الشركات.
علاقات قوية
من وجهة نظر مصرفية، تعتبر هذه الصفقات ثمرة سنوات من جهود بناء العلاقات التي بذلها المؤسس كين مويلس، لكنها تضمنت أيضاً تنازلات كبيرة ومخاطر. فقد اختار الخبير المصرفي الأميركي المخضرم الحفاظ على علاقته مع الحكومة السعودية، بعد حادثة مقتل الناقد جمال خاشقجي عام 2018. كما حافظ على حضوره في دبي حتى خلال فترات الركود. ومؤخراً، جاءت الحرب بين إسرائيل وحماس بمثابة تذكير بالتحديات التي تواجهها المنطقة المعرضة للاضطرابات السياسية ولدورات الازدهار والركود المتكررة.
اقرأ أيضاً: غياب الاكتتابات الكبرى يهبط بقيمة طروحات الشرق الأوسط 51% في 2023
يرى جورج تروب، مؤسس شركة "لومينا كابيتال أدفايزرز"، وهي شركة تقدم خدمات استشارية للشركات المتوسطة ومقرها دبي، أن "البنوك الصغيرة مثل (مويلس) يمكن أن تكون أكثر مرونة في التنقل بين الأسواق المختلفة، واستغلال الفرص عند ظهورها". لكنه اعتبر أن التحسب لمخاطر الاضطرابات في الشرق الأوسط يمكن أن يكون صعباً بشكل خاص، نظراً لإمكانية حدوث أمور غير متوقعة.
منافسون كبار
ينظر المؤسس كين مويلس إلى الشرق الأوسط كمنطقة بالغة الأهمية للأعمال التجارية الأوسع نطاقاً للبنك، الذي يقع مقره في نيويورك، وسيواصل التركيز عليها، وفقاً لأشخاص مطلعين على الأمر، خصوصاً بعدما تغلب عليه كبار المنافسين بقوة في مناطق أخرى. ففي أوروبا، احتل البنك المرتبة الثانية والعشرين في استشارات الاندماج والاستحواذ العام الماضي، بينما تراجع هذا التصنيف إلى المرتبة 35 في آسيا والمحيط الهادئ. وإجمالاً، يحقق البنك أقل من مليار دولار من الإيرادات السنوية عالمياً، بفضل نشاطه في الولايات المتحدة، بشكل رئيسي.
اقرأ أيضاً: مكاسب مستمرة لمستثمري الاكتتابات الخليجية بفضل صعود الأسهم
وعلى الرغم من أن الاكتتابات العامة الأولية تراجعت عالمياً إلى أدنى مستوى لها منذ أكثر من عقد في العام الماضي، إلا أن الشرق الأوسط شهد أحد أفضل أعوامه على الإطلاق، مع تسابق الحكومات لجعل اقتصاداتها أقل اعتماداً على النفط، وبيعها حصصاً في شركات مملوكة للدولة. واستمرت الصفقات رغم الحرب بين إسرائيل وحماس، ولم تتأثر دول الخليج الغنية إلا بشكل طفيف.
كين مويلس (65 عاماً) حافظ على أعماله في الشرق الأوسط في السراء والضراء. في 2009، سافر لتقديم عرض لإعادة هيكلة شركة "دبي العالمية" المملوكة للدولة، بقيمة 25 مليار دولار، فيما كانت تتأرجح على حافة التخلف عن سداد الديون. وانتهى الأمر بشركته إلى تقديم المشورة للحكومة بشأن خطة إعادة هيكلة معقدة شملت أكثر من 70 دائناً.
عزز هذا الاتفاق سمعته لدى بعض كبار المسؤولين في دولة الإمارات، وأسس لمزيد من المعاملات. لكنه بنى أيضاً علاقات كان يصعُب على البنوك الكبرى القيام بها بسبب مكانتها العالمية.
كسب الثقة
في أكتوبر 2018، برز كين مويلس ونائب رئيس الشركة إريك كانتور، كاثنين من القلائل بين كبار الممولين الأميركيين الذين حضروا مؤتمر الاستثمار السعودي البارز في الرياض، بعد أسابيع قليلة من حادثة مقتل خاشقجي على يد عناصر سعوديين في قنصلية المملكة في إسطنبول بتركيا. نفى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الضلوع فيها؛ لكن العديد من رجال الأعمال والمستثمرين تجنبوا البلاد بعد الواقعة.
انسحب معظم أقران مويلس في "وول ستريت"، بما في ذلك الرئيس التنفيذي لـ"جيه بي مورغان"، جيمي ديمون ورئيس شركة "بلاك روك" لاري فينك، من المشاركة في المؤتمر بعد الجدل. وقال الأشخاص إن مويلس اكتسب ثقة كبار صناع القرار في المملكة، في منطقة معروفة بمكافأة الولاء.
ويرى توم دي ويلي، الشريك الإداري لشركة "باين آند كو" في الشرق الأوسط، أن الشركة "بنت علاقات قوية مع صناع القرار في المنطقة، وشاركت في بعض الصفقات التاريخية التي أكسبتها مكانةً جيدة". و"بمجرد إنشاء مسار صحيح ومستوى ثقة مع صناع القرار الرئيسيين، فإن الأثر الإيجابي يبدأ في الظهور".
التزام الإدارة العليا
يُعد البنك الآن واحداً من أكبر المصارف الاستثمارية العالمية العاملة في الشرق الأوسط، حيث يفوق عدد المستشارين لديه بمقدار الضعف مقارنة ببعض المنافسين الأكبر في "وول ستريت". وإلى جانب ترتيب الاكتتابات العامة الأولية، ينشط البنك أيضاً في عمليات الاندماج والاستحواذ الإقليمية، وتقديم المشورة للشركات التي تجري مراجعات استراتيجية. وتُعد عمليات إعادة الهيكلة من الأنشطة الرئيسية الأخرى التي يقدمها في المنطقة.
ورغم حضوره الكبير، إلا أن البنك لديه أربعة مديرين إداريين فقط في المنطقة، ويعتمد بشكل كبير على طاقم أقل سناً من المديرين التنفيذيين، ونواب الرئيس، والشركاء. ويرأس مكتبه في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا رامي توما، وهو مصرفي سابق في بنك "كريدي سويس"، وهو أيضاً أحد عشاق "هارلي ديفيدسون".
اقرأ أيضاً: بعد ازدهار الطروحات الأولية الخليجية.. متى تنتعش الاكتتابات الثانوية؟
ويعزو أشخاص مطلعون نجاح "مويلس" في الخليج جزئياً إلى التزام الإدارة العليا في الولايات المتحدة؛ حيث يسافر مؤسسها ونائبه كانتور، وهو سياسي أميركي سابق تحول إلى مصرفي، إلى الشرق الأوسط ثلاث إلى أربع مرات سنوياً لعرض أفكارهم. ووجودهم المنتظم يجذب العملاء في منطقة يتم فيها اتخاذ القرارات عادةً من قبل عدد قليل من المسؤولين وبعض كبار المستشارين.
إيرادات منخفضة أحياناً
مع ذلك، قد تكون الرسوم التي تتقاضاها البنوك الاستثمارية في المنطقة في بعض الأحيان أقل من المتوقع. وكان "مويلس" من بين البنوك التي رتبت الاكتتاب العام الأولي لشركة "أرامكو" بقيمة 29 مليار دولار في 2019. وتوقع المحللون حينذاك أن يتمكن "مويلس" من جني "عشرات الملايين من الدولارات" عبر رسوم إدارة الاكتتاب، ولكن في النهاية تقاسمت البنوك رسوماً يزيد إجماليها قليلاً عن 100 مليون دولار. وهو مبلغ صغير بشكل غير عادي بالنسبة لحجم الصفقة.
اقرأ أيضاً: حدة المنافسة واضطرابات البحر الأحمر تثير مخاوف شركات دبي
لم يعلق "مويلس" على هذه القصة، ولم يكشف عن حجم الإيرادات من الشرق الأوسط، والتي تتضاءل أمام تلك القادمة من أوروبا والأميركتين.
في معرض حديثه في مؤتمر عام 2018 في الرياض، وصف كين مويلس العلاقات بأنها الأصول الأكثر قيمة للشركة، حتى لو لم تكن هناك طريقة لحسابها في الميزانية العمومية.
أفضل من مصرفيين آخرين
كان ولاء مويلس موضع ثناء من قبل مسؤولين خليجيين. ففي المنتدى الاقتصادي القطري في مايو الماضي، رحب به وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان، باعتباره "صديقاً مقرباً". وأشاد به كونه أفضل بكثير من مصرفيين آخرين يقدمون المشورة للمملكة بشأن الطرح العام لأسهم "أرامكو".
في المؤتمر نفسه، أشاد المصرفي الأميركي المخضرم بقدرة الشرق الأوسط على "اتخاذ القرارات، والعمل بسرعة، وتجاوز الروتين، وأخيراً التفكير على المدى الطويل". وقال: "إنها واحدة من المناطق القليلة في العالم التي تقوم بالفعل باستثمارات على مدى السنوات الخمس إلى العشر القادمة".
الاكتتابات العامة الأولية التي قادها "مويلس" مؤخراً
هيئة كهرباء ومياه دبي | 6.1 مليار دولار |
أدنوك للغاز | 2.5 مليار دولار |
سالك | مليار دولار |
أدنوك للإمداد والخدمات | 769 مليون دولار |
الإمارات لأنظمة التبريد المركزي "إمباور" | 724 مليون دولار |
"إنفست كورب كابيتال" | 451 مليون دولار |
الرهانات الإقليمية
مع ذلك، فإن ميزة "مويلس" في الشرق الأوسط تتآكل مع تزايد عدد المنافسين الذين يستهدفون عدد الصفقات المتزايد وأكثر من تريليوني دولار لدى صناديق الثروة السيادية. وشاركت شركة "روتشيلد آند كو" في صفقات بارزة لسنوات، وتنافس "مويلس" من حيث الحجم والوصول إلى العملاء الرئيسيين.
قامت الشركة المصرفية بنقل أحد كبار المصرفيين في أسواق رأس المال من هونغ كونغ إلى دبي أواخر 2022، للحصول على شريحة أكبر من طفرة الاكتتابات العامة. وتخطط "روتشيلد" أيضاً لتكثيف عملياتها في السعودية من خلال توظيف أو نقل المصرفيين أثناء إنشاء مكاتب جديدة بالمركز المالي في الرياض.
اقرأ أيضاً: "روتشيلد" أحدث القادمين إلى الرياض للاستفادة من نمو فرص الأعمال
كذلك يعمل المتخصصون الاستشاريون من شركتي "لازارد" و"جيفريز" على دعم فرقهم العاملة في المنطقة.
وترى كارين يونغ، الباحثة البارزة في مركز جامعة كولومبيا، أن سوق الاكتتابات العامة الأولية في الخليج معزولة نسبياً عن المخاطر الجيوسياسية الإقليمية، وأن مجالات مثل التكنولوجيا والخدمات المحلية تشكل "نقطة جذب للشركات الناشئة الجديدة التي تحتاج إلى المال".
مواكبة الطموحات الكبرى
منذ افتتاح مقره في مركز دبي المالي العالمي عام 2011، وتوظيف المخضرم يوريك فان سلينغلاندت قادماً من بنك "جيه بي مورغان"، نمت أعمال "مويلس" الإقليمية من مكتب يضم 8 أشخاص إلى فريق عمل قوامه نحو 45 شخصاً.
لكن لم تؤت كل رهانات "مويلس" في المنطقة ثمارها، حيث انخرط البنك في عدد من الصفقات التي شملت شركات استحواذ ذات أغراض خاصة، لكن معظمها لم ينفذ.
اقرأ أيضاً: نسب إشغال مركز دبي المالي المرتفعة تسرّع إطلاق عملية التوسعة
توعلى الرغم من أن المنافسين يعترفون على مضض بنجاح "مويلس" في المنطقة، إلا أنهم يقولون أيضاً إنه كان يعمل في بعض الأحيان مثل شركة استشارية، أكثر من كونه بنكاً استثمارياً، وذلك للفوز بمزيد من الأعمال المربحة في صفقات كبيرة. كما أنه يفرض رسوماً متجددة على خدمته للاستشارات الاستراتيجية، وهو نموذج فريد في الشرق الأوسط، حيث يحيط الحكام أصحاب الطموحات الكبرى أنفسهم بالمستشارين.
في العام الماضي، عيّن "مويلس" معاذ العنقري لإدارة مكتبه في الرياض بعد حصوله على ترخيص للعمل في المملكة، مما أعطى البنك موقعاً قريباً من الخطط الطموحة لولي العهد.
قال تروب من "لومينا": تكمن المخاطر التي تواجه مؤسسات مثل (مويلس) في تركيزها المضاعف على السعودية والمنطقة كواحدة من أبرز أسواق نموها، بفضل الإمكانيات الواعدة المتوقعة.. ويبقى السؤال المثير للفضول هو مدى استمرارية صلاحية هذه الفرضية الاستثمارية وكيف ستُدار الأولويات في توزيع الموارد الأساسية عند تحسن وتيرة الصفقات في عام 2024 عبر أوروبا والولايات المتحدة.