بلغت ديون الحكومة الفيدرالية الأميركية مستوى قياسياً مع نهاية 2023 مسجلة 34 تريليون دولار. وتسود المخاوف بين الحزبين الكبيرين في الدولة، حيث سمع كل من الجمهوريين والديمقراطيين انتقادات حول الاقتراض الخارج عن السيطرة من ناخبيهم.
عملياً، يقول 6 من كل 10 أميركيين تقريباً إن تخفيض الدين ينبغي أن تكون له الأولوية القصوى، بحسب استطلاع رأي لمركز "بيو" (Pew Research Center) للبحوث. لذلك، لا يثير العجب أن يقترب الكونغرس الأميركي من تمرير ميزانية للسنة المالية لـ2024 من شأنها أن تضع الإنفاق عند 1.59 تريليون دولار، أي ما يقل قليلاً عن 1.7 تريليون دولار إنفاق السنة المالية 2023.
مخاوف مضللة
لكن أسباباً عديدة تجعل المشرعين والناخبين لديهم مخاوف تتعلق بحجم ديون البلاد، وهي مخاوف موجودة منذ عقود عديدة، وتعتبر مضللة وتقوض إجراء محادثة بناءة حول أولويات البلاد.
لا يعتبر الدين جيداً أو سيئاً في حد ذاته. وبناءً على ذلك، فإن السؤال لا يدور حول ما هو المستوى الصحيح للاقتراض، بل ما هو العائد الاقتصادي للاقتراض أو الأهداف المجتمعية التي سيحققها.
إنفوغراف: ديون أميركا ترتفع لمستوى غير مسبوق وتتخطى 34 تريليون دولار
على سبيل المثال، هناك الإعفاء الضريبي المخصص للآباء المُعيلين للأطفال، فعندما رفعت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن الاقتراض لتوسيع الخصم الضريبي إلى ما يصل إلى 3600 دولار لكل طفل مقارنة بألفي دولار في السابق، هبط معدل الفقر بين الأطفال إلى 5% تقريباً خلال 2021 من 13% تقريباً خلال 2019، وهو ما يسَّر على العائلات توفير الاحتياجات الأساسية على غرار الطعام والملابس واللوازم المدرسية. لكن عندما انتهى البرنامج في 2021، صعد معدل الفقر بين الأطفال إلى 12.6%.
ومن الأمثلة الأخرى أيضاً ضخ عشرات المليارات من الدولارات في صورة منح وعقود قدمتها الحكومة للمساعدة على تمويل تطوير تقنية الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA) التي استُخدمت في تصنيع لقاحات كوفيد-19.
ولا يمكنك أن تعد أو تحصي عوائد هذا الاستثمار على المجتمع. فهل كان الاقتصاد سيصبح قوياً بطريقة مثيرة للدهشة خلال الأعوام القليلة الماضية دون اقتراض إضافي، أو كان سيتجنب الركود الضار الذي يمكن أن يسفر عن طرد ملايين الأشخاص من العمل؟
بالنسبة لمثال الإنفاق على عجز الموازنة الذي ربما يُنظر له باعتباره سيئاً، تُبين البحوث أن الإعفاءات الضريبية للشركات، التي تقلل الإيرادات الضريبية وبالتالي تفاقم عجز الموازنة، قد تفاقم عدم المساواة في الدخل عوضاً عن النتيجة المقصودة لتشجيع الشركات على توسيع الإنفاق الرأسمالي لتقوية أعمالها والاقتصاد.
على أي حال، ينبغي وضع مبلغ الدين الأميركي في سياقه، حيث يعتبر رقم 34 تريليون دولار رقماً كبيراً فعلاً، لكن 142 تريليون دولار أكبر وأكثر أهمية لأنه يمثل الثروة الإجمالية للأميركيين، وهو مورد ضخم يساعد على تمويل الديون الحكومية والعجوزات.
سياق مناسب
سيرد المتشائمون بالإشارة إلى حجم الفوائد التي تدفعها الحكومة لخدمة ديونها. وخلال السنة المالية 2023 المنتهية 30 سبتمبر الماضي، كان الرقم أيضاً قياسياً حيث بلغ 882.6 مليار دولار، لكي أكون دقيقاً. مرة أخرى، يعد وضع الرقم في سياقه مهماً؛ فرغم أن المبلغ تضاعف منذ 2016، إلا أنه شكل 3.4% من الناتج المحلي الإجمالي والذي كان قابلاً للإدارة، وهو أقل من مستوى 4.3% أواخر التسعينيات من القرن الماضي عندما كانت الحكومة تحقق فوائض ميزانية عوضاً عن تسجيل عجز كما هو الحال بالوقت الراهن، بحسب بيانات جمعتها بلومبرغ.
بايدن يحث الجمهوريين على منع الإغلاق الحكومي
لا ريب أنه عندما يجري نقاش حول الاقتراض الحكومي، فإنه يوضع حتماً في سياق الضغوط المالية الواقعة على الأسر. لكن السياق الصحيح لطريقة إصدار الحكومة الفيدرالية لقرارات تتعلق بالديون لا يناسب هو نفسه طريقة اتخاذ الأسر لقرارات حول الديون. تحتج ستيفاني كيلتون، أستاذة الاقتصاد في جامعة "ستوني بروك"، ومعها الحق بأن هذه واحدة من عديد "الأساطير" المترسخة وسط النقاش إزاء الديون الفيدرالية. يمكن للحكومة خدمة ديونها بكل بساطة بفضل صلاحياتها غير المحدودة لفرض الضرائب وقدرتها على إصدار سندات خزانة أميركية أكثر لسداد الأوراق المالية التي يحين موعد سدادها. على النقيض من ذلك، لا يمكن للأسر بهذه البساطة زيادة دخلها إلى المستوى المطلوب وفق ما تريد.
على الجانب الآخر، تشكل الألاعيب السياسية المتربطة بالديون الفيدرالية خطراً على الاقتصاد أكبر كثيراً من مستوى الاقتراض. اكتسبت الولايات المتحدة الأميركية ما يُعرف بمسمى "الامتياز الباهظ" في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ما يعني أن توافر الطلب بصورة دائمة من المستثمرين عبر كافة أنحاء العالم على سندات الخزانة الأميركية في الأوقات الجيدة والسيئة. ظفرت الولايات المتحدة الأميركية بهذا الامتياز عن طريق تشجيع اقتصاد ديناميكي، والالتزام بسيادة القانون وكونها ديمقراطية مستقرة. وبالتالي، يشكل الدولار الأميركي نحو 60% من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية، أي 3 أضعاف اليورو (ثاني عملة احتياط نقدي حول العالم).
قصور سياسي
الأهم من خفض الديون أو تحقيق التوازن للميزانية هو جهود المشرعين لحماية الامتياز الباهظ الذي تتمتع به الولايات المتحدة الأميركية. أثار أولئك الموجودون في الكونغرس الأميركي دراما عالية حول اقتراض البلاد وميزانياتها من خلال التساؤل عما إذا كانت سندات الخزانة هي حقاً الأصول الأكثر أماناً على مستوى العالم. وعندما جردت وكالة "فيتش ريتينغز" و"ستاندر أند بورز غلوبال ريتينغز" الولايات المتحدة الأميركية من تصنيفاتها الائتمانية (AAA)، تذرعتا بمخاوف تتعلق بزيادة القصور السياسي بعد نشوب مواجهات عديدة حول سقف الديون.
ختاماً، تمثل السياسة التهديد الحقيقي وليس مستوى الاقتراض. عندما تجعل دولة ما الأولوية لحجم الدين الفيدرالي فإنها تعاني من سوء ترتيب أولوياتها.