بلومبرغ
ستكون للحرب على تايوان كلفة فادحة من الأرواح والمال تمثل دافعاً مُقنعاً لعدم المجازفة بحدوثها، وهو أمر يدركه حتى المستاؤون من الوضع الراهن. تُقدِّر "بلومبرغ إيكونوميكس" تكلفة هذه الحرب بنحو 10 تريليونات دولار، ما يقارب 10% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، حيث سينجم عنها تداعيات أضخم بكثير من التبعات الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، وجائحة كورونا، والأزمة المالية العالمية.
تزايُد ثقل الصين الاقتصادي والعسكري، وتنامي الشعور بالهوية الوطنية في تايوان، والعلاقات المتوترة بين بكين وواشنطن، كلها عوامل تشير إلى توفر الأوضاع المواتية لحدوث أزمة. كما تمثل الانتخابات في تايوان، المزمع إقامتها في 13 يناير، نقطة اشتعال محتملة للموقف؛ إذ تعتبر اقتراعاً على العلاقات بين الدولتين اللتين يفصل بينهما مضيق تايوان.
يرجح قليلون أن الغزو الصيني وشيك. غير أن جيش التحرير الشعبي لا يحشد قواته على الساحل، كما أن التقارير عن الفساد في جيش الصين تثير الشك في قدرة الرئيس شي جين بينغ على شن حملة عسكرية ناجحة. فيما يقول المسؤولون الأميركيون إن حدة التوترات تراجعت بقدر ما في القمة التي عقدت في نوفمبر بين الرئيس جو بايدن و"شي"، الذي تعهّد بإجراء تدابير "مريحة" تهدف إلى جذب المستثمرين الأجانب.
تزايد الاهتمام بأزمة تايوان
مع ذلك، يعد اندلاع الحرب في أوكرانيا وغزة بمثابة تذكير كيف قد تصل التوترات المستمرة من فترة طويلة إلى حد الانفجار وتتحول إلى صراع. وبدأ الجميع، بمن فيهم المستثمرون في "وول ستريت" والمخططون العسكريون ومجموعة من الشركات المعتمدة على أشباه الموصلات التايوانية، التحوط من ذلك الخطر.
خبراء الأمن القومي في البنتاغون، ومراكز البحوث في الولايات المتحدة واليابان، وشركات الاستشارات العالمية، جميعهم يضعون سيناريوهات وخطط التعامل معها، والتي تشمل فرض الصين حصاراً بحرياً على تايوان، والاستيلاء على الجزر النائية التابعة لتايبيه، والغزو الصيني الشامل.
قال جود بلانشيت، خبير الشؤون الصينية بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إن اهتمام الشركات متعددة الجنسيات، التي يُقدم لها المشورة، بأزمة تايوان تصاعد منذ غزو روسيا لأوكرانيا في 2022، وإن الموضوع يثار في 95% من المحادثات.
تُقدم حرب روسيا في أوكرانيا، ونقص إمدادات أشباه الموصلات، في الوقت الذي أعاد العالم فتح أبوابه بعد إغلاقات الجائحة، لمحة ضئيلة عن حجم المخاطر على الاقتصاد العالمي، إلا أن تبعات الحرب في مضيق تايوان ستكون أعتى بكثير.
تنتج تايوان معظم أشباه الموصلات المنطقية المتطورة التي يحتاجها العالم، وكميات كبيرة من الرقائق الأقل تطورا أيضاً. فعلى الصعيد العالمي، تأتي نسبة 5.6% من القيمة المضافة الإجمالية، أي نحو 6 تريليونات دولار، من القطاعات التي تستخدم الرقائق مدخلات إنتاج مباشرة. فيما تقارب القيمة السوقية الإجمالية لأكبر 20 عميلا لدى شركة "تايوان سيميكوندوكتور مانوفاكتشورينغ"، عملاقة الرقائق، 7.4 تريليونات دولار، كما يعد مضيق تايوان أحد أكثر مسارات الشحن البحري ازدحاماً في العالم.
وضع نموذج لتكلفة الأزمة
وضعت "بلومبرغ إيكونوميكس" نموذجين لسيناريوهين، الأول هو غزو صيني يورط الولايات المتحدة في صراع محلي، والثاني هو فرض حصار على تايوان يمنعها من التجارة مع بقية دول العالم. اسُتخدمت مجموعة من النماذج لتقدير الأثر على الناتج المحلي الإجمالي، مع الأخذ في الاعتبار الضرر الواقع على إمدادات أشباه الموصلات، وتوقف الشحن البحري في المنطقة، والعقوبات التجارية والرسوم الجمركية، والتداعيات على الأسواق المالية.
بالنسبة إلى طرفي النزاع الرئيسيين، والاقتصادات الكبرى الأخرى، والعالم ككل، سينتج الضرر الأكبر عن نقص أشباه الموصلات؛ حيث ستتعطل خطوط التجميع التي تنتج الحواسيب المحمولة والأجهزة اللوحية والهواتف الذكية- إذ تعد الرقائق المتطورة التي تصنعها تايوان عنصراً أساسياً لا غنى عنه ولا بديل له- وستتلقى صناعة السيارات والقطاعات الأخرى التي تستخدم الرقائق الأقل تطوراً ضربة قوية أيضاً. كما ستزيد تكلفة الحرب نتيجة حواجز التجارة والعزوف الهائل عن المخاطرة في الأسواق المالية.
السيناريو | فرضيات النموذج (العام الأول) | الأثر على الناتج المحلي الإجمالي (العام الأول) |
غزو صيني يورط الولايات المتحدة في صراع محلي | 100% توقف تجارة تايوان قرب 100% انخفاض في حجم التجارة بين أميركا والصين 50% فرض رسوم جمركية بين حلفاء أميركا والصين 40 نقطة ارتفاع بمؤشر التقلب في بورصة خيارات شيكاغو 80% انخفاض في حجم التجارة من وإلى اليابان وكوريا ودول "آسيان" | - 40% تايوان - 16.7% بر الصين الرئيسي - 6.7% الولايات المتحدة - 10.2% عالمياً |
حصار صيني حول تايوان | 100% توقف تجارة تايوان 50% رسوم جمركية بين أميركا والصين 25% رسوم جمركية بين حلفاء أميركا والصين 16 نقطة ارتفاع بمؤشر التقلب في بورصة خيارات شيكاغو | - 12.2% تايوان - 8.9% بر الصين الرئيسي - 33% الولايات المتحدة - 5% عالمياً |
تشير إحدى الفرضيات الرئيسية في هذا السيناريو إلى نجاح الولايات المتحدة في إقناع حلفاء بالانضمام إلى فرض عقوبات اقتصادية مشتركة صارمة على الصين.
يقول المسؤولون الأميركيون إن رد الفعل الصيني على زيارة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي في ذلك الوقت، تايبيه في أغسطس 2022 ساعد في إقناع الدول الأخرى في مجموعة السبع بأن خطر النزاع حقيقي. بينما اعتبرت بكين تلك الزيارة تحولاً في الوضع الراهن أظهر "شي" في صورة الضعيف، بالأخص بعدما أشار المحللون المحليون إلى قدرة الصين على منع "بيلوسي" من الهبوط في تايبيه.
ساعدت التبعات الناجمة عن زيارة "بيلوسي"، التي شهدت إجراء الصين مناورات بحرية شاملة نُظر إليها على أنها تدريبات على الحصار، على بناء ذاكرة عضلية دبلوماسية لردود الأفعال المشتركة، بحسب المسؤولين الأميركيين.
قال ريك ووترز، المدير الإداري لنشاط الصين في "أوراسيا غروب" (Eurasia Group)، وكبير مسؤولي السياسات الصينية السابق بوزارة الخارجية الأميركية، إن خطاب الصين ورد جيش التحرير الشعبي على زيارة "بيلوسي" أطلقا موجة هادئة بين الشركات للاستعداد للطوارئ والتخطيط للسيناريو.
انتخابات مصيرية
حتى لو لم تسفر نتيجة الانتخابات في تايوان عن أزمة مباشرة، فإنها ستحدد اتجاه العلاقات بين الدولتين الواقعتين على جانبي المضيق.
يسعى لاي تشينغ تي، الذي يشغل حالياً منصب نائب رئيسة الجمهورية في الإدارة التي شكلها الحزب الديمقراطي التقدمي، جاهداً لتقديم نفسه في صورة المرشح المؤيد لاستمرار الوضع الحالي، والذي لا يملك خططاً لتعكير صفو العلاقات مع بكين.
رغم ذلك، فقد وصف نفسه فيما مضى بأنه يعمل بشكل براغماتي في سبيل استقلال تايوان. بالنسبة إلى بكين، التي تعد الجزيرة جزءاً من أراضيها، فتعتبر أي جهود رسمية للاستقلال على أنها تجاوز لخط أحمر. وفي اجتماعه مع بايدن، أعلن "شي" قلقه العميق إزاء احتمال فوز "لاي"، بحسب مسؤول رفيع المستوى بالإدارة.
على النقيض من الحزب الديمقراطي التقدمي، الذي ينحاز إلى التقييم في واشنطن، فإن المشكلة تكمن في نزعة بكين العدوانية، لا في رغبة تايوان في استمرار استقلالها.
[object Promise]فترة الخطر
يعد منافسا "لاي"، "هو يو إيه" مرشح حزب "الكومينتانغ"، و"كو وين جي" مرشح حزب "الشعب التايواني"، باتخاذ إجراءات عملية لتحسين العلاقات مع جارة تايوان العملاقة، دون التضحية باستقلال الجزيرة الفعلي.
يقول المسؤولون الأميركيون إن الصين ربما تخطط لرد فعل متعدد المحاور على الانتخابات، يتضمن عمليات توغل عسكرية، وعقوبات اقتصادية، وتكتيكات "المنطقة الرمادية" مثل الهجمات الإلكترونية.
يقول المسؤولون في واشنطن وتايبيه إن الفترة ما بين الانتخابات في يناير وتنصيب الرئيس الجديد في مايو المقبل، تعد منطقة الخطر بالنسبة إلى الإجراءات الصينية الرامية إلى تضييق الخناق على رئيس تايوان القادم.
أياً كان الفائز في الانتخابات، فسوف يتوجب عليه التعامل مع مجموعة من الحقائق المتغيرة والتحديات على جانبي المضيق.
في 1979، عندما حوّلت الولايات المتحدة الاعتراف الرسمي من تايبيه إلى بكين، كان حجم الناتج المحلي الإجمالي في أميركا 10 أضعاف نظيره في الصين، وكان الجيش الصيني في المراحل الأولى من التحديث، وكانت تايوان لا تزال تحت حكم الحزب الواحد.
2027 العام الأخطر للصراع
ننتقل سريعاً إلى يومنا الحالي، حيث يقترب الناتج المحلي الإجمالي للصين أكثر فأكثر من نظيره في الولايات المتحدة، ويتباهى جيشها بمكانة قريبة من نظرائه، لا سيما في المنطقة، وتمثل الديمقراطية الليبرالية في تايوان تناقضاً واضحاً مع النظام الاستبدادي في الصين.
كما أججت البيانات التي أدلى بها الزعيمان في بكين وواشنطن التوترات.
كرر "شي" أن تايوان ليست قضية يمكن "تمريرها من جيل إلى جيل". وفضلاً عن جهوده لتحديث الجيش، أثارت تلك التصريحات تكهنات برغبته في إجراء التوحيد خلال عهده، فيما أشار مسؤولو الاستخبارات والجيش في الولايات المتحدة إلى 2027 على أنه عام خطير.
في اجتماعه مع بايدن، أبدى "شي" استياءه من وجهة النظر القائلة بأن القوات الصينية تسعى إلى الاستعداد للغزو بحلول 2027، والتي وصفها بأنها مخطئة، بحسب مسؤول أميركي رفيع المستوى.
المستثمرون يستعدون للسيناريو الأسوأ
من جهته، قال بايدن إن الولايات المتحدة ستهب لنجدة تايوان حال حدوث غزو صيني. ونتيجة هذه الصراحة الفجة، تآكلت طبقات الغموض المحيطة بموقف أميركا التي صُنعت بعناية ودقة، وأثارت في الصين غضباً وقلقاً من تشجيع واشنطن عاصفة الصخب التي يثيرها مؤيدو الاستقلال.
أظهر مؤشر "بلومبرغ إيكونوميكس" للإجهاد في تايوان- استناداً إلى الكلمات التحذيرية التي تستخدمها وزارة الخارجية الصينية، والتوغلات العسكرية في منطقة الدفاع الجوي التايوانية- تصاعد حدة التوترات خلال العام ونصف الماضيين.
يستعد المستثمرون والشركات للسيناريو الأسوأ. وقال كيرك يانغ، رئيس مجلس إدارة شركة "كيركلاند كابيتال" (Kirkland Capital)، وهي صندوق استثمار في الأسهم، والخبير بشؤون شركات التكنولوجيا في آسيا، إن استثمارات الصندوق في تايوان تقارب الصفر في الفترة الحالية، وإن التوترات الجيوسياسية عززت الدافع إلى تقليص حجم الاستثمارات بوتيرة أسرع.
كثيرون يتفقون مع "يانغ"، فالمستثمر الشهير وارن بافيت قلص حصته في "تايوان سيميكوندوكتور مانوفاكتشورينغ" خلال الربع الأول من 2023، متذرعاً بالمخاطر الجيوسياسية.
الجانب المشرق في تحليل "بلومبرغ"
تجري الشركات والحكومات استعداداتها أيضاً. قفزت الاستثمارات الجديدة في الإلكترونيات والمعدات الكهربائية من 48 مليار دولار في 2020 إلى 181 مليار دولار في 2022؛ إذ أنفقت حكومات الولايات المتحدة واليابان وألمانيا على تنويع مصادر إمدادات أشباه الموصلات.
إذا كان هناك جانب مشرق في تحليل "بلومبرغ إيكونوميكس"، فربما يكون أن تكلفة الأزمة البالغة 10 تريليونات دولار في غاية الارتفاع لكل الأطراف، ما يعزز الحافز على تجنب وقوعها.
ربما لا يكون الوضع الراهن النتيجة المثالية التي يرجوها أي طرف، لكن بالنسبة إلى تايبيه، وبكين، وواشنطن، فالبدائل أسوأ. ولذلك السبب قد يظل استقلال تايوان المبهم يمثل نتيجة متوازنة، حتى لو تغيرت الأوضاع التي تجعله كذلك.
منهجية التحليل
فيما يخص سيناريوهي الحرب والحصار، استخدمت "بلومبرغ إيكونوميكس" مجموعة من النماذج لتقييم أثر الاضطرابات في إمدادات أشباه الموصلات، والحواجز التجارية، وصدمات الأسواق المالية.
استخدمت بيانات المبادلات بالقيمة المضافة لعام 2018 الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. واستخدمت بيانات المدخلات والمخرجات الصادرة عن المنظمة أيضاً في تقدير الأضرار المباشرة على القطاع التي تستعمل أشباه الموصلات بصفتها عناصر إنتاج (مثل الحواسيب والإلكترونيات والمنتجات البصريةـ والأجهزة الكهربائية، والآلات والمعدات، والسيارات، والمقطورات وشبه المقطورات، ومعدات النقل الأخرى)، ولتقييم الأثر غير المباشر على القطاعات، مثل التبعات على إنتاج المعادن في حال تباطؤ إنتاج السيارات.
قُيّمت الصدمات التجارية باستخدام نموذج التجارة العالمية (Global Trade Model) (أغويار وآخرون، 2019) الذي طورته منظمة التجارة العالمية (WTO)، وهو نموذج حسابي متكرر للتوازن العام يستند إلى نموذج مشروع تحليل التجارة العالمية (GTAP) (النسخة السابعة) (كورونغ وآخرين، 2017)، تم حساب الصدمة على الرسوم الجمركية والإجراءات غير المتعلقة بالتعريفة الجمركية، ومنها مؤشر للعقوبات وقيود التصدير.
حُدد حلفاء الولايات المتحدة بناءً على حصص التجارة، والعلاقات التعاهدية، وتقدير "بلومبرغ إيكونوميكس"، وهم أستراليا، وكندا، ورابطة التجارة الحرة الأوروبية (European Free Trade Association)، والاتحاد الأوروبي، واليابان، والمكسيك، وكوريا الجنوبية، والمملكة المتحدة.
تبعات الصدمات المالية
تبعات الصدمات المالية قُدّرت وفق نهج هيكلي يعتمد على نموذج "التقدير البيزي لمتجه الانحدار الذاتي العالمي" (Bayesian Global VAR model) (بوك، وفيلدكيرشر، وهوبر، 2020)، وأُجري على النموذج تعديل طفيف بإضافة سجل لأسعار الأسهم الحقيقية لكل بلد كما ورد في موهادس ورئيسي (2020). ووضع نموذج عدم اليقين في الأسواق المالية على أنها صدمة عالمية لمؤشر التقلب في بورصة خيارات شيكاغو.
أحد جوانب عدم اليقين الرئيسية في التحليل هو مدى إمكانية تعويض نقص إنتاج أشباه الموصلات القادمة من تايوان بالإنتاج في دول أخرى، أو تغلب شركات التصنيع على التحديات، أو الدعم من المخزون.
[object Promise]الواقع قد يؤدي إلى وضع أفضل
قد يؤدي الواقع إلى وضع أفضل في نهاية المطاف، على سبيل المثال، قد تزيد دول أخرى إنتاج الرقائق، أو ربما تجد شركات السيارات وجهات التصنيع الأخرى سبيلاً للتغلب على نقص المدخلات.
قد يسوء الوضع أيضاً، على سبيل المثال، في حالة عدم إمكانية استبدال الرقائق التي تصنعها تايوان واتساع نطاق استخدامها في المنتجات. في حالة وصول الإنتاج لصالح كل القطاعات التي تستخدم الرقائق المتطورة والأقل تطوراً إلى الصفر، سيرتفع الضرر على الناتج المحلي الإجمالي العالمي في سيناريو الحرب من 10.2% إلى 14%.