ما يزال الرجل يهيمن على الاقتصاد كمهنة، حيث نجد امرأةً واحدةً بين كل تسعة أساتذة اقتصاد متفرغين، فيما أن حصة النساء أقلّ من ربع الاساتذة المساعدين، وهي نفس نسبتهن بين من يتخصصون بالاقتصاد في دراستهم الجامعية. لطالما كان هذا الاختصاص غير جذاب بين النساء كما يصعب عليه استبقاء من يستقطبهن.
حين التحقت كلوديا غولدن الفائزة بجائزة نوبل لعام 2023 بجامعة كورنيل لتدرس الاقتصاد في الستينات، ثمّ جامعة شيكاغو لتحصيل الدكتوراه، كان عدد النساء أقل من ذلك. ولم تبدأ الرابطة الأميركية للاقتصاد بنشر عدد الإناث العاملات في المهنة حتى 1972، حين بلغت نسبة النساء 7.2% فقط من إجمالي حملة الدكتوراه الجدد و2.4% من الأساتذة المتفرغين.
لا شكّ أن غولدن أبدت عزماً شديداً في ذلك الزمان لتنبش الأرشيف وتوثّق حقائق عن "عمل وأجور النساء العزباوات بين 1870 و1920" و"الوضع الاقتصادي للنساء في حقبة الجمهورية المبكرة".
فقد تعيّن عليها الاعتماد على الرجال ليقرؤوا أبحاثها وينشروها، كما اضطرّت للتعويل على آراء رجال أجروا دراسات معمّقة حول العمل، ولكن نادراً ما اكترثوا بشأن طريقة الإطعام والإكساء أو تربية الأجيال المقبلة.
تجاهل اقتصادي للمرأة
كانت غولدن توثّق التحوّل الذي طرأ على دور المرأة في المجتمع في وقت لم يعره الرجال ذلك أي اهتمام. اليوم، قد نتعجّب من أن الخبراء الاقتصاديين الرجال اعتبروا قبلاً أن المرأة لا يجب أن تشمل في أمور مهمة، مثل الاقتصاد الكلّي. ولكن مجرد استغراب طريقة التفكير هذه جاء بفضل غولدن واقتصاديين كثر دربتهم كي ينظروا إلى العالم بطريقة مختلفة.
مع ذلك، على الرغم من الطابع الثوري لأعمالها، إلا أنها بَنَتْها على أعمال اقتصاديين سبقوها، ما يسلّط الضوء على الطريقة التي يمهّد بها الباحثون الطريق للأجيال التي تليهم.
عاد غاري بيكر إلى الكلية في جامعة شيكاغو حين كانت غولدن طالبة هناك، وفاز بعدها بجائزة نوبل عن استخدام الأدوات الاقتصادية للإجابة على أسئلة أوسع حول السلوك البشري. وفاز المشرف على أطروحة غولدنن روبرت فوغل بجائزة نوبل للاقتصاد عام 1993 عن "البحوث المتجدّدة حول تاريخ الاقتصاد من منطلق تطبيق النظرية الاقتصادية والأساليب الكميّة لشرح التغيير الاقتصادي والمؤسساتي".
استقت غولدن هذه العبر وبنت عليها، ما منح الاقتصاد منظوراً أوسع لتحليل ثراء حياة المرأة.
مع ذلك، ظلّت غولدن تعمل وحيدة لسنوات. فعلى صعيد الاقتصاد الكلّي، كان يُنظر إلى النساء على أن دورهنّ هامشي وكاسبات أجر ثانويات وأمر مستجدّ لا يستحق عناء الدراسة. استوعبت غولدن مفهوم الهوية حتى قبل أن يصبح مصطلح "سياسة الهويات" براقاً، ورصدت الحواجز البنيوية، قبل وقت طويل من بدء الحديث الموسّع عن العنصرية البنيوية. فمن منطلق عملها كخبيرة اقتصادية، نظرت إلى قوى العرض والطلب على أنها متداخلة مع الهوية والبنية الاجتماعية، ووثقت الطريقة التي ترسم فيها هذه التداخلات اختيارات النساء.
مع التحوّل في الهوية والبنية، تغيرت الخيارات أيضاً. فوثقت على مدى عقود هذه التغيرات بشكل ممنهج، فيما بقي معظم زملائها في المجال الاقتصادي غافلين بشكل كبير عن النساء اللواتي يشكلن نصف المجتمع.
تشجيع الأجيال المقبلة
قالت غولدن في كتابها (Career and Family) إن "المسار نحو تأسيس مهنة وعائلة والموازنة بينهما انطلق منذ أكثر من قرن". لقد أمضت أزيد من خمسين عاماً تتحرى بحثاً عن أجوبة لشرح هذه التغيرات، ووسّعت نطاق بحثها ليمتد على 200 عام من التاريخ. لقد قادنا عملها هذا للتفكير بشكل منهجي بالأمور التي أوصلتنا إلى هذا التغيير والعوائق التي ما تزال تعترض طريقنا.
كانت غولدن أحد المشرفين على أطروحتي. وأحبّ أن اعتبر نفسي واحدة من "جنود" دربتهم على التفكير بالعمل والعائلة بشكل مختلف. كثيراً ما أتساءل إذا ما كنت لاستمرّ في اختصاص الاقتصاد لو لم يحالفني الحظّ بالحصول على توجيهها. فهي بهذه الطريقة مكّنت النساء من التقدم في عالم الاقتصاد، طالبةً بعد أخرى، وجيلاً بعد جيل، فشجعتهن على الاستمرار في هذا الاختصاص، وساعدت على بناء مزيد من المناصرين من أصحاب الرؤى الاقتصادية الأشمل.
فوز غولدن بجائزة نوبل اعتراف بأن مهنة الاقتصاد مدركة للثورة التي قادتها، فالحكومات حول العالم تقرّ اليوم بأن السياسات التي تعطي الأسر شكلها، لها نفس الأثر على الاقتصاد أيضاً، فيما يدرس الطلاب حول العالم القوى العاملة النسوية كمكوّن أساسي لفهم الاقتصاد. هذا الاحتفاء العلني بمسيرة غولدن المهنية ليس لحظة تقدير لها وحدها، بل لحظة للاحتفاء بجميع النساء، هي خطوة جديدة نحو المواطنة الكاملة.
آمل أن يلهم ذلك جيلاً جديداً من الشابات على دخول مجال الاقتصاد وإلهام المهنة لإيجاد مزيد من الوسائل لجذب النساء.