الشرق
يعرف معظمنا مقولة: "ما يحدث في (لاس) فيغاس يبقى في فيغاس". هذه المقولة لا تصح مطلقاً على الاقتصاد الصيني، نظراً لارتباطه الوثيق بالاقتصاد العالمي. فما يحدث في ثاني أكبر اقتصاد يؤثر بشكل مباشر على العالم.
قبل أسابيع قليلة، عادت الصين لتصدّر عناوين الأخبار مجدداً. هذه المرة لم تكن البيانات الاقتصادية الضعيفة محور الأخبار، إنما بسبب الأزمة التي تعصف بالقطاع العقاري والتخارج القياسي للصناديق الأجنبية من الأسهم الصينية خوفاً من انهيار القطاع. لكن الأحدث هو بدء حملة لمكافحة الفساد في القطاع الصحي، ما يعيد إلى الأذهان حملات مكافحة الفساد أو التنظيم السابقة التي طالت قطاعات عدة، وخضّت الأسواق المحلية والعالمية.
حملة مستمرة
وكالة "شينخوا" الرسمية، كشفت أمس الأربعاء عن حملة تجريها السلطات الصينية لمكافحة الفساد بدأت منذ عام تقريباً، وانخرط في تنفيذها لجنة الصحة الوطنية وتسع إدارات أخرى في يوليو الماضي، بهدف "تصحيح الممارسات الخاطئة البارزة مثل استغلال السلطة للحصول على الإيجار، وقبول الرشوة والعمولة غير المشروعة". ومن المفترض أن تغطي الحملة جميع جوانب القطاع، وستركز على الأفراد العاملين في مناصب رئيسية في القطاع الطبي، والذين انتهكوا القواعد والقوانين ذات الصلة.
في تقرير منفصل نشر باللغة الصينية، نقلت الوكالة عن مسؤول لم تسمّه في لجنة الصحة الوطنية، قوله إن الجهود الحكومية السابقة أسفرت عن تورط أشخاص يشغلون مناصب رئيسية أساؤوا استخدام سلطاتهم، وتلقوا رشى وهبات غير قانونية، وشاركوا في أنشطة فاسدة. وقال المسؤول إن هذه الإجراءات قلّصت فوائد إصلاح الرعاية الصحية وفرص التطوير، مما أضر بالمصلحة العامة.
الوكالة لم تذكر عدد المتورطين، ولكن بيانات جمعتها شركة ""سايبيلان" (Saibailan) لاستشارات الرعاية الصحية ومقرها في بكين، أفادت بأن الحملة الكاسحة لمكافحة الكسب غير المشروع شملت ما يقرب من 30 شخصاً من رؤساء المستشفيات وأمناء الحزب ومسؤولين بالقطاع الصحي في الأسابيع الثلاثة منذ إطلاقها.
وبذلك ارتفع عدد المتخصصين في الرعاية الصحية والمسؤولين المتورطين في تحقيق أوسع نطاقاً، إلى أكثر من 170 منذ بداية العام، وكان معظمهم من مستشفيات ووكالات حكومية بمدن منخفضة المستوى في جميع أنحاء الصين، ما يشير إلى أن الحملة لا يزال أمامها وقت طويل.
القطاع الصحي في الصين يعد الأضخم في العالم، إذ تملك البلاد نظامين صحيين الأول للعاملين والثاني للمقيمين. وفي 2022، اندرج أكثر من 1.35 مليار شخص وهو ما مثل آنذاك 95% من عدد السكان، في واحد من هذين النظامين، وذلك وفقاً للنشرة الإحصائية حول تطوير الأمن الطبي في الصين، والتي أصدرتها "إدارة أمن الرعاية الصحية الوطنية".
موقع "ستاتيستا" أشار إلى أن الأرباح في سوق الرعاية الصحية في الصين، والتي تشمل المسكنات وعلاجات البشرة وأدوية البرد والفيتامينات وغيرها، وصلت إلى 18.95 مليار دولار في 2022، ومن المتوقع أن تصل خلال عام 2027 إلى 26.75 مليار دولار، في حين تفيد بيانات "بلومبرغ" بأن مبيعات الأدوية تصل إلى 166 مليار دولار سنوياً.
القطاع المالي
الحملة على القطاع الصحي ليست الأولى التي تطلقها السلطات الصينية خلال السنوات الماضية. ففي مارس الماضي، قررت أكبر وكالة لمكافحة الفساد في البلاد فحص نحو 30 شركة حكومية من بينها " تشاينا إنفستمنت" و"بتروتشاينا" و"تشاينا بتروليوم آند كيميكال" التي تعرف باسم "سينوبك" (Sinopec) و"تشاينا إيفربرايت غروب" (China Everbright Group) و"تشاينا ديفلوبمنت بنك". ويتضمن الفحص الجديد أيضاً "مراجعة" أداء خمس شركات مالية كانت مستهدفة سابقاً في جولة للتحقق من مكافحة الفساد التي بدأت في عام 2021.
بعد شهر من بداية الحملة، أعلنت السلطات أنها بدأت تحقيقاً مع لي شياو بنغ رئيس مجلس الإدارة السابق لمجموعة "تشاينا إيفربرايت غروب" (China Everbright Group) المملوكة للدولة، بشبهة ارتكابه "انتهاكات خطيرة للانضباط والقانون".
هذه الحملة، هزت القطاع المالي البالغ قيمته 60 تريليون دولار، خصوصاً أنها أصبحت أكثر عمقاً وشمولاً. وحققت السلطات مع ما لا يقل عن 20 مسؤولاً تنفيذياً مالياً أو عاقبتهم منذ أواخر فبراير.
قطاع الإنترنت
لعل الحملة الأشرس كانت على قطاع التكنولوجيا الرائد، والتي حولته من قطاع ضخم رافد للاقتصاد إلى قطاع "غير قابل للاستثمار" وفقاً لآراء محللين، ومحت مليارات الدولارات من قيمته السوقية.
خلال يوليو الماضي، فرضت الصين غرامات بأكثر من مليار دولار على شركتي التكنولوجيا العملاقتين "أنت غروب" و"تينسنت هولدينغز"، وهو ما اعتبرته الأسواق إشارة إلى إنهاء الحملة على القطاع. السلطات فرضت أيضاً غرامات على شركات "بي آي سي سي بروبرتي أند كاجوالتي" و"بوستال سيفنغز بنك أوف تشاينا" (Postal Savings Bank of China)، و"بينغ آن بنك".
وقبل أكثر من عامين، أحبطت الجهات التنظيمية الصينية الطرح العام الأولي لشركة "أنت غروب"، لتسبب هزة في أرجاء أسواق رأس المال العالمية. كما فُرضت قواعد جديدة على عملاقة التكنولوجيا المالية، والتي تمتد أعمالها من القروض الاستهلاكية وإدارة الثروات إلى المدفوعات عبر الإنترنت.
بدأت أزمة شركة "آنت غروب" مذ انتقد الشريك المؤسس لـ"علي بابا غروب هولدينغز"، والتي تفرعت عنها "آنت" جاك ما، الجهات التنظيمية في الصين، عشية إدراج الشركة بالبورصة عام 2020.
كان "ما" أحد أبرز رجال الأعمال في الصين. ثم اختفى عن الأنظار إلى حد كبير، بعد إلقائه خطاباً انتقد فيه المشرعين عشية الاكتتاب العام الأولي لشركة "آنت". لكنه ظهر بشكل دوري خارج الصين، بما في ذلك أوروبا وآسيا، قبل أن يعود إلى الصين في مارس الماضي، بعد نحو عام من "المنفى الاختياري في الخارج".
وانقسمت الشركة إلى ست وحدات رئيسية تشمل لتجارة الإلكترونية، والإعلام، والحوسبة السحابية، وستسعى كل من هذه الشركات لجمع الأموال أو طرح أسهمها للاكتتاب العام.
قطاع التعليم
إضافة لهذه الحملات، لجأت السلطات إلى فرض قيود واسعة على قطاع التعليم في 2021 في محاولة لتنظيم القطاع، وتضييق الخناق على شركات التعليم الخاصة، التي "استولى رأس المال عليها"، وفقاً للتعبير الصيني آنذاك.
منعت اللوائح التي أقرتها السلطات، الشركات التي تُدرس المناهج المدرسية من تحقيق أرباح أو زيادة رأس مالها أو طرحها للاكتتاب. وحظرت اللوائح هذه الشركات أيضاً من تقديم دروس خصوصية متعلقة بالمنهج الدراسي في عطلات نهاية الأسبوع أو أثناء الإجازات، أو تقديم دروس عبر الإنترنت أو دروس أكاديمية للأطفال دون سن السادسة، وهي شريحة من السكان تم دفعها بشكل متزايد لبدء الدراسة مبكراً.
كما منعت اللوائح الاستثمار الخارجي في الشركات التي تدرس المواد المدرسية، مطالبة الشركات المخالفة بتصحيح وضعها. كما حظرت تدريس المناهج الأجنبية، والتشدد بشأن استيراد الكتب المدرسية، ومنعت توظيف مدرسين أجانب خارج الصين. وأمرت الحكومة السلطات المحلية بتشديد الموافقات للشركات التي تقدم التدريب على المواد اللاصفية.
هذه الحملة جاءت نظراً لأن "صناعة التعليم خارج المدرسة اختطفت بشدة من قبل رأس المال، وهو ما حطم طبيعة التعليم"، بوصفه أمر له فائدة فردية ومجتمعية، وفقاً لمقال نشرته وزارة التربية والتعليم الصينية.
نما قطاع التعليم الإلكتروني لتصل قيمته إلى 100 مليار دولار. واجتذب قبل بدء الحملة، مليارات الدولارات نظراً لما له من إمكانات هائلة، إذ كان يتوقع أن يدر عائدات بقيمة 491 مليار يوان (76 مليار دولار) بحلول 2024.
القطاع العقاري
إضافة لما سبق، فإن القطاع العقاري في الصين يواجه متاعب عدة خلال الأسابيع الأخيرة. إذ تعثرت العديد من الشركات الكبرى في هذا القطاع الذي يساهم بنسبة تصل إلى 7% من الناتج المحلي الإجمالي.
ودفع احتمال تخلف شركة "كانتري غاردن هولدينغز" عملاقة التطوير العقاري الصينية، عن السداد إلى زيادة الشكوك حول فعالية مساعدة قطاع العقارات في البلاد.
عانت مجموعة من شركات التطوير العقاري التي تلقت مساعدة في شكل ضمانات حكومية لبيع سندات باليوان أكثر من غيرها في الأيام الأخيرة، بعد أن أظهر تعثر "كانتري غاردن" أن تلك المساعدة لم تكن كافية للمساعدة في تجنب مخاطر السداد.
هذا الواقع لم يقتصر على المطورين العقاريين، إذ تخلفت شركة الائتمان المالية المملوكة جزئياً لشركة "غونغرونغ إنتربرايز" (Zhongzhi Enterprise) "غونغرونغ إنترناشيونال تراست" (Zhongrong International Trust) عن سداد مدفوعات عشرات المنتجات المالية، من دون وجود خطة فورية لإرضاء العملاء.
وفق مصادر لـ"بلومبرغ"، شكلت السلطات الصينية بالفعل فريق عمل لدراسة أي عدوى محتملة، مع قيام المنظم المصرفي بفحص المخاطر لدى "غونغرونغ".
ويبقى السؤال الذي ينتظره السوق حالياً، ما إذا كانت السلطات الصينية ستطلق حملة تنظيمية لهذا القطاع الأساسي، إسوة بالقطاعات الأخرى، أم ستترك أمور تنظيمه للسوق؟