بلومبرغ
تشعر الشركات التي تدرس التواجد في الصين بأن الخوف من عدم المشاركة في المشهد يميل لتجاوز خطر التورط في الصراع الجيوسياسي بين بكين وواشنطن. فالمنافع التي يوفرها دخول السوق الصينية، والتي تتضمن العمالة الماهرة الكبيرة، والقدرات اللوجستية الهائلة، وتكاليف التصنيع المنخفضة، ساعدت على رفع التجارة بين الولايات المتحدة والصين إلى مستوى قياسي في العام الماضي، رغم استمرار تعطل سلاسل الإمدادات الصناعية نتيجة للجائحة.
في الوقت الراهن، هناك بوادر جديدة على بدء حدوث "فك الارتباط" بين القوتين العظميين الاقتصاديتين في العالم، الذي تُوقع في أغلب سنوات العقد الماضي. وبينما يفضل المسؤولون الأميركيون القول إنهم يخفضون خطر التجارة مع الصين، فالمصطلح المستخدم يوضح نهجاً أكثر تحديداً للظاهرة ذاتها.
1) ما معنى فك الارتباط؟
تعد العلاقات الشخصية تشبيهاً واضحاً، ففك الارتباط هو عكس الارتباط، وحتى الشركاء التجاريين قد ينفصلون أيضاً. المملكة المتحدة انفصلت عن الاتحاد الأوروبي باتفاقية "بريكست"، وأجبرت العقوبات المفروضة على موسكو العديد من الدول على التخلي عن الصادرات الروسية.
أما بين الصين والولايات المتحدة، فلا يُنظر إلى فك الارتباط باعتباره اقتراحاً قد يلقى قبولاً شاملاً أو رفضاً تاماً، من شأنه أن ينتهي بانفصال مفاجئ. فيقول معظم الخبراء إن تقليل الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الطرفين عملية تسير بوتيرة بطيئة ومستمرة. فعادةً، تعمل الصين باعتبارها مصنعاً للعالم، والولايات المتحدة هي أكبر قاطرة للاستهلاك. يُعتبر فك الارتباط سبباً لتودد الرئيس الصيني شي جينغ بينغ لنظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في أبريل، أو لعقد الولايات المتحدة اتفاقية بخصوص المعادن اللازمة لصنع المركبات الكهربائية مع اليابان.
2) ما جذور فك الارتباط؟
انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية في 2001، في أوج التحمس للأسواق الحرة. وأثبتت الشراكة التجارية بين بكين وواشنطن، والتي شملت بضائع بنحو 690 مليار دولار في العام الماضي، نفعها الكبير لكلا الطرفين، وعززت قوة الاقتصاد العالمي على مدى العقدين الماضيين.
لكن الثقة في العولمة بدأت في الانحسار مع الصدمة التي أحدثتها الأزمة المالية في 2008، وتولي شي، الذي شجع على ترسيخ دور الصين باعتبارها قوة عالمية كبرى، السلطة في 2012. ثم وصل دونالد ترمب بشعار حملته "لنعيد عظمة أميركا" إلى البيت الأبيض في 2017، واتهم بكين بتطبيق سياسات اقتصادية مجحفة، وشنّ عليها حرباً تجارية، ساعياً لإعادة التوازن إلى العجز التجاري الأميركي مع الصين بفرض رسوم جمركية على المنتجات الصينية.
3) كيف تأججت التوترات؟
اتخذ جو بايدن، خليفة ترمب، موقفاً متشدداً من بكين، فأمر بإصدار قوانين جديدة لتقييد الاستثمارات الأميركية في بعض الشركات الصينية العاملة في مجالات أشباه الموصلات، والحوسبة الكمومية، والذكاء الاصطناعي. أما محور أعماله المحلية، وهي خطة بمبلغ 370 مليار دولار لدعم الشركات التي تقود التحول إلى اقتصاد منخفض الانبعاثات، فيُفترض أن يعزز من سيطرة الصين على سوق المواد الخام، مثل الليثيوم والكوبالت والنيكل والماغنسيوم، وهي مكونات أساسية للمحركات الكهربائية والبطاريات.
يهدف قانون الرقائق والعلوم، المُمول بمبلغ 50 مليار دولار، إلى فعل شيء يشابه إعادة مواقع إنتاج المعدات عالية التكنولوجيا مثل أشباه الموصلات، إلى أميركا، ويتضمن قوانين جديدة تقيّد قدرة الصين على الحصول عليها.
في محاولة لتهدئة التوترات، اتجه البيت الأبيض في عهد بايدن، مردداً الألفاظ التي استخدمها الاتحاد الأوروبي، إلى وصف استراتيجيته بأنها خفض للمخاطر عوضاً عن فك الارتباط، وهو اختلاف لم ينجح في تهدئة مخاوف بكين. كما حذرت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، في أبريل من أن الانفصال التام بين الاقتصادين سيؤدي إلى تبعات كارثية على الدولتين.
4) ما المجالات المتضررة؟
الإجابة المختصرة هي المجالات التي فرضت عليها رسوم جمركية وقيود تصدير. فالرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترمب على نحو ثلثي الواردات الصينية ما تزال سارية، فيما استهدفت إدارة بايدن مبيعات أشباه الموصلات المتطورة وأدوات صنعها. قد لا يمكن التكهن بتبعات تلك الإجراءات، وقد تنتشر في صناعات أخرى بخلاف المستهدفة. على سبيل المثال، قد تضر إجراءات تقييد حصول الصين على التكنولوجيا العسكرية بإنتاج الغسالات، حيث تحتوي الأخيرة على رقائق يمكن استخدامها في الصواريخ.
أضفى تشاد باون، خبير تجاري في "معهد بترسون للاقتصاد الدولي" في واشنطن، في الآونة الأخيرة بعض الإثارة على الجدل المحيط بفك الارتباط، وذلك من خلال بحث جديد يوضح كيف يمكن فك ارتباط بعض الواردات الأميركية عن الصين، فيما سيصل البعض الآخر إلى أعلى مستويات جديدة. كانت الواردات الصينية ما تزال خاضعة لرسم جمركي بنسبة 25% في 2022، وكان حجم البضائع، مثل أشباه الموصلات وأجهزة تكنولوجيا المعلومات وبعض الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية، أدنى من مستويات ما قبل الحرب التجارية بنسبة 25%، وفقاً للبحث. من الجهة الأخرى، كان حجم البضائع المعفاة من الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب أعلى بنسبة 42%.
5) هل يتضح فك الارتباط في البيانات التجارية الإجمالية؟
تصعُب رؤية التغيرات الضخمة حتى الآن، لكن التعمّق في التفاصيل مرة أخرى سيكشف بعض الأدلة. فوفقاً لتقرير صدر في مارس عن "كلية ستيرن للأعمال" في "جامعة نيويورك" وشركة "دي إتش إل" (DHL) عملاقة التوصيل، بدأت العلاقة التجارية الأميركية - الصينية في إظهار نمط عام على فك الارتباط.
وأفاد البحث بأنه في 2022، تراجعت حصة البضائع الصينية المستوردة باعتبارها نسبة مئوية من إجمالي الواردات الأميركية إلى 16.6%، منخفضة عن 21.6% في 2017، العام الذي سبق شن ترمب الحرب التجارية. كما تراجعت قيمة البضائع الأميركية المُصدّرة إلى الصين في 2022 باعتبارها نسبة مئوية من الصادرات الأميركية إلى 7.3% من 8.4% في 2017.
مع ذلك، خلُص التقرير إلى أن الوقت لم يحن بعد لإعلان نهاية العولمة وتقسيم الاقتصاد العالمي إلى تكتلات متنافسة. الأمر أشبه كثيراً بحدوث تغيّر في علاقات العولمة المتعددة، فيما تتجه بعض الاقتصادات الكبرى لإيجاد شركاء آخرين أو الاستثمار في نفسها.
6) ما الدافع إلى الانفصال بخلاف التوترات بين واشنطن وبكين؟
يعزى جزء من التوجه إلى رد الفعل على جائحة كورونا، وكيف يمكن توقف إمدادات مكون واحد، ما يؤدي إلى اضطراب سلاسل الإمداد الفعالة التي تمتد في أنحاء العالم، وتعطيل إنتاج مجموعة من المنتجات المصنعة في مناطق كثيرة لشهور. نتيجةً لذلك، تبحث الشركات عن سلاسل إمداد أكثر مرونة، يحميها عدد أكبر من المستثمرين أو بها وضوح أكبر، إلى جانب تنويع المصادر.
يعني ذلك أنه على بعض الشركات الكبيرة أن تتأكد من عدم الاعتماد على الصين وحدها في تصنيع منتجاتها، أو الانسحاب منها تماماً، وإنشاء مصانع في دول مثل فيتنام، والمكسيك، وتركيا. مع ذلك، تواجه الشركات صعوبة في العثور على بديل للقدرة الإنتاجية الهائلة والتكلفة المنخفضة نسبياً التي توفرهما الصين.
7) ما السبب في ذلك؟
لننظر إلى شركة مثل "أبل"، التي نقلت بعض مصانع تجميع "آيفون" إلى الهند. فهي تعتبر أن العمالة وبيئة الإنتاج في الصين لا يمكن استبدالهما فعلياً. إذ يوجد بالبلد مئات الموردين الصغار الذين يغذون مصانع التجميع الضخمة، ما يوفر لشركة "أبل" الحجم والمرونة اللذان يسمحان بالتجاوب مع الطلب.
خذ في اعتبارك أيضاً مقالة نشرتها صحيفة "فاينانشال تايمز" في الآونة الأخيرة توضح جهود الصين لتصبح قوة عظمى في الشحن عبر المحيطات، باستثمار 40 مليار دولار على الأقل ما بين 2016 و2021 على البنية التحتية للموانئ الساحلية وحدها. تملك الصين 76 محطة حاويات قادرة على خدمة السفن التي تنقل أكثر من 14 ألف حاوية 20 قدماً، فيما يملك المنافسون المحتملون في جنوب آسيا مجتمعين 31 محطة، وفقاً للبحث. لذا؛ فنقل التصنيع من الصين نهائياً يعني ارتفاع التكاليف على مستوردي البضائع.
غرّد بيتر تيرشويل، نائب رئيس مجلس الإدارة لشؤون الملاحة البحرية والتجارة بشركة "ستاندرد آند بورز غلوبال ماركت إنتليجنس" (S&P Global Market Intelligence)، على منصة "إكس"، (تويتر سابقاً): "لم تبنِ أي دولة بنية تحتية للموانئ قبيل الطلب كما فعلت الصين، ولذلك؛ ستتضمن عملية إعادة تخصيص الموارد زيادة في تكلفة النقل نتيجة لعدم الكفاءة النسبية لشبكات النقل في الدول الأخرى". بصيغة أخرى، سيكون لفك الارتباط مع الصين كلفة ستقع على عاتق الشركات، والمستهلكين في نهاية المطاف. يتوقع "صندوق النقد الدولي" أن ترتفع تكلفة الإنتاج العالمي نتيجة للانفصال الاقتصادي بنحو 7% في الأجل الطويل، وهو تقدير يأخذ في الحسبان الصدمات مثل "بريكست" وغزو روسيا لأوكرانيا.