بلومبرغ
تفوَّقت دول الشَّمال الأوروبي في أصعب اختبار للحكم في القرن الحادي والعشرين حتى الآن، فبحسب المنتدى الاقتصادي العالمي، نجح النموذج المجتمعي لمنطقة الشَّمال الأوروبي في أن يصبح أكثر النماذج "الواعدة" لرسم مسار مستدامٍ للخروج من أزمة كورونا بعد مرور ما يقرب من عام على بداية الوباء.
ووفقاً لما قاله بنك "إتش إس بي سي"، فإنَّ تفوق الشَّمَال الأوروبي يعود إلى شبكات الأمان الاجتماعي السَّخية، واتجاهات الرقمنة العالية.
ويتضح بالفعل أنَّ دولاً مثل الدنمارك، والنرويج، والسويد، وفنلندا عانت من انتكاسات اقتصادية أقل حدَّة من باقي منطقة اليورو، أو المملكة المتحدة خلال أزمة كورونا.
أخطاء لم تُفسد الصورة الكبرى
وبرغم ذلك، فإنَّ الأمر لا يخلو من الكثير من الملاحظات حول استراتيجيات دول الشَّمَال، في ظل استراتيجية السويد التي تفادت الإغلاق، بالرغم من معدَّل الوفيات المرتفع. وهو الأمر الذي أثار انتقادات للملك كارل السادس عشر غوستاف.
وبالنسبة للدنمارك، فقد خاضت الدولة معركة ضد تحوُّر فيروس كورونا التي بلغت ذروتها مع قرار فاشلٍ بإعدام حيوانات المِنك.
وبالرغم من هذه الأخطاء إلا أنَّ الصورة الكبرى لدول الشَّمال تعكس نمواً اقتصادياً حتى مع الجائحة. وبحسب ما أورده تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لشهر ديسمبر من العام الماضي، حول القدرة التنافسية العالمية، فإنَّ منطقة الشَّمَال الأوروبي تعدُّ الآن في أفضل وضع لتحقيق "نظام اقتصادي شامل، ومنتج، ومستدام".
وواقعياً، يُبرِز الوباء بشكل إيجابي نموذج دول الشَّمَال الأوروبي بعد فترة من الجدال حول مزاياه. بما في ذلك الاتهامات التي وجِّهت للمنطقة من مستشاري الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، في عام 2018، بأنَّها تثبت كيف "تقلل الاشتراكية من مستويات المعيشة"، وأنها تنتمي إلى فئة فنزويلا في التوجه الاشتراكي.
وتعتمد بلدان الشمال الصغيرة على التصدير والضرائب المرتفعة، التي يتمُّ تحويلها للإنفاق على القطاع العام، والكفاءة الاقتصادية، والإبداع التقني.
"الخزائن العامة العميقة، وشبكة الضمان الاجتماعي المُحْكَمة، والاعتماد الأكبر على القطاعات التي كانت قادرة على توجيه موظفيها للعمل من المنزل، والبيع عبر الإنترنت، ساعدت دول الشمال خلال أزمة كوفيد -19" يوهانا جينزسون (خبيرة اقتصادية)
ماذا يقول الاقتصاديون في بلومبرغ؟
ميزة انخفاض الديون
وتعدُّ ضرائب دول الشمال الأوروبي، التي هي من بين الأعلى في العالم، وسيلة يعدُّها نطاق واسع من الناخبين آلية ضرورية للحفاظ على مجتمع مستقر، مما يخلق بدوره قاعدة ضريبية ثابتة. ويعني ذلك أنَّ مستويات ديون دول الشمال تعدُّ من بين أدنى مستويات الديون في الاتحاد الأوروبي.
وفي الإطار نفسه، سمحت مستويات الدَّين المنخفضة للمنطقة التي تتصدَّر بانتظام تصنيفات السعادة العالمية، بدخولها الأزمة بميزانية غنية وقدرة أكثر على الإنفاق.
هذه الثروة تدعم المحاور الرئيسية لاقتصاد المنطقة. وقد أظهر تقرير صدر مؤخراً، أنَّ حالات الإفلاس العام الماضي احتفظت بالمستوى نفسه الذي كانت عليه في عام 2019 برغم الوباء.
كما كشف تقرير منفصل أنَّ أحد المؤشرات التي ترصد مدى ازدهار الصناعة التحويلية في أكبر اقتصاد في دول الشمال الأوربي، قد اختتم العام الماضي بنسب مرتفعة.
ويحتل الشمال الأوروبي، كذلك، مراتب عالية في المساواة بين الجنسين. وقالت يوهانا جينزسون من "بلومبرغ إيكونوميكس"، إنَّ حقيقة أنَّ المدارس ورياض الأطفال السويدية ظلَّت مفتوحة قد تساعد في تفسير سبب معدَّل البطالة الأقل بين النساء مقارنة بمعدَّل البطالة بين الرجال خلال ذروة الوباء، وذلك أيضاً مقارنة بمتوسط معدَّلات البطالة في الاتحاد الأوروبي.
أما في النرويج، فقد تراجعت الفجوة بين الجنسين من ناحية المشاركة في القوى العاملة خلال العام الحالي، بعد أن مدَّدت الحكومة وقت الإجازة المدفوعة لرعاية الأطفال الصغار.
ومن خلال نظرة فاحصة على أسباب تمتُّع دول الشَّمَال الأوروبي بوضعٍ جيدٍ يؤهلها للخروج من الأزمة بخسائر أقل من الدول الأخرى، نستعرض هنا بعضها:
*شبكة الأمان
تُقدِّم جميع دول الشَّمَال الأوروبي دعماً للرعاية الاجتماعية الشاملة، بما في ذلك الرعاية الصحية، وإعانات البطالة السَّخية.
ويُتَرجم ذلك إلى مخاوف أقل بشأن الوظائف، وخسارة الدَّخل مقارنة بأي دولة أخرى. مما يمهد الطريق لاستئناف النشاط الاقتصادي بشكلٍ أسرعٍ عند رفع القيود أخيراً، ذلك وفقاً للخبير الاقتصادي في بنك "إتش إس بي سي"، جيمس بوميروي.
ويضيف بوميروي، أنَّ هذه الدول: "تقدِّم مثالاً جيداً يؤكِّد بشكل أساسي أنَّ إعانات المواطنين خلال الوباء، تُعدُّ الطريقة الأفضل لتسيير الأمور".
وكان الدنماركيون والسويديون قد احتلوا صدارة دول الاتحاد الأوروبي المكوَّن من 27 دولة في تقييم وضعهم المالي في يوليو مقارنة بالأشهر الثلاثة السابقة، في حين جاء الفنلنديون في المرتبة السابعة، وفقاً لدراسة أجرتها وكالة "يوروفاوند" التابعة للاتحاد الأوروبي.
*اعتدال الإنفاق والديون
وأبقت تجارب المنطقة مع الأزمات المصرفية في التسعينيات، التي أعقبتها الأزمة المالية العالمية في عام 2008، دول الشَّمال على حذرٍ من تحمُّل أعباء الديون العامة، وهي السياسة التي جعلت هذه الحكومات تتمتَّع الآن بمساحة لإنفاق المزيد لدعم الاقتصادات خلال حالة الطوارئ الحالية.
وتحظى النرويج، صاحبة أكبر صندوق للثروة السيادية في العالم، بمكانةٍ خاصة في شمال أوروبا، عندما يتعلَّق الأمر بالحرية المالية.
وتبلغ ديون السويد والدنمارك ما يقرب من 40% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين تمثِّل ديون فنلندا النسبة الأعلى في المنطقة، إذ تقترب من 70%، ولا يزال هذا أقل من نصف الديون في إيطاليا، وما يقابله في الاتحاد الأوروبي من متوسط ديون بواقع 90% تقريباً.
وصرَّح بنك "ريكسبانك" –المركزي السويدي- في نوفمبر الماضي أنَّ الموارد المالية العامة القوية التي تتمتَّع بها السويد سمحت لها بتنفيذ سياسة مالية توسُّعية مصحوبة بإصلاحات هيكلية، مدرجاً الاستثمارات في رأس المال البشري، والبنية التحتية بالإضافة إلى الإصلاح الضريبي "على نطاق واسع" من بين الخيارات المتاحة.
وفي الدنمارك، يقول محافظ البنك المركزي، لارس رود، إنَّ "الموقف المبدئي، مع انخفاض الدين العام، وأوضاع الأسر، والشركات المالية المعقولة، يعني أنَّه يمكننا اجتياز الأزمة بشكل أفضل".
*الرقمنة
عندما أجبر الوباء العالم على اعتماد تدابير التباعد الاجتماعي والعمل عن بُعد والتعليم الرقمي، لم يكن هناك الكثير من المناطق على استعداد للتكيُّف بشكلٍ جيدٍ مثل دول الشمال الأوروبي، فقد أتت سنوات من الاستثمار في التكنولوجيا، والاتصال، وتدريس المهارات الرقمية بثمارها.
وسجَّلت فنلندا والسويد انخفاضاً أقل في عدد ساعات العمل في الاتحاد الأوروبي خلال الربع الثاني مقارنة بالأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2019، وذلك بنسبة أقل من 5%، وفقاً لبيانات "يوروستات ".
في حين سجَّلت النرويج، التي ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي، المستوى المماثل أيضاً، كما شغلت الدنمارك المركز السادس في الكتلة الأوروبية.
وقال بوميروي من بنك "إتش إس بي سي"، إنَّ "المناطق الأكثر معاناة من الوباء في العالم هي تلك التي لم تكن قادرة على تحقيق التحول الرقمي بضغطة زر".
وتابع: "إذا كان لديك شعبٌ يتمتَّع بذكاءٍ رقمي كبير، فإنَّ ذلك يؤهلك بشكلٍ جيد للغاية للمضي قدماً من ناحية الإنتاجية".