بلومبرغ
تُوِّج تشارلز الثالث ملكاً بعد انتظار دام سبعة عقود لهذه اللحظة التاريخية، في تقليد احتفالي تتشبث به العائلة الملكية البريطانية منذ العصور الوسطى، ويسعى هو للحفاظ عليه في العصر الحالي الذي يشهد تغيرات تكنولوجية واجتماعية هائلة.
"تشارلز"، الذي أصبح ملكاً بحكم القانون بعد وفاة الملكة إليزابيث الثانية في سبتمبر، تسلّم رسمياً تاج سانت إدوارد في مراسم دينية دُهن فيها بالزيت المقدس خلف ستار. وفي وقت سابق، قال في أول تصريحات علنية له أثناء التتويج إنَّه جاء "لا ليُخدَم، وإنما ليخْدِم".
أظهر الحفل ما تتمتع به المملكة المتحدة دائماً من قوة ناعمة، إذ حضره نحو 2000 من كبار الشخصيات والزعماء الروحيين والمشاهير، فيما تجمع الآلاف في شوارع لندن لمتابعة ذلك الحدث، الذي قد لا يأتي إلا مرة في العمر، والذي تابعه الملايين من جميع أنحاء العالم على شاشات التلفزيون.
غادر الملك في وقت سابق قصر بكنغهام بصحبة الملكة كاميلا في عربة ملكية صُنعت من خشب البلوط من سفينة الأميرال هوراشيو نيلسون، "إتش إم إس فيكتوري" (HMS Victory)، بمناسبة اليوبيل الماسي للملكة إليزابيث. لوّح الزوجان الملكيان للجماهير المصطفة في شوارع لندن وسط أجواء غائمة وأمطار خفيفة.
"لحظة فخار وطني"
يمثل الحفل نقطة تحول بالنسبة للمملكة المتحدة بينما تتكيف مع الحياة من دون إليزابيث، التي نجحت إلى حد بعيد في الحفاظ على الدعم الشعبي خلال فترة حكمها القياسية. صُمم الحدث بعناية ليشكل بداية جديدة للنظام الملكي، في وقت تواصل فيه بريطانيا صراعها مع أزمة تكلفة المعيشة المرتفعة والتداعيات المستمرة لـخروجها من الاتحاد الأوروبي وجائحة كورونا والحرب الروسية في أوكرانيا.
تميّز التتويج بقائمة ضيوف مبسطة وطريق مختصرة للموكب مقارنة بحفل تتويج الملكة إليزابيث في 1953. ومع ذلك؛ استمر وجود العديد من التقاليد والأدوات، من الفرق العسكرية والخيالة إلى كرسي التتويج الخشبي الذي يعود إلى 700 عام، فضلاً عن الملعقة القديمة التي كانت تستخدم لدهن الملك بالزيت المقدس، وهو الجزء الوحيد من الحفل المحجوب عن الأنظار. شهد الحفل أيضاً تتويج كاميلا، التي كانت ذات يوم شخصية لا تحظى بشعبية كبيرة لدورها في انفصام عرى زواج تشارلز الأول من الأميرة ديانا.
وصف رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك التتويج بأنَّه "لحظة فخار وطني غير عادي" تحتفل بها دول الكومنولث وخارجها.
وقال "سوناك" في بيان: "هذا ليس مجرد حفل.. إنَّه تعبير ينضح بالفخر عن تاريخنا وثقافتنا وتقاليدنا، وإظهار حي للطابع الحديث لبلدنا، وتقليد عزيز على النفس يؤذن بحقبة جديدة". تلا أول رئيس وزراء هندوسي لبريطانيا آيات من الكتاب المقدس ضمن الفعاليات.
قاد مراسم التتويج رئيس أساقفة كانتربري جوستين ويلبي، الزعيم الروحي لكنيسة إنجلترا. وأفاد قصر بكنغام بأنَّها تهدف لأن "تعكس دور الملك حالياً ومستقبلاً"، بينما "تتمسك بالتقاليد القديمة وما تتسم به من فخامة وأبهة".
روسيا غائبة
من بين الضيوف سوناك، وزعيم حزب العمال المعارض كير ستارمر، بالإضافة إلى رؤساء الوزراء السابقين جون ميجور، وتوني بلير، وغوردون براون، وديفيد كاميرون، وتيريزا ماي، وبوريس جونسون، وليز ترَس.
مثّلت الولايات المتحدة السيدة الأولى جيل بايدن، في حين كان من بين المدعوين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، ونائب الرئيس الصيني هان تشنغ. ولم تتلق روسيا دعوة بسبب حربها في أوكرانيا.
كما شارك في الحفل أعضاء من العائلة الملكية على رأسهم الأمير وليام، ولي العهد، وكذلك نجله جورج، التالي في ترتيب ولاية العرش. حضر الأمير هاري أيضاً برغم الخلاف العلني مع عائلته، لكنَّ زوجته ميغان لم تحضر. وكان مشاهير، من بينهم كينيث براناغ ونيك كيف وكاتي بيري وليونيل ريتشي وماغي سميث وإيما طومسون قد انتقلوا في وقت سابق إلى الكنيسة القوطية إلى جانب رؤساء الدول والضيوف الآخرين.
جاء التتويج بعد فترة من الاضطرابات السياسية والاقتصادية في المملكة المتحدة التي توالى عليها خمسة رؤساء وزراء منذ قرارها المزلزل بمغادرة الاتحاد الأوروبي في 2016، ومن بينهم ثلاثة العام الماضي فقط. ومن المحتمل إجراء انتخابات العام المقبل بعد 13 عاماً هيمنت عليها حكومات حزب المحافظين التي أشرفت على التعافي من الأزمة المالية، والاستفتاء على استقلال اسكتلندا، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وجائحة كوفيد-19.
تبلغ نسبة التأييد للإبقاء على النظام الملكي 62%، وفقاً لاستطلاع أجرته مؤسسة "يوغوف" على 2030 مواطناً بريطانياً نُشر هذا الأسبوع. أما البريطانيون الأصغر سناً؛ فمن المرجح أنَّهم يريدون رئيس دولة منتخباً، إذ لم تتجاوز نسبة من يريدون الحفاظ على النظام الملكي ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً 36%.
رابطة الكومنولث
الملك هو أيضاً رئيس الدولة في 14 من دول الكومنولث حول العالم، برغم أنَّ استطلاعاً أجراه خبير استطلاعات الرأي مايكل أشكروفت أظهر أنَّه في ست من تلك الدول، كان عدد من قال إنَّهم سيختارون أن تتحول بلادهم إلى جمهورية أكثر ممن دعموا النظام الملكي إذا ما أُجري أي استفتاء.
شددت السلطات البريطانية إجراءات الأمن في مراسم التتويج وفعالياته وسط احتمال تنظيم دعاة الجمهورية ونشطاء المناخ احتجاجات. ونشرت شرطة العاصمة في لندن أكثر من 11500 فرد فيما وصفت الحدث بأنَّه أكبر تعبئة ليوم واحد منذ عقود. وقالت الشرطة إنَّها استخدمت تقنية التعرف على الوجوه لرصد المجرمين وسط الحشود- وهي خطوة وصفتها مجموعة "بيغ براذر ووتش"(Big Brother Watch) للحريات المدنية بأنَّها قمعية، وتتنافى مع قيم المجتمع الحر.
وقبل الحفل، ألقت الشرطة القبض على متظاهرين مناهضين للنظام الملكي بمن فيهم زعيم حركة "جمهورية" غراهام سميث في سانت مارتن لين بالقرب من ساحة ميدان ترفلغار، بحسب ما ذكرت وكالة "برس أسوسييشن" البريطانية. وأكدت شرطة العاصمة أنَّها اعتقلت أربعة أشخاص في المنطقة للاشتباه في تآمرهم لتكدير السلم العام.
ومع ذلك؛ حاول القصر الخروج بحدث تقف خلفه الدولة بأكملها، فأكد على رغبة الملك في احتضان التنوع وإبراز صورة حديثة للملكية. وتجلى هذا التنوع في مشاركة زعماء دينيين يمثلون المسلمين واليهود والهندوس والسيخ والبوذيين، ودعوة شخصيات تلفزيونية ونجوم رياضيين.
مبايعة الملك
وفي خطوة متأخرة، غيّرت كنيسة إنجلترا صياغة دعوتها للجمهور لمبايعة الملك تشارلز بعد ردود الفعل الشعبية السلبية، إذ سيتيح رئيس أساقفة كانتربري للناس خيار قول "حفظ الله الملك تشارلز" فقط بدلاً من قول تعهد الولاء بالكامل، الذي يقول: "أقسم أنني أقدّم الولاء الحقيقي لجلالتك ولورثتك وخلفائك وفقاً للقانون. ساعدني يا الله".
مُنح نحو 4000 عامل في دائرة الصحة الوطنية البريطانية وقدامى المحاربين مقاعد أمام شاشة لعرض المراسم عند قصر بكنغهام. ومن المتوقَّع أن يزور عشرات الآلاف لندن، وفقاً للحكومة، فيما أُقيمت آلاف الحفلات في الشوارع في جميع أنحاء البلاد. وستقام حفلة موسيقية في قلعة وندسور غداً الأحد.
في الصباح، سار "موكب الملك" في شارع بال مول باتجاه ساحة ميدان ترفلغار، ليقطع بعدها طريق وايت هول، مروراً بقصر وستمنستر، قبل الوصول إلى الكنيسة. وشهدت مراسم التتويج التي استغرقت ساعتين وضع الملك تاج سانت إدوارد على رأسه، والذي صُنع لتتويج الملك تشارلز الثاني عام 1661، ويزن أكثر من كيلوغرامين (4.4 رطل) ويضم 444 حجراً كريماً وشبه كريم.
ثم جلس تشارلز على كرسي التتويج الذي صُنع قبل 700 عام، الذي يضم حجر القدر أو حجر "سكون"- وهو رمز قديم للملكية في اسكتلندا، والذي استُخدم في التتويج لعدة قرون. وكان قد أُعيد رسمياً إلى اسكتلندا عام 1996، قبل نقله مرة أخرى إلى لندن بمناسبة حفل اليوم.
مراسم عتيقة
دهن "ويلبي" الملك بالزيت المقدس بعيداً عن الكاميرات باستخدام ملعقة فضية مذهبة تعود إلى القرن الثاني عشر، وهي أقدم مكوّن استُخدم في الحفل. وأثناء جلوسه على كرسي التتويج، كان تشارلز الثالث يرتدي ثياباً كهنوتية، ويتسلّم شعارات ملكية؛ منها رماح وسيف وصولجان وصليب.
وبعد مراسم التتويج استقل الملك العربة الملكية الذهبية، وهي عربة أيقونية صُنعت عام 1762 واستُخدمت في جميع مراسم التتويج منذ 1831، وذلك خلال "موكب التتويج" الذي استمر 30 دقيقة في طريق عودته إلى قصر بكنغهام. ومن المقرر بعد ذلك أن تظهر العائلة المالكة في شرفة القصر لاختتام فعاليات اليوم. وإذا سمحت الأحوال الجوية، فسيكون هناك عرض جوي يشارك فيه أفراد من سلاح الجو الملكي وفريق الاستعراضات الجوية بالسلاح والمعروف باسم "السهام الحمر".