بلومبرغ
ازدحم مكتب مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان بالجناح الغربي صباح 26 فبراير 2022 بموظفين لم يناموا ليلتهم وهم يرتدون الجينز والقمصان ويمسكون بالقهوة أو البيتزا الباردة، ينتظرون أن ينضم إليهم الرئيس، جو بايدن على خط آمن، حيث كانت روسيا قد غزت أوكرانيا قبل يومين. كان السؤال المُلح يومها: هو كيف يتم وقف الحرب؟.
سبق ذلك بأسابيع تحذيرات أميركية من غزو قريب، واستعد فريق "سوليفان" بخطة أخفوها جيداً عن المخابرات الروسية، تضمنت تجميد نحو 300 مليار دولار من أصول البنك المركزي الروسي في الخارج، حيث رأى واضعو الخطة أنَّ من شأنها أن تحدث صدمة ورعباً كافيين لإيقاف حرب الرئيس، فلاديمير بوتين، أو على الأقل، إعاقة قدرته بشكل كبير على مواصلة الحرب.
في الساعة 5 مساءً السبت بتوقيت واشنطن، أعلنوا الخطة، التي حملت في حينها تأثيراً اقتصادياً يُعادل الآثار التدميرية للسلاح النووي. وخلال الأيام التالية، تراجعت العملة الروسية، وارتفعت الأسعار، واصطف الناس أمام البنوك لسحب أكبر قدر من النقود، وأثارت التداعيات قلق بعض مساعدي "بايدن" الذين ظنوا أنَّ الإجراء كان أقوى من اللازم، إذ لم يرغبوا في تدمير الاقتصاد الروسي بالكامل خوفاً من انتشار الضرر إلى أوروبا وخارجها.
حرب استنزاف اقتصادية
عقب مرور عام، بدا من الواضح أنَّ العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على روسيا لم تكن بتلك القوة، وإن تسببت بالفعل في إلحاق الضرر بروسيا، لكنَّها لم تُجبر "بوتين" على وقف الحرب، مما يثير تساؤلات أوسع حول الأداة التي أصبحت رئيسية بشكل متزايد في السياسة الخارجية الأميركية.
يقول نيكولاس مولدر، الأستاذ بجامعة كورنيل، الذي ألف كتاباً عن العقوبات باعتبارها أحد الأسلحة السياسية: "إذا كانت العقوبات مجتمعة أقوى من التوقُّعات، فالهدف استحق ذلك وقتها".
انكمش الاقتصاد الروسي بأقل كثيراً من توقُّعات تباطؤه بنسبة مئوية من رقمين، على أن يعود إلى النمو هذا العام، وبينما خسرت روسيا أسواقاً رئيسية لصادراتها وموردين لسلع استراتيجية، لكنَّها استكشفت أسواقاً جديدة.
اقرأ أيضاً: الاقتصاد الروسي ينكمش بأقل من المتوقع متراجعاً 2.1% العام الماضي
يرى "مولدر" أنَّ المدافعين عن العقوبات عادوا لخفض سقف طموحاتهم اليوم، إذ قال: "تخلوا عن توقُّع تغيير العقوبات لصناعة القرار في روسيا، وتحولوا إلى اعتبارها حرب استنزاف اقتصادية".
مبالغة في التوقعات
تواصل الولايات المتحدة التوسع في حملتها، فقد أعلنت وزارة الخزانة في وقت مبكر أمس الجمعة عقوبات جديدة على البنوك، أحدها لديه فرع في الإمارات، في إشارة إلى تعرض شركاء روسيا التجاريين لمزيد من الضغوط، بالإضافة لقطاعات الطاقة والتكنولوجيا، فقد أعلن البيت الأبيض فرض تعريفات جمركية على أكثر من 100 من المعادن والمنتجات الكيماوية الروسية.
اقرأ أيضاً: الإمارات تدرس وضع بنك "إم تي إس" الروسي بعد العقوبات الأميركية
يبقى التساؤل قائماً بشأن كيفية تطابق الجدول الزمني لذلك الاستنزاف الاقتصادي مع تطورات الحرب الفعلية، في الوقت الذي تتقدّم فيه القوات الروسية، وإن كان ببطء، في شرق أوكرانيا.
تقول إلينا ريباكوفا، نائبة كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي: "ما تزال أنباء تدمير الاقتصاد الروسي مبالغاً فيها، ولن نصل بتلك الوتيرة إلى الأهداف المرجوة بالسرعة الكافية".
لم تنجح العقوبات طويلة المدى التي فُرضت على دول مثل كوبا أو فنزويلا في دفع الخصوم إلى تغيير سياساتهم، وإن جعلتهم أضعف، بينما يزداد الأمر صعوبة في حالة اقتصاد كبير مثل روسيا، التي تتمتع بخبراء تكنوقراط، وأصدقاء أقوياء، فضلاً عن كثير من السلع التي يريدها العالم.
اقتصاد مرن وحلفاء داعمون
في ظل هيمنة روسيا على موارد طبيعية حيوية، كان يتعين على منفّذي العقوبات التحرك بحذر لتجنّب انعكاس التداعيات عليهم، فقد كان النفط مثالاً على أحد تداعيات العقوبات المبكرة. واليوم، يخوضون معركة لإقناع دول عدم الانحياز أن تضحي بالتجارة التي تعزز نمو اقتصاداتها.
عززت العلاقات الدبلوماسية الروسية العميقة مرونة اقتصادها، حيث تدخلت الهند، حليف موسكو القديم، بالشراء مع تراجع مبيعات النفط إلى أوروبا. ومع انحسار مبيعات أشباه الموصلات من التحالف بقيادة أميركية؛ زادت روسيا وارداتها من الصين وهونغ كونغ.
شركة هندية تواجه مشكلات سداد مقابل النفط الروسي بسبب سقف الأسعار
الضغط على الدول المحايدة
تستند حسابات عقوبات العام الماضي بشكل كبير على بيانات قادمة من واشنطن، حيث المقر الرئيسي للتحالف الذي يشن حرباً اقتصادية على روسيا، تعتمد على مقابلات مع مسؤولين حكوميين حاليين وسابقين، بالإضافة لخبراء ماليين ومستشارين قانونيين وخبراء أجانب.
يقول المسؤولون الأميركيون إنَّ العقوبات تؤثر في قدرة روسيا على إعادة تشكيل قدراتها العسكرية، وإنَّهم وضعوا خطوطاً عريضة لخطط يُمكنها تشديد الخناق في العام الثاني عن طريق الضغط على الدول التي تحاول الاحتفاظ بعلاقتها مع المعسكرين، وسط اقتصاد عالمي تتزايد فيه حالة الاستقطاب، حيث تسعى تلك الدول إلى التعاون التجاري مع روسيا وخصومها في الوقت نفسه، كما أشاروا إلى تدهور الوضع الاقتصادي الروسي على المسرح العالمي.
قال نائب وزير الخزانة، والي أدييمو أثناء تصريحات علنية في واشنطن هذا الأسبوع: "الاقتصاد الروسي اليوم ليس كما كان قبل الغزو".
عقد اجتماعي مُلزم
تتوقَّع "بلومبرغ إيكونوميكس" انكماش الاقتصاد الروسي بنسبة 8%، أو 190 مليار دولار، مقارنةً بما كان يجب أن يكون عليه بحلول 2026، بسبب الحرب والعقوبات.
اقرأ أيضاً: روسيا تتخطى سنة من العقوبات القاسية بفضل استثمار الشركات
يُبدي من كانوا في غرفة "سوليفان" ذلك اليوم قناعتهم بأنَّ العقوبات ألحقت ضرراً اقتصادياً كافياً بنهاية الأمر يُمكنه إجبار بوتين على وقف الحرب من أجل البقاء في السلطة.
يقول داليب سينغ، النائب السابق لمستشار الأمن القومي، وأحد المهندسين الرئيسيين لعقوبات البنك المركزي: "نراهن على الرأي بأنَّه حتى الحاكم المستبد، مثل بوتين يلتزم بعقد اجتماعي مع الشعب، وإذا تسببت كل قراراته في عدم الاستقرار وانعدام الأمن فلن يكون من مصلحته في النهاية مواصلة الفشل".
استهداف الشركات مباشرةً
مع بداية الأحداث، عندما كان "سوليفان" وفريقه يصيغون خطة الصدمة والرعب، كانت هناك مخاوف من قرب سقوط كييف، لكنَّ القوات الأوكرانية أحرزت انتصارات مبكرة، وكثفت الولايات المتحدة وحلفاؤها العقوبات ضد الروس وبعض الشركات والقطاعات.
سارع الرؤساء التنفيذيون لشركات قائمة أكبر 500 شركة في العالم، الصادرة عن مجلة "فورشن" (Fortune) الاتصال بالبيت الأبيض، وأبدوا قلقهم بشأن ما إذا كان يتعين عليهم مغادرة روسيا.
حملت ما يُسمى عقوبات الشركات الذاتية ضد روسيا مفاجأة، التي تتجاوز على الأغلب العقوبات التي تفرضها الحكومة، وتؤدي في النهاية إلى قطع آلاف الشركات علاقاتها مع روسيا.
تراجع بسبب التضخم
تسبب الأمر في مشاكل لفريق بايدن. الذي شجع على استحياء شركات الشحن على نقل مزيد من الأسمدة الروسية في يونيو على سبيل المثال، بعدما ضرب ارتفاع أسعار الغذاء عالمياً الدول الفقيرة بشكل خاص، مما أرجعه بوتين إلى العقوبات.
وظل التساؤل الأكبر والأكثر تعقيداً بشأن ما يجب فعله بشأن الطاقة الروسية، وهو ما تصدر القضايا التي ناقشتها قمة مجموعة الدول السبع خلال يونيو الماضي في شلوس إلماو، بجبال الألب البافارية، حيث فرض الاتحاد الأوروبي مؤخراً حظراً بشأن التأمين على النفط الروسي المنقول بحراً، ليسري في وقت لاحق من العام الجاري، مع اتخاذ إجراءات مماثلة ضد المنتجات المكررة.
مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي يدرسان آليات لتتبع تجارة الألماس الروسي
من جديد، شعر مستشارو بايدن بالقلق من عدم تحقق الأهداف المرجوة، إذ توقَّعوا توقف صادرات النفط الروسية بسبب الحظر، وتسبُّب ذلك في رفع سعر خام برنت بشكل كبير، وإلى ارتفاع التضخم بكل أنحاء العالم، وليس في الولايات المتحدة فقط، بينما يستعد الأميركيون لقضاء الإجازات الصيفية، قبل عدة أشهر فقط من انتخابات التجديد النصفي.
"كوفيد سقف السعر"
بدأ مسؤولون أميركيون بنشر تقرير بحثي لبنك "باركليز" يتوقَّع ارتفاع النفط بحده الأقصى إلى 200 دولار للبرميل، بينما اعتمدت الخطة الأميركية على استمرار تدفق النفط الروسي مع الحد من عائدات موسكو عن طريق وضع سقف لسعر البرميل.
أكد بايدن في الغرف المغلقة خلال اجتماعات "شلوس" على مخاطر تطبيق تدابير أكثر صرامة، بينما كانت وزيرة الخزانة، جانيت يلين تتواصل بالهاتف من واشنطن، وسرعان ما تحرك العديد من مسؤولي الإدارة للسفر حول العالم والترويج لمدى صعوبة تجنّب التعرض لما يشبه فيروس كورونا، الأمر الذي أطلق عليه موظفو الخزانة اسم "كوفيد سقف السعر".
اقرأ أيضاً: الخزانة الأميركية تصدر توجيهات بشأن تطبيق الحد الأقصى لسعر النفط الروسي
برغم تشكيك اللاعبين بالسوق في نجاح الخطة؛ لكنَّها دخلت حيز التنفيذ مطلع ديسمبر، وحددت سقفاً يبلغ 60 دولاراً للبرميل، وسط مؤشرات مبكرة على تراجع الإيرادات الروسية، إذ سجلت الميزانية الفيدرالية عجزاً كبيراً في ديسمبر ويناير، لكنَّ بعض المحللين يرى أنَّ ذلك السقف لم يُختبر بعد لأنَّ مؤشرات أسعار النفط العالمية لم تكن مرتفعة بالقدر الكافي وقتها.
الضغط على الشركات الصينية
الخطوة التالية للمعسكر الذي تقوده الولايات المتحدة هي الضغط على مزيد من الدول التي لم تنضم لحملة العقوبات بهدف تقليص علاقاتها الاقتصادية مع روسيا، التي سوف تشمل حلفاء الولايات المتحدة، حيث زار مسؤولو وزارة الخزانة في الأسابيع الأخيرة تركيا والإمارات، وكذلك الخصوم أيضاً، وخاصةً الصين، وسط توقُّعات بإجراء محادثات صعبة.
مسؤول أميركي يزور تركيا والإمارات وسط مساعٍ لمحاصرة الأصول الروسية
من المتوقَّع التركيز على الشركات بشكل منفرد، وخاصة تلك التي تتعامل مع الولايات المتحدة. وتستشهد في ذلك الصدد مساعدة وزير الخزانة، إليزابيث روزنبرغ بالمحادثات "المعقدة" التي أجرتها من قبل مع شركات صينية بشأن الامتثال للعقوبات الأميركية على إيران.
تقول "روزنبرغ": "عندما يكون الزعيم السياسي حريصاً على عدم اتخاذ موقف سياسي يجب محاولة العثور على ما يبدو موقفاً سياسياً محايداً أو متوازناً، ولن يؤثر في ذلك قرار بنك أو شركة، لكنَّ الخيار للشركات الخاصة في تلك الأمور القضائية أكثر وضوحاً، وأحد أهداف حملتنا المساعدة في الاختيار".
يقول المسؤولون الأميركيون إنَّ روسيا تعتمد بشكل متزايد على الصين في تلبية احتياجاتها التكنولوجيا لمواصلة الحرب في أوكرانيا، ويرون أنَّ هناك فرصة لإشعال خلاف بين الدولتين اللتين اشتهرتا بإعلان قيادتهما صداقة "بلا حدود" قبل وقت قصير من غزو روسيا لأوكرانيا، لكنَّ الأمر يبدو صعباً للغاية.
"معنا أو ضدنا"
يمنع العداء المتزايد في واشنطن ضد الصين تقديم إدارة بايدن إغراءات للمنافس الجيوسياسي الرئيسي، بالإضافة إلى خضوع الصين نفسها لعقوبات اقتصادية أميركية، ومنها القيود الأخيرة على صادرات أشباه الموصلات، وفي حالة غزو تايوان؛ قد تتعرض مثل روسيا لعقوبات أكثر صرامة.
اقرأ أيضاً: الخزانة الأميركية تحذر الشركات الصينية بشأن إمداداتها التقنية لروسيا
يقول دانييل تانيباوم، مسؤول الخزانة السابق، الذي يعمل حالياً في مساعدة الشركات على كيفية التعامل مع العقوبات، إنَّ هدوء الأوضاع على الجزيرة في الأشهر الأخيرة لم يمنع الشركات من تنفيذ عمليات محاكاة للوقوف على ما يتعين عليها القيام به عند وقوع ذلك السيناريو، وتوصلوا إلى استنتاجات متباينة بشأن مخاطر البقاء، ولكن بشكل عام "لا يمكن لأحد الابتعاد عن الصين بشكل جماعي، لأنَّها لاعب مهم للغاية في السوق".
يشير ذلك إلى خطر أوسع نطاقاً بسبب استراتيجية الولايات المتحدة "معنا أو ضدنا"، ولم تؤثر أهداف العقوبات السابقة على قادة تحالف اقتصادي منافس مثل الروسي الصيني بشكل كافٍ، وبدلاً من نجاح الإجراءات في إعادة الدول للنظام القائم على قواعد واشنطن؛ فإنَّها قد تؤدي في النهاية إلى تشجيع تلك الدول على صياغة قواعد خاصة بها.
اتساع مستمر لقائمة المعاقبين
تقول أغاث ديمارايس، المسؤولة السابقة في وزارة الخزانة الفرنسية، إنَّ الولايات المتحدة فقدت تدريجياً نفوذها في ظل تزايد قائمة الدول الخاضعة للعقوبات، فدول مثل إيران وكوبا وسوريا وميانمار وكوريا الشمالية وفنزويلا، والآن روسيا والصين أيضاً، باقتصاداتها الكبيرة وشبكاتها التجارية العالمية المتشعبة "توصلت لافتراض أنَّ العقوبات مستمرة إلى الأبد"، وأنَّه "من الأفضل لهم التكيف مع العقوبات، وإعادة توجيه تجارتهم إلى بلدان أخرى، بدلاً من بذل الجهود لمحاولة رفع العقوبات".
في أوكرانيا، يُمكن للولايات المتحدة بالإضافة إلى حلفائها دعم قوات كييف بطرق متعددة، وفي صدارتها الدعم العسكري والاستخباراتي الهائل.
يقول "سينغ"، المسؤول السابق في البيت الأبيض، إنَّ العقوبات الاقتصادية ليست سوى جزء من تلك الاستراتيجية التي تهدف إلى "تحسين وضع أوكرانيا".
برغم ذلك؛ فإنَّه في ظل نظام عالمي سريع التغير تتصاعد فيه المنافسة بين القوى العظمى مع الولايات المتحدة لأول مرة منذ عقود، يقول "مولدر"، المؤرخ بجامعة كورنيل، إنَّ الوقت قد حان لاستدعاء التوقُّعات التي يُمكن تحقيقها بفضل تلك الاستراتيجية.
يضيف "مولدر": "العقوبات في النهاية عرض جانبي في تقرير نتائج تلك الحرب".