باكستان على حافة الهاوية.. من يتحمل التكلفة؟

الدولة تسعى للحصول على حزمة إنقاذ من صندوق النقد الدولي للمرة العشرين

time reading iconدقائق القراءة - 27
ملايين الأشخاص في جميع أنحاء المدن الباكستانية الرئيسية تعرضوا لانقطاع التيار الكهربائي بسبب توقف شبكة الكهرباء خلال يناير  - المصدر: بلومبرغ
ملايين الأشخاص في جميع أنحاء المدن الباكستانية الرئيسية تعرضوا لانقطاع التيار الكهربائي بسبب توقف شبكة الكهرباء خلال يناير - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

تشهد باكستان تطورات مثيرة حيث تُدهس الناس أثناء محاولة شراء المواد الغذائية المدعومة مع ارتفاع التضخم إلى أعلى مستوى في 48 عاماً، وتغرق البلاد في الظلام الدامس بسبب انقطاع التيار الكهربائي، بالإضافة إلى إطلاق الرصاص على رئيس وزراء سابق في الشوارع.

تترنح باكستان على الهاوية، إذ تجعلها الأزمات المالية والإنسانية والسياسية التي تعصف بها على الحافة.

في ظل انخفاض الاحتياطيات الدولية، التي تغطي تكلفة الواردات لمدة ثلاثة أسابيع، تواجه باكستان أسوأ انهيار اقتصادي منذ عقود - وهو تكرار لما حدث في سريلانكا وغانا- لكنَّ الأمر يحدث في دولة مسلحة نووياً، ومن أكبر دول العالم من حيث عدد السكان.

تسعى الدولة الواقعة في جنوب آسيا للحصول على حزمة إنقاذ مالي من صندوق النقد الدولي مجدداً، وهو ما فعلته أكثر من 20 مرة.

لكنَّ مأزقها أخطر بكثير هذه المرة، بعد أن أثرت الفيضانات التي أسفرت عن وقوع قتلى، على ملايين الأفراد العام الماضي، وأدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى ارتفاع أسعار الطاقة، وتراكمت السحب القاتمة على الاقتصاد العالمي.

قد تكون باكستان أيضاً نذيراً لحدوث انهيار اقتصادي مماثل في بلدان أخرى مثقلة بالديون. فمشاكلها تعيد إشعال نقاش متوتر باستمرار حول الكيفية التي يجب أن تواجه بها بقية دول العالم، ومن يجب أن يتحمّل التكلفة.

الفقراء يتحملون العبء الأكبر للتضخم

الصين، أكبر دولة تقدم قروضاً سيادية إلى باكستان، تخوض نزاعات مع بنوك متعددة الأطراف بشأن الأطراف التي ينبغي أن تتولى زمام المبادرة في إعادة هيكلة الديون السيادية.

قال أميتاب كانط، ممثل الهند لدى مجموعة العشرين، التي تساعد في التوسط بشأن إعادة هيكلة الديون السيادية: "على الجميع تحمّل نصيبه من الخسائر ... لا يمكن أن يقوم صندوق النقد الدولي بتحمّل الخسائر ويتوجه لتسوية الديون الصينية".

من كراتشي إلى لاهور، يتحمل الفقراء العبء الأكبر بعدما ارتفعت أسعار كل السلع. صعد سعر حليب الأطفال بنسبة 15% في شهر.

تتكدس الآلاف من حاويات المواد الغذائية في الموانئ بعدما فرضت الحكومة قيوداً على الواردات للحفاظ على آخر 3 مليارات دولار من العملات الأجنبية. تعرض رجل للموت دهساً في إقليم السند الواقع جنوب شرق البلاد الشهر الماضي بعد أن هرع حشد من الناس نحو مسؤولين يقومون بتوزيع الدقيق المدعوم.

قال عبد الرحمن، البالغ من العمر 50 عاماً، إنَّ الوضع أصبح مستحيلاً بالنسبة إلى عائلته المكونة من أربعة أفراد. يستهلك ملء خزان دراجتهم البخارية مرة واحدة نحو سدس راتبه الشهري البالغ 18 ألف روبية (حوالي 70 دولاراً)، الذي يكسبه عن طريق تقطيع الخضار في مطبخ يوفر الطعام لحفلات الزفاف.

"كيف نذهب للعمل في ظل أسعار الوقود الحالية؟" هكذا تساءل خارج محطة وقود في كراتشي، العاصمة التجارية التي تعج بالنشاط على ساحل بحر العرب، ومضى قائلاً : "لم أشهد مثل هذا الوقت العصيب من قبل".

الفيضانات تفاقم أوجاع باكستان

يمثل الوقود قضية حساسة على وجه التحديد. في عام 2022، قام نجم الكريكيت السابق عمران خان، رئيس الوزراء آنذاك، بتخفيض أسعار الديزل والبنزين وتجميدها. ساعدت تلك البادرة ذات الطابع الشعبوي على إرساء الأساس للأزمة الحالية.

يضاف الاضطراب السياسي والإرهاب إلى قائمة المشاكل التي تواجه البلاد. تواصل باكستان تغيير وزير ماليتها، وتثير هجمات المسلحين في الآونة الأخيرة مخاوف المستثمرين الذين يخشون من ترسخ التطرف مرة أخرى.

يضاف إلى هذا المزيج، حكومة منشغلة بصراع لا نهاية له مع رئيس الوزراء المخلوع خان والجيش الذي يتمتع بنفوذ كبير على الوضع السياسي في البلاد.

عمران خان، الذي أصيب برصاصة في ساقه أثناء قيادته مسيرة احتجاجية في نوفمبر 2022، يدفع باتجاه إجراء انتخابات عامة جديدة - في حين لا يستطيع الكثيرون من الباكستانيين شراء الخبز.

ما يزيد الأمور سوءاً، أنَّ باكستان تعرضت لكارثة مناخية. غمرت الفيضانات الصيف الماضي حوالي ثلث البلاد، مما أسفر عن مقتل أكثر من 1700 شخص، وتشريد الملايين، وخفض النمو الاقتصادي بمقدار النصف.

في الشهر الماضي، أدى انقطاع التيار الكهربائي إلى إغلاق مساحات شاسعة من البلاد لمدة تصل إلى 24 ساعة، مما أسفر عن تعطيل خدمات الهاتف المحمول، وأن يسود الظلام المستشفيات الكائنة في المناطق الريفية.

قالت ماليها لودهى، التي شغلت مرتين منصب سفيرة باكستان لدى الولايات المتحدة، إنَّ العديد من مشاكل البلاد من صنع أيديها.

أوضحت: "بدأت تظهر تداعيات تصرفات الماضي.. ظلت الحكومات على مدار عقود تنفق ما يتجاوز إمكانياتها.. والنخبة التي تتمتع بالامتيازات تغاضت عن المصلحة العامة".

على مدى سنوات، تتابعت المشاكل الاقتصادية في باكستان وفق نمط مألوف. أدى الاعتماد على الواردات وانخفاض تدفق الدولارات إلى حدوث أزمات متكررة في ميزان المدفوعات.

ديون لا تولد عملة صعبة للبلاد

حصلت البلاد أيضاً على قروض بمبالغ كبيرة لم تستخدم في توليد النقد الأجنبي، وذلك باستخدام التمويل الصيني، على وجه الخصوص، لبناء محطات الكهرباء التي أخفقت في زيادة أرقام الصادرات الضعيفة.

قال مونس الرحمن، مؤسس شركة ناشئة بارزة، إنَّ البلاد بحاجة إلى " تغيير جذري .. لنضع كل السياسيين على متن قارب ونرسلهم في إجازة طويلة. تدهور النظام إلى درجة غير قابلة للإصلاح".

مع ذلك؛ بحسب لودهى؛ فإنَّ هذا الواقع لا يعني أنَّ العالم يترك باكستان تنهار. لسبب واحد، ستتأثر حياة أكثر من 230 مليون شخص. علاوة على ذلك، يجب أن تؤخذ الأهمية الجيوستراتيجية للبلاد في الاعتبار، حيث تقع على حدود الصين والهند وإيران وأفغانستان.

كما أنَّ قدراتها النووية - وخطر وقوعها في الأيدي الخطأ- أحد الأسباب الواضحة الأخرى التي تجعل العالم يقف بجوار باكستان.

يتأهب صندوق النقد الدولي لصرف أموال من برنامج قرض متوقف بقيمة 6.5 مليار دولار. بدأ صبر مسؤولي الصندوق في النفاد، إذ طالبوا إسلام أباد بتمرير تدابير تقشفية مثل إلغاء دعم الوقود والتوسع في فرض الضرائب.

الاتفاق مع الصندوق أولاً قبل دعم حلفاء الشرق الأوسط

تردد رئيس الوزراء الباكستاني الجديد، شهباز شريف، في تلبية جميع مطالب الصندوق خلال عام الانتخابات، لكنَّ باكستان خففت مؤخراً القيود بالنسبة لعملتها وزادت أسعار الكهرباء وفرضت ضرائب جديدة لجمع 170 مليار روبية بحلول يونيو.

يعد التوصل إلى اتفاق مع الصندوق شديد الأهمية لأنَّ حلفاء باكستان في الشرق الأوسط رفضوا إرسال مساعدات حتى تتوصل البلاد إلى هذا الاتفاق.

لكنَّ مبلغ القرض الذي يعتزم صندوق النقد الدولي تقديمه يظل ضئيلاً بالنظر إلى إجمالي ديون باكستان البالغة 240 مليار دولار.

الاقتصادات الناشئة الأخرى تراقب التطورات عن كثب، فبين عامي 2010 و2020، زادت الديون الخارجية للدول الفقيرة بأكثر من الضعف لتصل إلى 860 مليار دولار، وفقاً لبيانات البنك الدولي.

في مواجهة تباطؤ أوسع نطاقاً بعد الوباء، لم تعد عدة دول قادرة على سداد مدفوعاتها، حيث تقفز أسعار الفائدة كما يخفض الدولار القوي قيمة عملاتها. يقدّر صندوق النقد الدولي أنَّ ربع الأسواق الناشئة تواجه الآن "ارتفاعاً في تكاليف الاقتراض شبيهة بالتكلفة في حالة التخلف عن السداد".

يحذر الاقتصاديون من ضياع 10 سنوات من النمو للبلدان الأكثر ضعفاً في العالم، التي انزلق العديد منها أكثر في براثن الفقر خلال سنوات كوفيد.

لا تختلف الظروف عن أزمة ديون أميركا اللاتينية في الثمانينيات من القرن الماضي، عندما سبقت زيادة القروض الخاصة المقدمة للدول النامية نشوب عاصفة كاملة من الصدمات الخارجية - من بينها غزو العراق لإيران - مما أدى إلى مواجهة أعباء خلال سنوات. ويشار إلى أنَّ مصر وإثيوبيا وطاجيكستان من بين البلدان التي تواجه المشاكل أيضاً.

إعادة الجدولة كلمة السر لسداد الديون

يقول محللون إنَّ باكستان تظل قادرة على تجنّب التخلف عن السداد. قال براد سيتسر، خبير السياسة الاقتصادية لدى مجلس العلاقات الخارجية في واشنطن، إنَّه يجب على البلاد التفاوض بشأن "إعادة جدولة جادة" من أجل سداد الديون.

حصلت باكستان على معظم الدين الخارجي البالغ حوالي 100 مليار دولار من مصادر متعددة الأطراف وثنائية، بما في ذلك نادي باريس، وهي مجموعة من المقرضين الغربيين غالباً، وصندوق النقد الدولي والصين، التي تمتلك حوالي 30 مليار دولار من إجمالي الدين الخارجي.

يتضمّن إجمالي الدين الخارجي الباكستاني 8 مليارات دولار قيمة سندات دولية فقط.

قال مرتضى سيد، مسؤول سابق في صندوق النقد الدولي ونائب محافظ البنك المركزي الباكستاني السابق: "الصين هي العامل الأكثر أهمية، الصين ليست عضواً في نادي باريس الذي اعتاد أن يكون آلية تنسيق جيدة جداً لإعادة الهيكلة".

من عام 2006 إلى عام 2020، ارتفعت حصة الديون الخارجية المستحقة للصين على الدول الفقيرة إلى 18%من 2%، وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي، مما يجعلها أكبر دائن سيادي في العالم للدول النامية. بالنسبة للأعضاء الـ22 في نادي باريس، انخفضت النسبة إلى 11% من 28%.

مع تنوع مزيج الدائنين العالميين، مارست الصين ضغوطاً لتغيير نظام إعادة هيكلة الديون السيادية، الذي يعفي عادة القروض التي قدّمتها الأطراف المتعددة.

رفض البنك الدولي وآخرون مطالب بكين، مما يعرض للخطر جهود دول مجموعة العشرين خلال الأسبوع الجاري للتوصل إلى إجماع بشأن إصلاحات "الإطار المشترك". تجمع هذه المبادرة نادي باريس والدائنين التقليديين حول طاولة المفاوضات نفسها مع الصين.

أدى الخلاف إلى تأخير الجهود المبذولة لتخفيف أعباء الديون في البلدان التي تواجه صعوبات مثل زامبيا، التي حاولت تخفيف أعباء الديون قبل نحو عامين، لكنَّها لم تتوصل بعد إلى اتفاق.

مخاوف من تحول باكستان إلى "يونان" أخرى

قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينغ في تصريح صحفي إنَّ تخفيف عبء ديون زامبيا "يكمن في مشاركة المؤسسات المالية المتعددة الأطراف والدائنين التجاريين في جهود تخفيف الديون".

قالت جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأميركية، مؤخراً عن التأخير في التوصل لاتفاق: "يتعيّن على الصين حقاً الجلوس إلى طاولة المفاوضات .. عدم استعداد الصين للمشاركة الشاملة والتحرك في الوقت المناسب يمثل عقبة في الطريق".

مهما كان الحال؛ فإنَّ الوقت يداهم باكستان، الدولة ذات العدد الكبير من السكان، دون أن تحسم خياراتها.

خفّضت وكالة "فيتش" التصنيف الائتماني لـ باكستان مرتين خلال أربعة أشهر، ويجري تداول سنداتها الدولارية طويلة الأجل عند مستويات متعثرة.

خفّفت باكستان من الضوابط على الروبية التي فقدت 15% من قيمتها في يناير، وهو أكبر انخفاض شهري في البيانات التي جمعتها "بلومبرغ" منذ عام 1989. وفق القيمة بالدولار، يقترب مؤشر بورصة كراتشي القياسي من أدنى مستوى خلال نحو 10 سنوات.

قال مرتضى سيد إنَّ باكستان لا يمكنها الفكاك من عمليات الإنقاذ المتواصلة والأزمات دون اتخاذ قرارات مؤلمة.

أوضح أنَّ الدولة وصلت إلى نقطة تفيد أنَّها لم تعد تتحمّل أعباء ديونها ببساطة. قد تكون إعادة الهيكلة هي الطريقة الوحيدة لتجنب التحول إلى يونان أخرى أو أسوأ.

إذا أصبح هذا هو الرأي المقبول؛ فإنَّ السؤال هو كيف يتم تنفيذه؟.

قال مرتضى سيد: "يتساءل الناس عمّا إذا كانت الديون ستؤدي إلى عقد ضائع في البلدان النامية والأسواق الناشئة.. إنَّ باكستان هي واحدة من تلك الدول. وربما نكون جرس الإنذار على كيفية حل مشكلة الديون، على كل حال".

تصنيفات

قصص قد تهمك