بلومبرغ
بعد تسعة أشهر من قرار الفلبين وقف وسائل النقل العام في شوارعها، في واحدة من أكثر عمليات الإغلاق الأكثر صرامة في العالم، تعكس العودة المؤقتة لحافلات "جيبني" (jeepneys) المشهورة بالمدينة إلى شوارع مانيلا المسار غير المستقر الذي يسلكه الاقتصاد نحو التعافي.
وكان مودي فلوراندا، رئيس مجموعة النقل "بيستون" التي يقع مقرُّها في مانيلا، يحارب من أجل عودة المركبات الأيقونية الملونة، التي هي عبارة عن حافلات غير رسمية تتسع لنحو 20 راكباً، مصممة من بقايا مركبات دفع رباعي تخلَّى عنها الجيش الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية.
وفي الأوقات العادية، كانت حافلات "جيبني" المكتظة تملأ الشوارع، إذ يتدلى الركاب منها في الخلف، ويقفزون منها وإليها، في حين تخفف المركبات سرعتها على طول الطريق، دون أن تتوقَّف بالكامل.
يقول فلوراندا: "لقد قُضي على النقل الجماعي، إنَّ إعادة فتح المجمعات التجارية والمصانع والمكاتب غير مفيدة إذا لم يتمكَّن الناس من التنقل".
وكانت الفلبين قد عانت في الفترة الماضية، ليس من تعطُّل النقل العام فقط، بل توقَّف العديد من الأعمال في أنحاء جُزرها لعدة أشهر، مما هدم الوظائف، ودفع بالبلاد نحو الركود الاقتصادي. ويتوقَّع المسؤولون الفلبينيون أن ينكمش الاقتصاد بنسبة تصل إلى 9.5% هذه السنة، قبل أن ينتعش بنسبة تتراوح بين 6.5% و7.5% في 2021.
وفي حين أنّ عدد الإصابات اليومية بفيروس كورنا قد انخفض في الفلبين من ذروته في أغسطس، لكنَّ البلاد لا تزال تصارع ثاني أسوأ موجة لكورونا في المنطقة. ووفقاً لبنك التنمية الآسيوي، سيكون اقتصاد الفلبين الموجَّه نحو الاستهلاك الأكثر انكماشاً من بين بلاد جنوب شرقي آسيا الكبرى.
ويقول نيكولاس مابا، وهو خبير اقتصادي في مجموعة "ING" في مانيلا، إنَّ معدَّل الاستهلاك الفلبيني قبل الجائحة كان يتحلى بقدر واسع من الانتشار، مما دفع الاستهلاك إلى آفاق جديدة. وتابع قائلاً: "إذا قُيِّدَت الحركة فستصبح قدرة الأشخاص على الإنفاق التقديري محدودة بشكل كبير".
وبالرغم من الجائحة يصرُّ المسؤولون على إعادة فتح النقل الجماعي والاقتصاد بشكل أكبر. وقد تعرقلت الجهود المبذولة في سبيل إعادة إحياء النقل الجماعي بسبب الصعوبات في اعتماد نظام تعقُّب للتواصل، يقوم على رموز الاستجابة السريعة، فضلاً عن تدابير التباعد الاجتماعي.
وتقول دائرة النقل الحكومية، إنَّ 70% فقط من حافلات "جيبني" في مانيلا تمكَّنت من العمل مع قدرة استيعابية محدودة، ابتداءً من نهاية نوفمبر، أي بعد ثمانية أشهر من إغلاق العاصمة.
كيف أثَّرت حركة النقل في حياة الفلبينيين؟
هذه الإغلاقات جعلت مارت فلوريندو، الذي يعمل مساعد مدير بنك في مانيلا، يواجه خيارات نقل محدودة للتوجه إلى عمله، ومع إعادة الحافلات أصبح يشعر بالامتنان؛ لأنَّه لم يعُد يضطر إلى أن يركب دراجته الهوائية للتوجه إلى عمله، كما فعل خلال فترة الإغلاق التام. ولكنَّه مع ذلك يتمنى توفُّر خيارات نقل عام أكثر، إذ إنَّ عدد حافلات "جيبني" القليلة التي عادت إلى العمل جعلت وقت الانتظار في الصفوف لصعود الحافلة أكبر بشكل متزايد. وقال: "يجب السماح بعودة كل حافلات (جيبني) التقليدية إلى الشوارع، لأنَّ العديد من الناس لا يملك وسائل أخرى للتنقل".
سائقو الحافلات بلا عمل
من جهته قال فلوراندا، رئيس مجموعة النقل "بيستون"، إنَّ بعض سائقي حافلات "جيبني" البالغ عددهم 600,000 في كل أنحاء البلاد، الذين انقطع مصدر رزقهم الأساسي، أسَّسوا مشاريع صغيرة عبر الإنترنت، أو توجَّهوا نحو خدمات التوصيل مثل "لالاموف" (Lalamove). وأضاف أنَّ معظمهم، تماماً كالعديد من العاملين غير الرسميين، كانوا بحاجة إلى النقود، ولم يكونوا ملائمين للوظائف التي تعتمد على التكنولوجيا، مما دفع بعضهم إلى الافتقار الشديد إلى المال.
من بين هؤلاء السائقين خوانيتو سيرابيون، الذي وجد نفسه في الفترة من مارس حتى نوفمبر مضطراً إلى الاعتماد على الأموال القليلة التي تأتيه من المساعدة الحكومية، بالإضافة إلى أموال ابنه الأكبر الذي يعمل في خدمة توصيل الطعام. وقد عاد سيرابيون، البالغ من العمر 57 سنة، الذي عمل سائقاً لحافلات "جيبني" في مانيلا طيلة 35 عاماً، إلى الشارع هذا الشهر، إلا أنَّ أرباحه انخفضت بنسبة 50% بخروج عدد قليل من الناس.
يقول سيرابيون: "أتمنى أن تؤمِّن الحكومة اللقاحات بسرعة حتى يتمكَّن الناس من الخروج مجدداً، لا سيَّما التلاميذ الذين يشكِّلون نصف ركابنا المعتادين".
ويقول مارتن ديلغرا، رئيس هيئة تنظيم النقل الحكومية، إنَّ حافلات "جيبني" التي لم تعُد إلى الطريق هي تلك التي تتداخل مساراتها مع الحافلات والقطارات، التي بإمكانها أن تحتوي على عدد أكبر من الركاب. وقال، إنَّ الحكومة تبحث عن مسارات جديدة للسائقين المتأثرين، كما أنَّها قدَّمت لهم مساعدات نقدية.
وانعكست محنة سائقي حافلات "جيبني" على قطاعات متعددة في البلاد، ابتداءً من البيع بالتجزئة حتى الصناعة في الفلبين، غير أنَّ من تمكَّنوا من مجاراة الطفرة التكنولوجية الحاصلة كانوا من المستفيدين، في حين بقيت الشركات التي لم تستطع المجاراة تعاني الآفات الاقتصادية المترتبة على الوباء.
وتقدِّر منظمة العمل العالمية أنَّ 7.2 مليون عامل فيلبيني معرَّض للتوقُّف عن العمل، بسبب "كوفيد-19" والاتجاه السريع نحو الرقمنة.
وقال ماكوتو تسوشيا، وهو خبير اقتصادي في شركة "أكسفورد إيكونومكس" مقيم في طوكيو، إنَّ اقتصاد الفلبين لن يعود إلى مستويات ما قبل الجائحة حتى 2022. وأضاف أنَّه حتى عام 2025 سيكون المردود أقل من التوقُّعات السابقة لفيروس كورونا.
وفي حين أعلنت الحكومة أنَّها تتوقَّع أرقام نموٍّ كبيرة العام المقبل، علَّق مابا، الخبير الاقتصادي في مجموعة "ING"، بأنَّ ذلك يعود بشكل كبير إلى الاعتماد على المقارنة مع الانكماش الحاصل هذا العام. وقال، إنَّ الخطط المالية والصحية البسيطة التي اعتُمدت، بالإضافة إلى الآثار الناتجة عن ركود اقتصادي طويل الأمد، هي "الوصفة لعملية تعافٍ بطيئة" على حدِّ تعبيره.
وأما بالنسبة إلى فلوراندا، رئيس مجموعة النقل "بيستون"، فيتمثَّل التعافي الحقيقي في إعادة أساطيل كاملة من حافلات "جيبني" يمكنها إعطاء الناس مزيداً من خيارات التنقل. وأضاف: "ما نزال نأمل أن يعيدوا حافلات (جيبني) إلى الطرق من جديد. نحن شركاؤهم في الاقتصاد".