بلومبرغ
تمثل خطة ليز ترَس للنمو، والتي تجمع بين أكبر إعفاء ضريبي في المملكة المتحدة منذ نصف قرن ونهج تاتشر لتحرير الاقتصاد، مغامرة صريحة غير مضمونة النتائج بمستقبل بريطانيا. وحتى قبل أن ينتهي وزير الخزانة من تقديم الخطة يوم الجمعة، بدت وكأنها رهان في غير محله.
حكمت السوق بسرعة وبشكل مدمّر على الخطة الاقتصادية البالغة قيمتها 220 مليار جنيه إسترليني، التي أطلقها وزير الخزانة كواسي كوارتنغ. انخفض الجنيه الإسترليني إلى ما دون 1.11 دولار للمرة الأولى منذ عام 1985، لتصل نسبة انخفاضه إلى 19% منذ بداية 2022، فيما سجلت سندات الخزانة البريطانية لأجل خمس سنوات، أكبر انخفاض يومي لها على الإطلاق.
قال كوارتنغ البالغ من العمر 47 عاماً، في دافعه أمام مجلس العموم عن التشوهات التي أطلق العنان لها: "ستفعل الأسواق ما تشاء".
حتى قبل تصريح وزير الخزانة، كان المسؤولون السابقون عن السياسة النقدية في بنك إنجلترا المركزي، يحذّرون من أن تصميم رئيسة الوزراء ليز ترَس على خفض الضرائب بغض النظر عن الظروف، يهدّد بدفع المملكة المتحدة نحو أزمة جنيه إسترليني.
صدمة التكاليف
ظل هناك شعور بالصدمة تجاه المدى الذي ذهب إليه وزير الخزانة في حكومة ترَس، إذ ألغى أعلى معدل لضريبة الدخل بما يدعم أصحاب الدخل المرتفع، إضافة إلى تخفيضات على ضرائب الشركات ومساهمات التأمين الوطني والرسوم المفروضة على مشتريات المنازل المعلن عنها مسبقاً.
لم تشمل القيمة الإجمالية النهائية للخطة الاقتصادية، التكلفة الكاملة لسدّ فواتير الطاقة للمنازل خلال العامين المقبلين. يمكن أن يضيف ذلك 100 مليار جنيه إسترليني أخرى إلى التزامات دافعي الضرائب.
ستكلف التخفيضات الضريبية وزارة الخزانة حوالي 161 مليار جنيه إسترليني على مدى السنوات الخمس المقبلة. وسيضيف ضمان إضافي لتوفير الطاقة حوالي 60 مليار جنيه إسترليني إلى ذاك المبلغ في الأشهر الستة المقبلة، وهو الرقم الوحيد الذي قدمته وزارة الخزانة.
مقارنات تاريخية
دفعت تلك الأرقام الضخمة بعض المحللين إلى البحث في كتب التاريخ، لمقارنة الحزمة بأخطاء السياسات الاقتصادية الشهيرة في الماضي. ردّ الفعل - المتمثل في انخفاض الجنيه حتى مع قيام المتداولين بتسعير الزيادات الحادة في أسعار الفائدة لتعويض الزيادة في الضغوط التضخمية - هو نوع من الحركة التي تقتصر في العادة على عملات الأسواق الناشئة.
يقول جورج سارافيلوس، رئيس القسم العالمي لأبحاث الصرف الأجنبي في "دويتشه بنك": "ثقة المستثمرين تتآكل بسرعة". ودعا بنك إنجلترا إلى رفع سعر الفائدة بشكل طارئ.
ردّ الفعل من جانب الأسواق، يضع ترَس وكوارتنغ في مأزق رهيب. ترَس، البالغة من العمر 47 عاما أيضاً، تولّت منصبها قبل أقل من ثلاثة أسابيع، فيما جرى تعليق مساعيها لفرض سلطتها على الحكومة بعد وفاة الملكة إليزابيث الثانية، ما أدى إلى توقف نشاطها السياسي لمدة 10 أيام. ولدى ترَس حاجة ماسة لإظهار قدرتها على قيادة دفة المملكة المتحدة خلال أزمة الطاقة العالمية.
دافعت ترًس عن خطتها في تعليقات عبر برنامج "حالة الاتحاد" على شبكة "سي إن إن"، قائلة: "نحن بحاجة ماسة إلى تحفيز النمو في وقت صعب للغاية بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي".
تحديات ومخاطر
قالت ترَس في مقتطفات من مقابلة بُثت يوم الأحد، إن الإجراءات الحكومية للحد من أسعار الطاقة للمستهلكين "مهمة للغاية أيضاً".
جرى انتخاب ترَس زعيمة لحزب المحافظين خلال الصيف، بفضل شعبيتها بين الأعضاء. لكن ثلثي نواب حزبها صوتوا ضدّها، وكانت هناك شائعات بشأن تصويت محتمل لحجب الثقة، قبل أن تتولى المنصب.
يسود الخوف بين المستثمرين من أن تمنح التخفيضات الضريبية التي فرضتها ترَس، الاقتصاد فورة نشاط بشكل سريع فقط، ما يؤدي إلى تضخم الديون وتصاعد التضخم، قبل حدوث انهيار لا يترك أي تحسن دائم بالنسبة إلى النمو على المدى الطويل.
حتى مؤيدي الحكومة كانوا فاترين في دعمهم. قال كريسبين أودي، أحد مؤيدي حزب المحافظين ومؤسس صندوق التحوط "أوداي آسيت مانجمنت" (Odey Asset Management) حيث عمل كوارتنغ محللاً في وقت ما: "إنهم يجربون الأشياء الصحيحة، ولكن لابد من أن هناك مخاطر من أننا ندخل في مرحلة ازدهار على غرار ما حدث إبان تولي باربر حقيبة الخزانة، من خلال الضغط على زر التضخم".
درس من الماضي
هذه إشارة إلى الميزانية المشؤومة لعام 1972، التي وضعها سلف كوارتنغ من حزب المحافظين، وزير الخزانة الأسبق أنتوني باربر. قدم باربر، على غرار كوارتنغ، حزمة ضخمة من التخفيضات الضريبية غير الممولة، والتي، في حالته، دفعت الاقتصاد لأن يكون محموماً بشكل حاد، وقادت إلى ارتفاع التضخم قبل الانهيار والدخول في حالة ركود. هُزم رئيس الحكومة البريطانية حينذاك، إدوارد هيث، أمام حزب العمال المعارض بعد ذلك بعامين، وكان على المملكة المتحدة أن تسعى إلى الحصول على خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي في عام 1976.
ماذا تقول بلومبرغ إيكونوميكس
قال دان هانسون المحلل في" بلومبرغ إيكونوميكس": "إن السياسات المعلنة في الميزانية المصغرة التي قدّمها وزير الخزانة كواسي كوارتنغ، ستوفر للاقتصاد فورة نشاط خلال العام المقبل، لكننا نشك كثيراً في أنها ستؤدي إلى إحداث تحوّل في النمو الذي تعوّل عليه الحكومة. هذا يعني أنها سترفع التضخم، في وقت يحاول فيه بنك إنجلترا تهدئة ضغوط الأسعار. ولأن حزمة السياسة الاقتصادية لا يتوافر لها التمويل، فإنها تضع الدين على مسار غير مستدام".
بالمثل، قد يكون أمام ترَس أقل من عامين قبل أن تضطر أيضاً إلى الدعوة لإجراء انتخابات عامة جديدة.
كانت ترَس واضحة في أن ما يهمّها، هو زيادة حجم النشاط الاقتصادي، بدلاً من القلق بشأن كيفية تقسيمه.
تتجلى هذه الجرأة بشكل أوضح في المقامرة المركزية في قلب الموازنة المصغرة. يتوقف النجاح على رقم واحد: مستهدف النمو الذي وضعه كوارتنغ البالغ 2.5%، وهو ما يقرب من نقطة مئوية كاملة أعلى من التوقعات الرسمية للسنوات الثلاث المقبلة، ومستوى غير مسبوق منذ ما قبل الأزمة المالية في عام 2008.
حلم زائف
إذا تمكنت الحكومة من رفع نمو الناتج المحلي الإجمالي بمقدار نقطة مئوية، فإن التخفيضات الضريبية تغطي تكاليفها بحلول نهاية خمس سنوات، وفقاً لوثائق الخزانة المنشورة يوم الجمعة. في تلك المرحلة، ستكون الحكومة قد عملت على استقرار معدل الدين الوطني، وأصلحت معضلة الإنتاجية في المملكة المتحدة، ومنحت البلاد الميزة التنافسية المتمثلة في انخفاض الضرائب.
وصف مارتن ويل، أحد المسؤولين السابقين عن تحديد سعر الفائدة لدى بنك إنجلترا المركزي، والذي يعمل حالياً في "كينغز كوليدج لندن" (King’s College London)، معدل النمو المستهدف بأنه "حلم زائف".
قال ويل إن الحكومة لا يمكن أن تكون متأكدة من أنها ستحقق معدل نمو بنسبة 2.5%، لكن يمكنها التأكد من أن التخفيضات الضريبية تضع المالية العامة في موقف محفوف بالمخاطر.
تفاقم الديون
توقعت "ريزوليوشن فاوندشن" (Resolution Foundation) أن يرتفع الاقتراض الحكومي كحصة من الناتج المحلي الإجمالي على مدى السنوات الخمس المقبلة ، ليضيف ما مجموعه 411 مليار جنيه إسترليني إلى مجموع الديون الحالية البالغ 2.3 تريليون جنيه إسترليني.
في الوقت ذاته، تميل منافع التخفيضات الضريبية نحو أصحاب الدخل المرتفع - الذين من المرجح أن يصوّتوا لصالح حزب المحافظين. الشخص الذي يكسب 200 ألف جنيه إسترليني، يستفيد بما مقداره 5,220 جنيه إسترليني نتيجة التخفيضات الضريبية، في حين أن العامل الذي يحصل على 20 ألف جنيه إسترليني يستفيد فقط بمقدار 157 جنيهاً إسترلينياً.
قال ريان شورتهاوس، الرئيس التنفيذي لمركز أبحاث "برايت بلو" (Bright Blue): "بعد 12 عاماً من إدارة البلاد ، يحتاج المحافظون بشدة إلى تحقيق سجلّ حافل سريع إذا كانوا يريدون التمسّك بالسلطة.. رئيسة الوزراء ووزير الخزانة ذاهبان نحو الإفلاس".