بلومبرغ
ظن مهندس الطائرات دان بيكر أنّ مهنته ستسمح له برؤية العالم، ومنذ أن بدأ تدريبه في سنّ السادسة عشرة مع الخطوط الجوية البريطانية "British Airways" في لندن، أخذته وظيفته إلى إفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي ونيوزيلاندا والشرق الأوسط، إذ عمل لدى الخطوط الجوية الإماراتية "Emirates".
وجد بيكر نفسه حاليًّا في قلب صحارى أستراليا الحمراء، وفي خضمّ تأثيرات وباء فيروس كورونا في قطاع الطيران، الذي قلبه رأسًا على عقب وسُرِّح على إثره ملايين الموظفين، فيما وجد بيكر وظيفة غير متوقعة، إذ يعيش في مدينة أليس سبرينجز، ليعمل في حفظ وصيانة عشرات الطائرات الجامبو من حيث تقبع على الأرض.
آثار جائحة "كورونا"
يقول بيكر، البالغ من العمر 49 عامًا، عن بيئته المحيطة في المدينة البعيدة التي يبلغ عدد سكانها 25 ألف نسمة، والتي تشتهر بأنها نقطة الانطلاق لرؤية المناطق السياحية الشهيرة مثل أولورو وأولغاس: "اضطررت إلى القيام ببعض الأبحاث لأعرف كيف ستكون الحياة في هذه المنطقة، وحتى الآن هي رائعة".
في المكان الذي يعمل به بيكر تبدو مرافق تخزين الطائرات "Asia Pacific Aircraft Storage facility" كمشهد مهيب تتجلى فيه آثار الوباء، إذ تمتدّ على الأرض المنبسطة مشاهد ذيول الطائرات في مواجهة سماء الصحراء الساكنة.
ويضمّ مرفق التخزين المبنيّ لهذا الغرض بجانب المطار أكثر من 100 طائرة تجري صيانتها وتجهيزها للعودة إلى العمل عند الطلب، ورغم ارتفاع عدد حالات الإصابة بفيروس "كوفيد-19" في أوروبا والولايات المتحدة، فإنّ بعض هذه الطائرات يعود إلى السماء.
تعافي الأسواق المحلية
وكانت بيانات من شركة "Cirium" لتحليل قطاع الطيران أظهرت أنّ عدد الطائرات التي تقوم برحلة واحدة على الأقل في منطقة آسيا والمحيط الهادي اقتربت للعودة إلى مستويات ما قبل "كوفيد"، وهو ما يرجع بقدر كبير إلى تعافي الأسواق المحلية في أماكن مثل الصين، إذ أصبح الوباء بشكل أو بآخر تحت السيطرة.
وعلى الرغم من ذلك، لا تزال الطرق الدولية ضعيفة، وخفّض اتحاد النقل الجوي الدولي "IATA" الشهر الماضي توقعاته لحركة الطيران في 2020 لتعكس نسبة تعافٍ أقلّ من المتوقع. وحاليًّا يتوقع الاتحاد، الذي يمثل 290 شركة طيران، أن تتراجع الحركة للعام بأكمله بنسبة 66% قياسا بـ2019، وذلك أكثر من نسبة الهبوط التي توقعها سابقًا عند 63 في المئة.
ومن الواضح أن الطائرات الأكثر شيوعًا في مرفق التخزين تعود إلى شركة الخطوط الجوية السنغافورية وشركة "كاثاي باسيفيك إيروايز"، نظرا لكون الناقلتين لا تتلقّيان كثيرًا من الطلب في السوق المحلية.
وأوضحت بيانات "Cirium" أيضًا أنّ عدد الطائرات المخزنة في آسيا تتراجع، ورغم ذلك يواصل الرقم الازدياد في مدينة أليس سبرينجز الأسترالية، نظرًا إلى أنّ عديدًا من مواقع التخزين الآسيوية تعتبر شديدة الرطوبة على الطائرات لوقت طويل. لذلك فإنّ الطائرات التي حطّت هناك توقُّعًا لعودة سريعة إلى السماء تتجه الآن لتحطّ في أليس سبرينجز لفترة يشوبها عدم اليقين.
ووفقًا للمدير الإداري لمرفق التخزين "APAS"، توم فينسينت، فإنّ فكرة إنشاء مرفق تخزين في وسط أستراليا كانت قائمة منذ وقت طويل، ولكن "دويتشه بنك" كان أول من تحرّك تجاه الأمر، وجمع 5.5 مليون دولار أسترالي (4 ملايين دولار) وحصل على مجموعة من الموافقات التنظيمية لبنائه قبل أن يستقبل أول طائرة له منذ عام.
ويخطط فينسينت، البالغ من العمر 42 عامًا، أن يجعل مرفقه مركز تخزين الطائرات طويل الأجل في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية حتى بعد أن ينتهي الوباء، كما أنه على وشك التقدم بطلب للجهات المعنية بتوسعة رابعة تتضمن منصة ضخمة محاطة بسور، تتسع لـ60 طائرة أخرى، ما سيوسع المرفق ليضم ما بين 250 إلى 300 طائرة.
ويصف فينسنت عام 2020 بأنه "كان عامًا عصيبًا"، ويتوقع أن يستقرّ عدد الطائرات المخزنة لديه في النهاية عند 200 طائرة، مضيفا: "الوقت الحاليّ صعب للغاية على القطاع. بالتأكيد ستعود بعض الطائرات إلى العمل عاجلًا لا آجلًا، على ما نأمل، ولكن سيبقى عدد هائل من الطائرات التي سوف تتطلب تخزينًا وصيانة".
تخزين الطائرات
وبدأ فينسينت في حملة توظيف ضرورية وعيَّن أكثر من 80 موظفًا، بدءًا من الطاقم الإداري وحتى مهندسي الطيران مرتفعي المهارات مثل بيكر.
وقضى بيكر أول أسبوعين في وظيفته الجديدة في الإشراف على عملية فحص وإعداد كل طائرة جديدة للتخزين، بدءًا من تفريغ المحركات من السوائل، إلى التأكد من أنّ كل فجوة وشقّ في جسم الطائرة خالٍ من الغبار والحشرات.
وأحد الأجزاء التي تتعرض لخطر التلف في أثناء التخزين طويل الأجل هو نظام "بيتوت الثابت"، وهي فتحة صغيرة في مقدمة كل طائرة. وكذلك المنفذ الثابت، وهو تجويف آخر أبعد قليلًا على طول جانب الطائرة.
ويسجل هذان المستشعران عادة بيانات السرعة الجوية، "وهما جزءان أساسيان لأي رحلة"، حسبما شرح المهندس النيوزيلاندي وهو يقف على منصة، حيث تُعَدّ الطائرات للتخزين.
وأضاف: "نحن نقوم بعملية الإعداد للتخزين بأسرع ما يمكن"، وتتطلب العملية فريقًا من عشرات الأشخاص، وتستغرق ما يصل إلى خمسة أيام، من بينها يومان كاملان لتغليف وتغطية كل شيء لحماية المحركات والأنظمة المتعددة، وهي بالمجمل عملية تحتاج إلى ما بين 40 إلى 50 لفافة من الأشرطة الخاصة بتغليف الطائرات.
ورغم أن فينسينت، الأسترالي الذي يقضي وقته بين أليس سبرينجز وبريسبان، لا يرغب في الإفصاح عن تكلفة تخزين الطائرة الواحدة، فهو يقول إنّ كل أسبوعين تحصل "APAS" (الاسم المختصر لمرفق التخزين) على دفعة من أشرطة التغليف تكلفته 50 ألف دولار أسترالي (الدولار الأمريكي = 0.70 دولار أسترالي).
وتحتاج كل طائرة متطلبات مختلفة للتخزين اعتمادًا على كتيب الإرشادات. فعلى سبيل المثال، ينبغي تغطية جميع نوافذ الركّاب ولصقها بالشريط اللاصق في طائرات "إير باص"، فيما "بوينغ" لا تحتاج إلى ذلك.
وبمجرد أن تُعَدّ للتخزين وتُغلَّف بإحكام وتُقطَر إلى موقف الطائرات، تخضع كل طائرة لأنظمة فحص دورية كل 7 و30 و90 يومًا، وخلال هذا الوقت تُفحَص أكياس التجفيف في حجرات المحرك، وتُبدَّل الإطارات مع صيانة أنظمة المكابح. إذ أن تخزين الطائرة ليس بالأمر البسيط بالتأكيد، فالأمر ليس مجرد أن تُركن وينتهي الموضوع.
ويقول فينسينت إنّ طواقم الطائرة يراودهم شعور بالحنين بمجرد تركهم الطائرة لآخر مرة. ويضيف: "أرى أغلب الطواقم عند نزولهم من الطائرة وهم لا يعرفون متى سيرونها مجددًا. عادة يأخذون صورًا. ونحبّ أن نقول لهم إننا نتطلع إلى وقت عودتهم لاستلامها مجددًا".
ولكن يبقى توقيت ذلك سؤالًا مفتوحًا. وفي الوقت الحالي، تقف هذه الطائرات بصمت في المناطق النائية الأسترالية كنُصب تذكاريّ سرياليّ يعبِّر عن زمن مختلف.