بلومبرغ
عندما شيّدت بلدية إسطنبول مُدرجاً وساحة عرض في "ميدان تقسيم" قبل عامين، توافد الناس لرؤية الهيكل المذهل المصنوع من الخشب والفولاذ، ملتقطين العديد من صور "سيلفي" لهم على مقاعده المتدرجة. كما حضروا حفلات موسيقية، وشاهدوا عروضاً عن التاريخ المحلي، وهم يجلسون في موقع يسمح لهم بمشاهدة الامتداد الخرساني الشاسع في أهم ساحات المدينة من زاوية مختلفة.
لكن لم يكد يمضي أسبوع واحد على افتتاح المكان المؤقت، حتى أغلقته الشرطة وفككته، مزيلة إياه قبل الأوان المحدد لذلك. وقد كان الحدث يهدف لإطلاق مسابقة تصميم تديرها البلدية، لإشراك سكان المدينة المكتظة بالسكان في إعادة تصور الأماكن العامة في مدينتهم. لكن المسابقة والحدث وقعا ضحية للصراع السياسي الأوسع نطاقاً في البلاد، والذي يؤثر على الإدارة الحضرية لإسطنبول وعلى حياة سكانها البالغ عددهم 16 مليون نسمة، حتى يومنا هذا.
الضغط على إسطنبول
الصدامات بين الحكومات وأكبر مدنها لا تعتبر أمراً غريباً على العالم. فسواء كانوا سكان نيويورك المتظاهرين ضد دونالد ترمب، أو سكان لندن الذين يعترضون على الخروج من الاتحاد الأوروبي ضد إرادتهم. لكن، في دولة تقع في دائرة الضوء بسبب قيادتها التي تزداد استبداداً، واقتصادها الذي يعاني، فإن الضغط على إسطنبول له وقع خاص.
كان مراد جوفينك من بين أعضاء فريق اقترح رؤية جديدة لإعادة تطوير "ميدان تقسيم" كجزء من مسابقة التصميم التي تنظمها البلدية، وهو مخطط حضري ومدير مركز دراسات إسطنبول في "جامعة قادر هاس"، وقد قال عن الأمر: "هناك حرب باردة بين الحكومة المركزية والبلديات المحلية التي تديرها المعارضة السياسية".
وكان هذا الصراع ظهر إلى النور، بمجرد أن انتزعت المعارضة الرئيسية في تركيا السيطرة على أكبر مدينتين في البلاد، وهما إسطنبول وأنقرة، من الحزب الحاكم الذي يتزعمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال الانتخابات البلدية في عام 2019. وكانت خسارة إسطنبول - موطن خُمس سكان تركيا ونحو ثلث ناتجها الاقتصادي - بمثابة ضربة كبيرة بشكل خاص.
وكان أردوغان، عمدة إسطنبول السابق، أشار إلى نيته إحباط المعارضة في المدينة من خلال تضييق الخناق على مواردها المالية، وحذّر في خطاب ألقاه قبل انتخابات 2019 من أن البلديات "التي لا تنسجم مع الحكومة المركزية ستعلن إفلاسها".
المعارضة التركية تحذر مقاولي قناة إسطنبول: لن تأخذوا أموالكم إذا خسر أردوغان
مشاريع متعثّرة
يسرد مراد أونغون، المتحدث باسم بلدية إسطنبول الحضرية، المشاريع التي يقول إن الحكومة المركزية تحاول منعها، وهي تشمل: توسيع نظام مترو الأنفاق، واستبدال أسطول الحافلات القديم لتخفيف حدة أحد أسوأ الازدحامات المرورية في العالم، وإصدار تراخيص جديدة لسيارات الأجرة، وحتى الحفاظ على تدفق المياه عبر صنابير المدينة.
ثم هناك أيضاً إعادة تصميم الساحات العامة بما في ذلك "ميدان تقسيم"، الذي كانت حديقته المجاورة مركزاً لحملة عنيفة تستهدف المتظاهرين ضد حكم أردوغان في عام 2013.
عن ذلك يقول أونغون: "كل هذه التحركات تُنفذ لجعل الناس يقولون إننا غير قادرين على إدارة المدينة".
وفي ظل ارتفاع نفقات الموازنة المخطط لها في العام الحالي عن الإيرادات المتوقعة بنحو 8 مليارات ليرة (550 مليون دولار)، تعتمد إسطنبول على التمويل لتنفيذ المشاريع، لكن منذ أن تولى رئيس البلدية أكرم إمام أوغلو منصبه في عام 2019، لم تتلق البلدية أي ائتمان من البنوك الحكومية، على حد قول أونغون.
ولتعويض ذلك، سعت المدينة إلى الحصول على تمويل خارجي، لكن هذه الصفقات لا تزال تتطلب موافقة من الحكومة، وبالتالي كان التمويل بطيء في الوصول. حيث استغرق أول طلب قدمته المدينة لبيع سندات دولية ثمانية أشهر للموافقة عليه.
وبالمثل تعثّر مشروع لتمديد مترو الأنفاق لمسافة 18.4 كيلومتر في الضواحي الغربية لإسطنبول، بينما ينتظر موافقة الحكومة، وهو مشروع يقول مسؤولو المدينة إنه سيخدم نحو 3.5 مليون شخص. وتقول الوزارة المسؤولة إن البلدية لم تقم بعد بالتحليل الفني اللازم للمشروع.
في غضون ذلك، عارض مركز تنسيق النقل في المدينة مراراً وتكراراً مقترحات زيادة عدد تراخيص سيارات الأجرة والتي ظلت ثابتة لعقود على الرغم من النمو السكاني الكبير في إسطنبول.
سيطرة مركزية
وقد تم تغيير هيكل الوكالة من قبل وزارات الدولة، في أعقاب انتخابات 2019، لزيادة عدد الأعضاء الذين يمثلون المؤسسات العامة، وهو ما يمنح السيطرة للحكومة التركية بشكل أساسي. كما يشغل حزب أردوغان، العدالة والتنمية، أغلبية المقاعد في المجلس البلدي لإسطنبول. وحتى في الوقت الذي أدى فيه التضخم إلى ارتفاع التكاليف، امتنعت الوكالة والمجلس البلدي على مدى أشهر، من إعطاء الموافقات على زيادات أسعار المياه التي توفرها شركة "اسقي" (ISKI) التابعة للمدينة، وللمواصلات العامة كذلك، ثم في أبريل، وافقتا على الزيادات أخيراً.
الأعلى منذ عقدين.. التضخم في تركيا يقفز 70% على أساس سنوي
عن ذلك، يقول جوفينك
ما يفعلونه ليس مخالفاً للقانون، إلا أنهم يخلقون مشاكل ثم يستغلونها لخدمة أغراض سياسية
يرى كثيرون أن جذور الصراع الحالي ترجع للتهديد السياسي الذي يمثله كل من رئيس بلدية إسطنبول إمام أوغلو، ونظيره في أنقرة منصور يافاس، كمنافسين لأردوغان. فبعد تحقيقهما لفوز تاريخي، يروج لكليهما كمرشحين رئاسيين محتملين في الانتخابات المقرر إجراؤها العام المقبل.
قوة المُدن
لم يكن رؤساء البلديات في تركيا يتمتعون دائماً بمكانة سياسية هامة من ذي قبل، وكانت هذه المناصب ضعيفة بشكل عام حتى الثمانينيات، حين أدى التوسع الحضري السريع إلى ارتفاع قيمة الممتلكات في المدن، إلى جانب القاعدة الضريبية المحتملة منها.
وفي عام 1984 سُنّ التشريع الخاص بإنشاء بلديات حضرية كوسيلة لفرض المركزية على المستوى المحلي، والسماح للحزب المهيمن بجني الأموال من مشاريع البناء الجديدة خلال ذلك الوقت، وفقاً لما ذكره بيرك إيسن، الأستاذ المساعد للعلوم السياسية في "جامعة سابانجي" في إسطنبول.
المعارضة تعتبرها "وهماً".. أردوغان يدشّن قناة إسطنبول بكلفة 15 مليار دولار
تسارع ترسيخ هذه السلطة على حساب المقاطعات الأصغر تحت حكم حزب العدالة والتنمية، الذي يدير البلاد منذ عام 2002. وخفّض الحزب الحد الأدنى المطلوب لعدد سكان البلديات الحضرية، وأعاد ترسيم الحدود بحيث يكون للمدن التي تتمتع بهذا العدد، ولاية قضائية تغطي المقاطعة المحيطة بها. ويوجد في تركيا اليوم 30 بلدية من هذا النوع، وهي تضم نحو ثلثي مجموع سكانها. ويقول إيسن، الذي هو أيضاً زميل في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية: "أعطى هذا ميزة سياسية كبيرة للحزب [الحاكم] لأن الريف يميل لأن يكون أكثر تحفظاً".
صراع سياسي
كذلك، يقول يسار عدنان أدنالي، مدير مركز العدالة المكانية، وهي مجموعة مقرها إسطنبول تضم مهندسين معماريين ومخططين حضريين وأكاديميين، إن المدن الأقوى كانت مهمة في البداية على الصعيدين السياسي والاقتصادي بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، وأضاف أن الحزب حوّل الاستثمار في الخدمات المقدمة لفقراء الحضر إلى أصوات لصالحه.
كذلك لعب منح الحكومات المحلية مزيداً من الاستقلالية، دوراً في الحفاظ على استمرار عملية السلام في المنطقة الكردية من البلاد، وفي الامتثال لشروط محاولة تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي المتوقفة حالياً، وفي جذب الاستثمارات الدولية.
تركيا تدرس السجن 3 سنوات عقوبة نشر بيانات اقتصادية غير معتمدة
لكن قبضة الدولة على المدن التركية اشتدت عندما بدأ حزب أردوغان يشعر بالتهديد السياسي. واستناداً على هذه الخلفية، يقول أدنالي إن "وجود حكومات محلية قوية، لا سيما بقيادة أحزاب أخرى، هو أمر غير مرغوب به". ويستشهد أدنالي بالعشرات من رؤساء البلديات المنتخبين من حزب المعارضة الكردي التركي الذين تم استبدالهم بتعيين مباشر من الدولة، وتقول الحكومة إن الحزب مرتبط بجماعة مسلحة محظورة.
من جهته، يقول فؤاد كيمان، مدير مركز إسطنبول للسياسات في "جامعة سابانجي"، إن الضغط لا يُمارس فقط على المدن التي تسيطر عليها المعارضة. متابعاً: "تخلق النزعة المركزية عقبة كبيرة أمام تحقيق الإمكانات الكبيرة الفعلية للمدن، ليس فقط تلك التي يديرها رؤساء بلديات من المعارضة ولكن أيضاً المدن ذات العلاقات الوثيقة مع الحكومة"، ويوضح أنه في تلك الحالات الأخير يكون "الضغط من الحكومة المركزية لمتابعة جدول الأعمال سبباً بتقليل قدرة رؤساء البلديات على اتخاذ القرارات من أجل مدنهم".
من جهة أخرى، يضيف أدانالي إن المخاطر التي تلوح في الأفق مثل حدوث زلزال مدمر، والتهديدات البيئية مثل ظاهرة تفشي الصمغ البحري التي شهدتها البلاد الصيف الماضي، وقضايا الفقر في المدن وسط الأزمات الاقتصادية المستمرة في تركيا، تتطلب رؤية طويلة المدى وتخطيطاً، تقف الصراعات السياسية الحالية عائقاً في تحقيقها. وقال إن ما تحتاجه المدن هو "بيئة أكثر تمكيناً سياسياً بحيث لا تشعر الحكومة المركزية بالتهديد من البلديات المحلية، وإنما تستمع إليها".
لكن، يبدو أن إسطنبول كنز أكبر من أن يتم تركه بسهولة في الوقت الحالي، ويقول غويمن: "في ثقافة صراع سياسي كما الحال في تركيا، لا يتعلق الأمر بمن سيقوم بالأمور بشكل أفضل، ومن الذي سيخدم الناس بطريقة أفضل"، متابعاً: "ما يدور عليه الأمر هو محاولة التأكد من ألَّا يمتلك خصمك الوسائل اللازمة لإنجاح الأمور".