بلومبرغ
هناك خلل ما في حسابات أسواق الدين، إذ يراهن المتعاملون على أنَّ الاحتياطي الفيدرالي سيرفع أسعار الفائدة سبع مرات خلال 12 شهراً اعتباراً من هذا الأسبوع. هذا منطقي على خلفية نسبة التضخم، التي بلغت أعلى مستوياتها منذ 1982، إذ بلغت أحدث قراءة لمؤشر أسعار المستهلك 7.9%.
ما يجافي المنطق في هذا هو أنَّ الكثير من المستثمرين يتعاملون بثقة حول إمكانية أن تتجنب الولايات المتحدة ركوداً اقتصادياً برغم توقُّعات تشديد السياسة النقدية، وتأثير ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة على أداء الاقتصاد.
هيمنت مشاهد غزو روسيا لأوكرانيا على الأخبار مجدداً الأسبوع الماضي، فقد أثار الصراع أزمة إنسانية في أوروبا الشرقية، كما يخشى كثيرون من أزمة نقص غذاء في أفريقيا ودول أخرى تعتمد على إنتاج تلك المنطقة من القمح والحبوب الأخرى.
توقفت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة عن شراء منتجات البترول الروسية، مما رفع أسعار النفط والطاقة.
أصبحت جميع السلع الأولية تقريباً باهظة الثمن في فترة زمنية قصيرة. وارتفع مؤشر "بلومبرغ" لأسعار السلع الفورية 27% هذا العام، وسجل خام غرب تكساس الوسيط 130.50 دولاراً للبرميل في 7 مارس قبل أن ينهي الأسبوع عند 109.33 دولاراً.
أسعار تدفع التضخم
ارتفعت أسعار الغذاء العالمية إلى مستوى قياسي، وفق تقديرات الأمم المتحدة، وربما تتجه لمزيد من الارتفاع، فقد زادت أسعار القمح 44% تقريباً هذا العام، فيما صعدت أسعار الذرة وفول الصويا بما يزيد على 25%. يواجه المستهلكون فترة عصيبة في محاولة مواكبة ذلك، إذ إنَّ الزيادة في الأجور تقل كثيراً عن زيادة التضخم.
ما هو رد البنوك المركزية؟ حين بدأت الحرب في أوكرانيا، اعتبر المتعاملون بأسعار الفائدة أنَّ صنّاع السياسة ربما لن يشددوا سياستهم النقدية بالقدر نفسه الذي كان متوقَّعاً في البداية، غير أنَّهم تخلوا عن هذه الأفكار، خاصة بعدما تبنّى البنك المركزي الأوروبي نغمة متشددة الأسبوع الماضي، وأكد عزمه على أن يعجّل بإنهاء برنامج شراء السندات المرتبط بجائحة كورونا.
تظهر رسالة البنوك المركزية أنَّها أشد قلقاً حيال تكرار أخطاء سبعينيات القرن الماضي، وترك مشكلة التضخم تتفاقم حتى تعصف بالاقتصاد.
قفزت عوائد سندات الخزانة الأمريكية أجل عامين إلى نحو 1.75% الجمعة، وهو أعلى مستوياتها منذ 2019، متحولة عن تراجعها في أواخر فبراير والأيام القليلة الأولى من مارس.
ارتفعت توقُّعات التضخم بحسب مقاييس سوق السندات لأجل عامين، وخمسة أعوام، وعشرة أعوام لأعلى مستوى منذ عقود. كشفت أحدث تقارير ثقة المستهلك من جامعة ميشيغان الجمعة أنَّ المستهلكين في الولايات المتحدة يتوقَّعون ارتفاع التضخم 5.4% على مدى 12 شهراً، وتلك أعلى قراءة له منذ 1981.
تحت السعر الحيادي
يتزايد عدد المحللين الذين يتوقَّعون أن يرفع الاحتياطي الفيدرالي الفائدة المستهدفة على الأرصدة الفيدرالية بما يتجاوز ما كانوا يرجحونه في هذه الدورة الاقتصادية.
يتوقَّع بنك "مورغان ستانلي" حالياً زيادة أسعار الفائدة بواقع 25 نقطة أساس ست مرات هذا العام تليها أربع مرات في 2023، بحيث تبلغ 2.625% بنهاية العام المقبل، وفق مذكرة بحثية من اقتصاديي البنك بقيادة إلين زنتنر كانت قد صدرت الجمعة.
بيّنت سافيتا سوبرامانيان، المحللة الاستراتيجية لدى "بنك أوف أميركا"، أنَّ البنك ما يزال يتوقَّع زيادة أسعار الفائدة سبع مرات هذا العام بالمعدل نفسه الذي توقَّعه قبل حرب أوكرانيا. قالت في مقابلة مع "تليفزيون بلومبرغ" الأسبوع الماضي: "من الضروري أن نتذكر أنَّ رفع أسعار الفائدة سبع مرات لن يأخذنا حتى إلى السعر الحيادي. فما نزال في منطقة سعر فائدة شديد الانخفاض، وهو توسعي نسبياً بالنسبة لأسعار الفائدة قصيرة الأجل".
حتى وزيرة الخزانة جانيت يلين غيّرت نبرتها؛ فقد توقَّعت أن يستمر معدل التضخم "المرتفع بدرجةٍ مزعجةٍ جداً" على مدى العام المقبل على الأقل، بعدما كانت تصرّ منذ بضعة شهور على وصف زيادة الأسعار السريعة بأنَّها انتقالية ومؤقتة.
تقلّص منحنى العائد برغم تحركات الاحتياطي الفيدرالي المتوقَّعة، كما يظهر ذلك في الفجوة بين سعر العائد على سندات أجل سنتين وأجل 10 سنوات، لكنه لم ينقلب، وهذا يشكّل دلالة تؤكد توقُّع المتعاملين ركود الاقتصاد.
ثلاثة احتمالات
قد يكون السبب في ذلك ما يبدو أنَّه انضباط في عدم التخارج الجماعي من الائتمان، ويرتبط بفرص ارتفاع أسعار الفائدة مستقبلاً أكثر من التدهور السريع في الجدارة الائتمانية للمقترضين.
خسرت سندات الشركات من الدرجة الاستثمارية نحو 8% هذا العام، متجاوزة خسارة السندات عالية المخاطرة بنسبة 5.6%، وفق مؤشرات "بلومبرغ" للسندات.
يعتقد كثير من المستثمرين أنَّ الأسواق أخذت بالحسبان تماماً زيادة أسعار الفائدة لست أو لسبع مرات في 2022. ربما كان ذلك هو الوضع أيضاً حيال المستوى الذي سترتفع إليه أسعار الفائدة. غير أنَّها لم تضع في حسبانها احتمال أن تؤدي سياسة الاحتياطي الفيدرالي فعلاً لإضعاف حركة الإقراض، وإبطاء النشاط التجاري، التي تعتبر الآليات الرئيسية في حركة السياسة النقدية.
تبدو ثلاث نتائج منطقية. الأولى؛ هي أنَّ الاحتياطي الفيدرالي سيرفع الفائدة مرات أقل مما يتوقَّعه الجميع مع تباطؤ التضخم. الثانية؛ تتمثل في أن يرفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بالدرجة المتوقَّعة نفسها، ولكن دون أن يؤدي ذلك لتدهور الأوضاع المالية أكثر ما هي عليه الآن، مما يثير تساؤلات حول مدى فاعلية سياسة التقشف النقدي في كبح التضخم. الثالثة؛ تحدد في أن يرفع الاحتياطي الفيدرالي الفائدة ست أو سبع مرات هذا العام، ثم ينقلب منحنى العائد، فيتأهب كل المتعاملين في الأسواق لركود اقتصادي.
إن أتت ضربة مزدوجة من تباطؤ الاقتصاد نتيجة سياسة الاحتياطي الفيدرالي، ومن ريح معاكسة يدفعها ركود تضخمي؛ سيصعب فهم بقاء موجة بيع الأوراق المالية عالية المخاطر سطحية كما كانت حتى الآن.