اليورو يواجه عاماً فاصلاً.. فإما كسر وإما حلّ

كي يستمر اليورو ينبغي التوصل إلى تسوية لا توافق عليها الدول الدائنة إلا حين تصبح الأضرار المتوقعة بليغة بما يكفي لدفعها إلى ذلك

time reading iconدقائق القراءة - 25
شعار اليورو قرب البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت في ألمانيا - المصدر: بلومبرغ
شعار اليورو قرب البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت في ألمانيا - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

قد يشهد هذا العام تحديد مصير اليورو، سواء كان ذلك نحو الأفضل أو الأسوأ.

عمدت البنوك المركزية إلى خفض أسعار الفائدة قصيرة الأجل إلى صفر أو أقل من صفر على مدى عقدين، سعياً لتحفيز التضخم، كما رفعت ميزانية شراء الأصول إلى مستويات لم يكن من الممكن تخيلها قبلاً.

كان البنك المركزي الأوروبي شديد الإقدام على انتهاج هذه السياسة. انحدرت أسعار الفائدة على الإيداع في منطقة اليورو إلى –0.5%، كما أثقلت ميزانيةَ البنك أصول تبلغ قيمتها 8.5 تريليون يورو (9.66 تريليون دولار)، أي ما يزيد على أربعة أضعاف مستواها في مطلع 2015.

إنّ الاختلاف بين البنك المركزي الأوروبي والبنوك المركزية الأخرى يرجع إلى هدفه الآخر الذي لا يُذكر عامة، وهو الحفاظ على سريان مشروع العملة الأوروبية الموحدة عبر منع أي زيادة مفاجئة في عوائد السندات السيادية التي تصدرها الدول الأضعف في منطقة اليورو. وكما يتضح الآن، هذا يجعل العملة الأوروبية الموحدة أقل استقراراًِ بكثير. يستطيع البنك المركزي الأوروبي أن يتظاهر بأن انخفاض أسعار الفائدة قصيرة وطويلة الأجل إلى حد جنوني كان يهدف إلى رفع مستوى التضخم حين لم يكن هناك أي تضخم، غير أن موجة صعود التضخم الأخيرة رفعت الغطاء عن هذا الادعاء الظاهري.

ارتفع التضخم 5% في ديسمبر عن مستوى العام السابق، وفق إعلان مكتب الإحصاء التابع للاتحاد الأوروبي "اليوروستات" في 7 يناير، وهو أعلى مستوى للتضخم في تاريخ منطقة اليورو.

عدم استقلال

الغريب أن البنك المركزي الأوروبي استمر بالادعاء بأن هذا الارتفاع طفرة مؤقتة.

يمكن تفهُّم عناد وتصلُّب البنك المركزي الأوروبي في ضوء الأوضاع المتطرفة الحالية في السياسة النقدية، فقط حين نقرّ بأنه لم يكن مستقلاً استقلالاً حقيقياً بأي معنى خلال الأعوام الأخيرة، وقد أصبح الآن رهن إشارة الحكومات المقترضة، خصوصاً الضعيفة منها داخل منطقة اليورو.

تعالى صوت الدول الدائنة في منطقة اليورو في الأشهر الأخيرة، وهي عموماً دول شمال أوروبا، بأنّ السياسة الحالية لا يمكن أن تستمر، أولاً لأن القلق ينتابها بسبب مستوى التضخم المحلي، وثانياً لأنها لم تعُد تحتمل دعم الدول الأكثر تبذيراً في الإنفاق.

يقضي الاتفاق الذي أُعد أواخر العام الماضي بأن ينتهي نمو ميزانية البنك المركزي الأوروبي، الذي يتوجب عليه وضع معايير واضحة لرفع أسعار الفائدة قصيرة الأجل. أولاً، يجب أن يتجه معدل التضخم الأساسي، الذي يستثني أسعار الغذاء والطاقة، نحو الارتفاع. وثانياً، يجب أن تصل توقعات التضخم لدى البنك في العامين الحالي والمقبل إلى مستوى 2% أو أكثر.

أعلن البنك المركزي في نهاية ديسمبر أنه رغم توقعات ارتفاع التضخم إلى 3.2% هذا العام فإنه سينخفض إعجازياً إلى 1.8% في العامين المقبلين.

تشكيك علني

يشكك الأعضاء الأكثر تشدداً في البنك المركزي الأوروبي علناً بهذه التنبؤات، ومن بينهم إيزابيل شنابل، ممثلة ألمانيا المؤثرة في المجلس الحاكم. قالت في 8 يناير إن الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر يرجح ألّا تنخفض أسعار الطاقة، كما تفترض توقعات قسم البحوث لدى البنك تحت قيادة فيليب لين، المفرط بالتراخي.

إذا استمرت أسعار الطاقة عند مستواها الحالي دون زيادة فإنّ تنبؤات البنك المركزي بشأن معدل التضخم ستكون أعلى كثيراً. ستفتح هذه الضغوط الباب أمام زيادة أسعار الفائدة، ربما في نهاية العام الحالي.

راهناً، ما يقوم به البنك هو كبح زيادة في ميزانية شراء الأصول. بشكل عام، لدى البنك المركزي الأوروبي حالياً ثلاثة برامج هي: برنامج شراء الأصول (APP) طويل المدى، وبرنامج الجائحة الطارئ لشراء الأصول (PEPP)، وخطة تهدف إلى تشجيع البنوك لإقراض قطاع الاقتصاد الحقيقي المعروف باسم برنامج عمليات إعادة التمويل الموجهة طويلة الأجل (TLTRO).

أُطلق برنامج الجائحة الطارئ لشراء الأصول (PEPP) مطلع 2020 لمنع انخفاض توقعات التضخم، وفق تصريحات البنك المركزي حينذاك. اشترى البنك المركزي في إطار هذا البرنامج الذي ينتظر أن ينتهي في مارس سندات بقيمة 1.5 تريليون يورو تقريباً.

بلغت قيمة مشتريات البنك المركزي الأوروبي من السندات تحت برنامجَي شراء الأصول (APP) والجائحة الطارئ (PEPP) عند ذروتها العام الماضي معاً 100 مليار يورو شهرياً. رغم أن المشتريات تحت برنامج شراء الأصول سترتفع قليلاً بهدف تعويض انتهاء برنامج الجائحة الطارئ، فإن مشتريات البنك المركزي المباشرة ستنخفض إلى 20 مليار دولار شهرياً مع نهاية هذا العام. في ضوء استمرار ارتفاع معدلات التضخم مقارنة مع ما يستهدفه البنك، وأن أسعار الفائدة ما زالت سلبية، قد يوقف البنك المركزي الأوروبي برنامج شراء الأصول نفسه مبكراً في أكتوبر.

موّل نفسك

سمح برنامج عمليات إعادة التمويل الموجهة طويلة الأجل (TLTRO) للبنوك بأن تمول نفسها بسعر فائدة يقلّ بنصف نقطة مئوية عن سعر الإيداع لدى البنك المركزي الأوروبي، الذي يبلغ حالياً -0.5%. كان غرض هذا التمويل إقراض قطاع الاقتصاد الحقيقي، غير أن الشروط التي وُضعت لتمكّن البنوك من الاقتراض بهذه التكلفة الرخيصة جداً كان يسهل استغلالها. رغم أن بعض المؤسسات استخدم البرنامج بهدف تخفيض تكلفة التمويل عندها بوجه عام، فلا شك أن مؤسسات أخرى استخدمت هذه الأموال في شراء سندات الحكومة، بل حتى سندات عالية المخاطر.

رغم أننا لا نعرف كمية هذه الأموال، فمن المحتمل أنها كمية كبيرة في ضوء أن حجم القروض القائمة وفق برنامج عمليات إعادة التمويل الموجهة طويلة الأجل (TLTRO) يبلغ نحو 2.4 تريليون يورو.

ستنتهي هذه الشروط التفضيلية بالنسبة إلى قروض تبلغ 1.2 تريليون يورو في يونيو، وإن لم تمدد -ولا يوجد سبب منطقي لذلك- فقد نكتشف قريباً كم من هذه الأموال استخدمت لشراء سندات عالية المخاطر مقارنة بسندات الحكومة.

مع ثبات العوامل الأخرى، قد تنكمش ميزانية شراء الأصول عند البنك المركزي الأوروبي بما يزيد على تريليون يورو في شهر يونيو مع تراجع دعمه غير المباشر لأسواق السندات.

معضلة إيطاليا

ما الذي سيأتي بعدئذ؟ إنّ أهمّ أسباب تلكؤ البنك المركزي الأوروبي بإنهاء هذه البرامج هو أن كثيرين من أعضاء مجلسه الحاكم يخشون أثر ذلك في عوائد السندات، خصوصاً سندات الدول الأعضاء الأضعف على الأطراف.

قال البنك المركزي إنه سيتدخل إن اتسعت فروق العائد بطريقة غير مبررة، لكن سيتدخل بماذا؟ ما الطرق التي تُعتبر غير مبررة؟ إنّ أهمّ مصدر للقلق هو إيطاليا: أولًا من حيث الحجم، إذ إنها إحدى أكبر أسواق السندات الحكومية في العالم، وثانياً بسبب آليات ديونها.

تُلزم بنود اتفاق الاستقرار والنمو الضعيف الدول الأعضاء أن تحاول وضع سقف للمديونية عند مستوى 60% من إجمالي ناتجها المحلي الإجمالي. شهد جميع الدول الأعضاء ارتفاعاً حاداً في المديونية تجاوز هذا المستوى على مدى العامين الماضيين، غير أن ديون إيطاليا ستتضخم إلى نحو 155% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، بزيادة نحو 50 نقطة مئوية منذ 2007.

علاوة على ذلك، تعتمد بنوك إيطاليا بشدة على برنامج عمليات إعادة التمويل الموجهة طويلة الأجل (TLTRO) في تمويلاتها، في ظل تردد البنوك في أماكن أخرى بإقراضها. بلغت الحكومات الإيطالية المتعاقبة حالاً من انعدام الفاعلية، لدرجة أن السياسيين لا يفعلون شيئاً لإصلاح النظام المالي أو ما سواه.

ومع نفاد ما لدى البنك المركزي الأوروبي من كل مخدّر للأسواق، قد لا يمكن تجنب وقوع أزمة من نوع ما هذا العام. استغلّ بعض الدول، خصوصاً الدول المدينة ومن بينها فرنسا، ثغرات وعيوب القواعد التي صُممت لمنع الاستغلال والاتكال على الدول الدائنة. مع افتراض اعتراض دول شمال أوروبا على استمرار هذا الوضع فإنّ قدراً كبيراً جداً من مخاطر الائتمان يتراكم منذ فترة، مع إجحاف شديد في تعويض المستثمرين عنه بما يناسب.

مع ابتعاد البنك المركزي الأوروبي وخروجه من السوق، فإنني أفترض أن كل ذلك سيصبح واضحاً تماماً وسترتفع علاوة المخاطرة، أي فروق العائد، بالنسبة إلى المقترضين الأعلى خطراً، ربما بشكل مفرط.

إغضاب ألمانيا والشرق

قد توفر ثلاث طرق حلاً لهذه المسألة بشكل عام، الأولى هي أن تتعثر إيطاليا في سداد الديون، وبما أن جانباً كبيراً من ديونها محلي، فمعنى ذلك بالضرورة أن الحكومة ستحمّل مواطنيها هذه الخسائر، سأعتبر هذا أمراً إشكالياً. الطريقة الثانية هي أن تخرج إيطاليا من منطقة اليورو. يؤدي ذلك من المنظور الإيطالي إلى تحميل الدول الدائنة الخسائر، مثل ألمانيا، عبر أرصدة قائمة في نظام "التسوية" الفوري (تارغت2) بين البنوك عبر أموال البنك المركزي. ستجعل حدّة هذا الخيار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أشبه بشجار بين أطفال.

قد يكون الخيار المتبقي هو التوزيع التبادلي للديون القائمة ونقلها من عهدة البنك المركزي الأوروبي إلى مكتب لإدارة الديون والتعهد بأداء أفضل في المستقبل.

وقّع كل من رئيس وزراء إيطاليا ماريو دراغي، الذي سبق أن ترأس البنك المركزي الأوروبي، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يواجه ورطة ويستعدّ لانتخابات في الربيع، خطاباً مشتركاً قبل عيد الميلاد مباشرة يطالب ضمنياً بإحالة كل ديون حكومات منطقة اليورو منذ 2007 إلى مكتب من هذا النوع.

ستغضب ألمانيا غضباً شديداً إن حدث ذلك، وكذلك دول شرق أوروبا التي أمضت سنوات بتخفيض ديونها من أجل الانضمام إلى منطقة العملة الموحدة.

كي يعيش اليورو ويستمر، ينبغي التوصل إلى تسوية من نوع ما. المشكلة هي أنني لا أتوقع أن توافق الدول الدائنة على هذه المساومة إلا حين تصبح الأضرار المتوقعة بليغة بما يكفي لدفعها إلى ذلك. أظن أن ذلك سيكون حين تهدد إيطاليا بترك اليورو.

هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات
النشرة البريدية
تعرف على أحدث الأخبار والتحليلات من اقتصاد الشرق مع بلومبرغ
سجل الان

فرانكفورت

7 دقائق

6°C
غيوم قاتمة
العظمى / الصغرى /
7.4 كم/س
86%
الآراء الأكثر قراءة