بلومبرغ
يخاطر الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ويضع نفسه في مأزق بغض النظر عن الذي سيقود البنك بعد فبراير سواء جيروم باول، أو لايل برينارد.
دفع تسجيل تضخم أسعار المستهلكين لأسرع وتيرة ارتفاع منذ عام 1990، وبلوغ توقُّعات ارتفاع الأسعار أعلى مستوياتها في 8 سنوات إلى تراجع ثقة صانعي السياسة النقدية بشأن احتمال تباطؤ التضخم في الأشهر المقبلة، كما كانوا يعتقدون من قبل.
وقد تؤدي تلك المتغيرات إلى تحولهم وبسرعة إلى تطبيق سياسة نقدية أكثر تشدداً في أقرب وقت في ديسمبر، إذ من المتوقَّع إرسال إشارات على تقليص أسرع لمشتريات السندات، وتحديث التوقُّعات الخاصة ببدء دورة رفع أسعار الفائدة بشكل أكثر قوة مما كان متوقَّعاً في السابق.
متى يرفع الاحتياطي الفيدرالي الفائدة؟
لكن يبقى التحدي متمثلاً في توقيت وكيفية رفع أسعار الفائدة التي تقترب من الصفر في عام 2022. إذ تقوم الأسواق بتسعير رفع الفائدة في أقرب وقت في يوليو، كما تخلص الاقتصاديون في "غولدمان ساكس"، و"جي بي مورغان" من دعواتهم "الاحتياطي الفيدرالي" بالإبقاء على أسعار الفائدة ثابتة حتى عام 2023.
زاد الاستحسان الكبير الذي ناله "الاحتياطي الفيدرالي" نتيجة تثبيت سياسته في أغسطس وسبتمبر 2020 من تعقيد صنع القرار، وزاد من التحديات التي يواجهها الفيدرالي.
وقد اتفق رئيس مجلس الاحتياطي باول، والمحافظة برينارد، بالإضافة إلى زملائهما، على أنَّه من "المناسب" إبقاء تكلفة الاقتراض منخفضة للغاية حتى يتم الوصول للحد الأقصى لمعدلات التوظيف وخلق فرص العمل، الأمر الذي اعتبروه "هدفاً شاملاً، وواسع النطاق".
ركز المسؤولون بشكل كبير على النطاق الأوسع للحد الأقصى للتوظيف، وزيادة أهمية المكاسب التي تحققها بعض الشراح المختلفة. فقد تم الاعتراف خلال جلسات استماع بأنَّ زيادة مخاوف التضخم عن الحد الطبيعي في الماضي قد تكون عرقلت تحسن سوق العمل لملايين الأمريكيين، وخاصة أصحاب الدخل المنخفض.
قفزات التضخم
لم يأخذ المسؤولون في اعتبارهم آنذاك الارتفاع الكبير الذي نشهده حالياً في التضخم، وهذا ما وضعهم في مأزق، ومواجهة اتهامات بالوقوف وراء الوضع الحالي نتيجة الاعتماد على توقُّعات مبنية على وجهة نظر سابقة لم تعد مجدية في الوقت الحالي.
عدم الالتزام باستراتيجية تحقيق مكاسب أوسع في التوظيف قد يثير تساؤلات بشأن ما يريده "الاحتياطي الفيدرالي"، ويتسبَّب في رد فعل عنيف من "الديمقراطيين التقدميين" الأكثر انتقاداً للتركيز على الأسعار.
لكنَّ السماح باستمرار ارتفاع التضخم قد يعني رفع الفائدة بشكل أكبر بعد ذلك، مما يؤدي إلى خسارة المكاسب التي تحقَّقت على صعيد التوظيف، وخفض معدل البطالة لأقل من 5%.
تقول ديان سونك كبيرة الاقتصاديين في "غرانت ثورنتون": "الجزء الصعب بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي عندما يتعين عليه كبح التضخم قبل الوصول للتوظيف الشامل واسع النطاق. فقد تم وضع إطار عمل بناءً على اقتصاد بطيء الحركة، وليس على اقتصاد يتغير بوتيرة متسارعة".
وينصب التركيز في الوقت الحالي على من سيقود "الاحتياطي الفيدرالي" بداية من فبراير المقبل. إذ سيختار بايدن بين باول وبرينارد، ويُتوقَّع الإعلان عن القرار قبل عطلة عيد الشكر يوم الخميس.
لعب كلٌّ من باول وبرينارد دوراً في صياغة الاستراتيجية الجديدة، وبالتالي؛ سيتعين على من يقود الفيدرالي لأربع سنوات مقبلة تحمُّل مسؤولية تطبيق تلك الاستراتيجية، ومواءمتها مع سياسة "الاحتياطي الفيدرالي".
بعد أن قال باول في وقت مبكر من انتشار الوباء، إنَّه يسعى للعودة لتسجيل مؤشرات قوية للغاية، كما كان في عام 2019؛ عاد في 3 نوفمبر ليشير إلى أنَّ أهداف "الاحتياطي الفيدرالي" متغيرة. ليبدو باول وكأنَّه خفَّض طموحاته السابقة المتعلقة بتحقيق انتعاش سريع وكامل في سوق العمل. لكنَّه لم يكن واضحاً وقتها بشأن الكيفية التي فاضل بها بين أهداف التضخم والوظائف.
"تواضع" عرض العمل
قال باول في المؤتمر الصحفي الذي عقده بعد اجتماع "الاحتياطي الفيدرالي": "ماتزال هناك فرصة للوصول للحد الأقصى من فرص العمل".
وأضاف: "اعتقدنا أنَّ إعادة فتح المدارس، وتوقف إعانات البطالة، قد يزيدان المعروض من فرص العمل الإضافية، ولكن لا يبدو أنَّ ذلك قد حدث، إذ يبقى هناك متسع لكثير من الزيادات المتواضعة في المعروض من العمالة في الوقت الذي نفكر فيه بتحقيق الحد الأقصى للتوظيف".
قالت برينارد التي لا تعقد مؤتمرات صحفية، وتتحدث بشكل أقل بكثير من باول في تصريحاتها في سبتمبر، إنَّها لا ترى أيَّ سبب لعدم وصول التوظيف لمستويات قوية أو أقوى، مما كانت عليه قبل الوباء على خلاف البيانات التي بالكاد تُظهر زيادة طفيفة في الأعداد التي تنضم للقوى العاملة لأكثر من عام.
تستعد برينارد لارتفاع التضخم، لكنَّها ترى أنَّ القوى الهيكلية يمكن أن تُعيد الاقتصاد إلى الركود مع انخفاض التضخم بمجرد زوال أثر قيود العرض المتعلقة بكوفيد-19.
يتشكك زملاء برينارد بتلك الرؤية. فقد قال المحافظ كريستوفر والر، يوم الجمعة الماضي، إنَّ بيانات الوظائف القوية والتضخم المتدهورة تدفعه لتفضيل وتيرة أسرع لخفض مشتريات الأصول، وزيادات أسرع للفائدة العام المقبل.
كما قال نائب الرئيس ريتشارد كلاريدا، إنَّه قد يكون من المناسب لصانعي السياسة النقدية مناقشة إمكانية تسريع وتيرة الخفض التدريجي لمشتريات السندات الشهر المقبل.
انقسم بالتساوي صانعو السياسة النقدية في "الاحتياطي الفيدرالي" في سبتمبر بشأن توقُّعاتهم حول رفع أسعار الفائدة في عام 2022. ومن المؤكد تقريباً أن يصل متوسط التوقُّعات في ديسمبر إلى زيادة أسعار الفائدة مرة واحدة على الأقل خلال العام المقبل.
مكاسب التوظيف
من ناحية أخرى، تبدو سوق العمل قوية، فقد أضاف أصحاب العمل 582 ألف وظيفة شهرياً في المتوسط هذا العام، مما دفع معدل البطالة إلى 4.6%.
لكنَّ البيانات التفصيلية، ومن بينها معدلات بطالة الأقليات، ومشاركة النساء في سن 25 - 54 عاماً تعكس وجود ركود، مع الأخذ في الاعتبار حالات التعافي في الوظائف كمؤشر؛ فقد يستغرق الأمر عدة أشهر لتعافي فرص عمل المهمشين.
تبقى هناك مشكلة تتعلق بإطار سياسة "الاحتياطي الفيدرالي" التي لا تُقدم حلولاً لكيفية موازنة المخاطر بين التضخم والتوظيف، مما أثار انتقادات الاقتصاديين مثل جيسون فورمان من "جامعة هارفارد" الذي قاد "مجلس المستشارين الاقتصاديين" للرئيس السابق باراك أوباما.
قال فورمان في ورقة بحثية صادرة يوم الخميس الماضي من "معهد بيترسون للاقتصاد الدولي" الذي يعمل زميلاً له: "لقد فشل رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي في توضيح كيفية تعامل الفيدرالي مع ما تعكسه المؤشرات الاقتصادية من دلالات متباينة لعدم توقُّعهم احتمال حدوث ذلك". لكنَّ الأمر يحدث كثيراً، وهناك حاجة لمزيد من الوضوح بذلك الشأن.
يقول ديفيد ويلكوكس، من "بلومبرغ إيكونوميكس"، وكبير خبراء التوقُّعات السابق في "الاحتياطي الفيدرالي"، إنَّ إطار سياسة الفيدرالي قد تكون غامضة بدرجة كافية تسمح له برفع أسعار الفائدة قبل أن تكون أسواق العمل قد تشددت بشأن توظيف بعض الشرائح الديموغرافية.
وأضاف ويلكوكس: "سيكون أمراً محرجاً بالنسبة لهم التخلص من ذلك الشرط بلا شك، ولكنْ هناك احتمال حدوث ذلك". وذكر أنَّ البيان قال: "يتوقَّع أن يكون من المناسب" إبقاء سعر الفائدة عند الصفر حتى يتم تحقيق الحد الأقصى من التوظيف.
وأكمل ويلكوكس قائلاً: "هذا لايؤكد أنَّ اللجنة ستبقى عند الصفر، فالأمور غير المتوقَّعة قد تحدث".