يتعلَّق غضب فرنسا من إلغاء عقدها للغواصات، البالغة قيمته 65 مليار دولار بالسرية بقدر ما يتعلَّق بالتخلي عنها. لا ينبغي أن يكون الرئيس إيمانويل ماكرون منزعجاً للغاية؛ فالحيلة جزء أساسي من أيِّ عمل يعيد تشكيل العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية. لم يكن هناك أي حافز لأستراليا، أو الولايات المتحدة، أو المملكة المتحدة للإعلان مقدَّماً عن خطتهم لاستبعاد الفرنسيين، واستخدام التكنولوجيا الأمريكية والبريطانية لتطوير أسطول يعمل بالطاقة النووية في أستراليا.
إذا كنت ستنقلب أو تضغط بشدَّة على أمر موجود، سواء كان مالياً أو دبلوماسياً، فمن الضروري تجنُّب الحديث عنه علناً في وقت مبكر جداً. يفضَّل عدم النطق بكلمة حتى آخر لحظة ممكنة. وحتى في هذه الحالة، زن الأقوال بعناية؛ بشكل تكون فيه وسائل الإعلام وأصحاب المصلحة على دراية بها، ولكن دون وقت كافٍ للتعبئة بطريقة فعَّالة ضدها.
التغيير الكبير يزعج الدوائر القوية. وكلما طال أمد المفاوضات، وزاد عدد الأشخاص الذين انضموا إلى القاعة، زاد خطر الانهيار. كان هذا صحيحاً بالنسبة إلى الاضطرابات في آسيا، وتلك التي أثَّرت فيها، على مدى عقود. تورَّطت باريس، وواشنطن، وكانبيرا في أكثر من واحدة. إنَّ السرية كانت ضرورية. يجب على ماكرون أن يأخذ في الاعتبار ذلك عند الغضب من استبعاده من الصفقة البحرية الأسبوع الماضي.
اتفاق بلازا
منذ ما يقرب من 36 عاماً، في أواخر سبتمبر 1985، كشفت الولايات المتحدة وأربعة من الحلفاء -بما في ذلك فرنسا- النقاب عمَّا أصبح يُعرف باسم اتفاق بلازا، على اسم فندق في نيويورك، إذ جرى توقيع الاتفاقية شديدة السرية حتى الآن من قبل وزراء المالية. الاتفاقية من بنات أفكار وزير الخزانة الأمريكي آنذاك جيمس بيكر، فقد سعى الاتفاق إلى خفضٍ لقيمة الدولار، ورفع قيمة الين الياباني، والمارك الألماني السابق لألمانيا الغربية. اتفاقية بلازا، التي كان لها تأثير عميق على اقتصاد اليابان، وبدأت عصر دبلوماسية العملات متعددة الأطراف عالية المخاطر؛ كانت سرية في التصميم. كل اجتماع لوزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية يحمل الآن بصماتها. غالباً ما يجري انتقاد البيانات الرسمية في سياق اتفاقية بلازا: طفل، لمحة، ظل، وما إلى ذلك. (كانت اليابان طرفاً في اتفاقية بلازا، على الرغم من أنَّ بعض السياسيين والاقتصاديين اليابانيين، قالوا لاحقاً، إنَّهم كانوا غير مستعدين لعواقبها).
كان التخفي أساسياً في ترتيب الأمر، كما كتب بيتر بيكر وسوزان غلاسر في سيرتهما الذاتية عن بيكر، "الرجل الذي حكم واشنطن" ، التي نُشرت العام الماضي. لقد شرع سراً في صياغة اتفاقية مع القوى الاقتصادية الرائدة الأخرى في العالم لتنسيق عملاتها. لفعل ذلك؛ كان عليه أن يخفي كل الجهود عن الجمهور خشية أن يتسبَّب التسرُّب في إثارة تكهنات غاضبة في السوق. جرى إخبار الصحفيين فقط بمجرد عقد الاجتماع يوم الأحد، عندما كانت مكاتب التداول مغلقة.
تجربة أستراليا وإندونيسيا
إنَّ نهج إخفاء الخنجر في العباءة أمر حيوي في الاستراتيجية العسكرية، كما هو الحال في فنِّ الحكم المالي. مرة أخرى، الخبرة في آسيا، ومع أحد اللاعبين في ملحمة الغواصة مفيدة. خلال الجزء الأكبر من النصف الثاني من القرن العشرين، كانت علاقات أستراليا مع إندونيسيا متوترة. بدأ الدفء يتسرَّب إليها في أوائل التسعينيات، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنَّ أستراليا أرادت الانخراط في الفرص الاقتصادية والدبلوماسية التي قدَّمتها نهاية الحرب الباردة. ما كان مفقوداً كان رابطاً استراتيجياً يحمل مغزى. أراد بول كيتنغ، رئيس وزراء أستراليا في الفترة من عام 1991 إلى عام 1996، تغيير ذلك، وبدأ التفاوض سراً على اتفاقية أمنية مع الزعيم الإندونيسي سوهارتو قبل سنوات من توقيع الاتفاقية في عام 1995.
أخبر كيتنغ لاحقاً كيري أوبراين من هيئة الإذاعة الأسترالية أنَّ السرية أمر لا غنى عنه: "لو كان معروفاً لما حدث ببساطة. احتاج سوهارتو إلى وقت للالتفاف حول كل القوى في إندونيسيا لتحقيق شيء كهذا. لم نسمع أي شيء لفترة طويلة، واعتقدنا أنَّه أسقطه من حساباته تماماً". برغم أنَّه خفَّض درجة الاتفاقية بعد مغادرة الرجلين لمنصبهما، كانت السرية ضرورية لتحقيقها في المقام الأول. (كيتنغ معارض لاتفاق الغواصات مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ويقول، إنَّ أستراليا تربط نفسها بشكل وثيق جداً بواشنطن على صعيد معارضة الصين).
يجب أن يتذكَّر ماكرون أيضاً أنَّ مبادرات فرنسا في المحيط الهادئ لم تكن دائماً على المستوى. في عام 1985، فخخ عملاء فرنسيون سفينة "غرين بيس" رينبو واريور أثناء رسوها في أوكلاند، مما أسفر عن مقتل شخص واحد. كانت السفينة في رحلة للاحتجاج على التجارب النووية الفرنسية في جنوب المحيط الهادئ. نفت باريس في البداية أي تورط لها في التفجير، لكنَّ السلطات النيوزيلندية ألقت القبض على ضباط من أجهزة الأمن الفرنسية وأدانتهم. واعترفت فرنسا بدورها واعتذرت. هل أعطت فرنسا نيوزيلندا تنبيهاً حول نواياها لتنفيذ أعمال تخريبية؟
يمكن لفرنسا أن تشكو من كل ما تريده كونها تعرَّضت لـ"طعن في الظهر" ، لكن ماكرون يعرف أنَّه لكي تنجح الولايات المتحدة، وبريطانيا، وأستراليا في اتفاقهم، يجب استبعاد باريس منه. ربما حان الوقت لتقليل نهج جون لو كاريه، وممارسة المزيد من السياسة الواقعية.